دليلة: سوريا غير قابلة للتقسيم وما يظهر تقسيما الأن هو احتلال

هيئة التحريرآخر تحديث :
676178 267760 Org Qu50 RT1600x1024 OS945x532 RD945x532

676178 267760 Org Qu50 RT1600x1024 OS945x532 RD945x532

الدكتور عارف دليلة، ليس اكاديميا سوريا فقط، بل هو أحد أهم الشخصيّات في حركة تغيير و مناهضة الاستبداد، لم يُحارب فقط لأنه معارض وانما حورب لأنه أراد تغيير مسار

التخطيط الاقتصادي، وهو يعني وضع العصي أمام الفساد. فصل من التدريس ونفي الى خارج البلاد، وعاد وقدم الابحاث والدراسات، وبقي على صلة وتواصل مع أهل التغيير. في حوارنا أدناه يبحر دليلة، الاكاديمي السوري الذي يعيش حارج البلاد وقريبا منها، في أسباب العلات، بدءاً من الثورة وانتهاءاً بالحال الذي نحن فيه. و يكشف لنا علل البلاد والحكام. في ادناه نص حوارنا معه:

* بعد 6 سنوات من الحرب والدمار في سوريا كيف يرى الدكتور عارف دليلة مستقبل سوريا؟

– يرجع اس الازمة السورية الى التنكر لدى الممسكين برقبة التطور لضرورات الاصلاح والتغيير، مما يحول السلطة تدريجيا الى عائق للتقدم ويجعلها، ليس فقط قوة محافظة تعمل على تثبيت الواقع الذي فصلته على قياس مصلحتها الجماعية او مصالح افرادها او كتلها، بل وبمقدار تورم هذه المصالح الخاصة على حساب ضمور المصلحة العامة للدولة والمجتمع، تتحول السلطة الى قوة رجعية تشد النظام العام الى الوراء، وتسفر هذه الرجعية عن التطرف في مقاومة التطور بمقدار احساس السلطة المهيمنة بتنامي المطالب الشعبية بضرورة الانطلاق الى الامام الى ان يصل هذا التناقض الى الانفجار . يعتبر الاستبداد والفساد، الناتجان الرئيسان للمحافظة والرجعية، مصدر ومحور الانفجار، كحل لاعقلاني للتناقض، بدلا من الحل العقلاني المتمثل بالاصلاح والتغيير الواعي . انها قانونية عامة للتطور الاجتماعي يؤدي تجاهلها وبالاحرى العمل بعكس مقتضاها ومتطلباتها، الى كارثة مثل تلك التي اجتاحت سورية على مدى السنوات الست الاخيرة والتي ماتزال وللاسف مجهولة النهاية .

*كنت احد الفاعلين الرئيسين في ربيع دمشق 2001-2002 واحد سجناء ذلك الربيع ، فكيف تزحلقت سورية من الربيع الى الشتاء الذي مايزال مستمرا منذ ست سنوات؟ وما علاقة الاصلاح الاقتصادي الذي كانت السلطة انذاك تتحدث عنه بالاصلاح السياسي الذي اصبح مطلب الثورة السورية؟

– النظام الاقتصادي- الاجتماعي مختبر كبير ومعقد جدا ولا يمكن الفصل بين عناصر ومكونات تطوره كما يجري الامر في مختبر فيزيائي او كيميائي يتعامل مع المواد الطبيعية . فقط منهجيا، يمكن اجراء هذا التفكيك والفصل بين عناصر عملية التطور الاجتماعي بمساعدة التجريد العلمي لتحييد او تثبيت بعض هذه العناصر لاغراض التحليل، ليجري بعد ذلك اعادة الدمج والتركيب وفقا لنتائج التحليل النظري وصولا الى الصورة الكلية لما هو عليه النظام القائم ومن ثم تحديد المطلوب عمله في تطوير عناصره للوصول الى الشكل المطلوب. ويجب القول هنا ان الارادوية تشكل خطرا اكبر عندما تتخذ شكل هندسة اجتماعية مصنعية متجاهلة الفروق بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة الطبيعية .

وبصدد مثالنا في سورية، هناك وجهات نظر كثيرة وشديدة الاختلاف حول كل التطورات التي حصلت منذ الاستقلال عام 1946 وحتى اليوم، مع تبدل الظروف والمصالح وقوى الحكم والمحكومين، والاقتصادي والسياسي، والداخلي والاقليمي والدولي، الخ وبالطبع لن نتناول كل هذه الجوانب وانما سنركز على بعضها فقط .

عندما ننظر الى الماضي من المكان الذي نقف فيه الان نراه بغير العين التي كنا نراه فيها في حينه او في فترات سابقة اخرى. المسؤولون الروس، الرئيس بوتين او الوزير لافروف، مثلا، يقولون الان “لو لم تحصل ثورة اكتوبر الشيوعية التي حولت روسيا القيصرية الى اتحاد سوفييتي لكانت روسيا الان في مصاف الولايات المتحدة”! وفي سورية هناك من يقول” لو استمرت سورية بالتطور على وتيرة الخمسينات الماضية ووفق النظام الليبرالي لأصبحت في مصاف الدول المتقدمة”! وكذلك في مصر يقولون” لو نجحت عملية التقدم الصناعي والعلمي والاداري التي قادها محمد علي الكبير في القرن الثامن عشر لكانت مصر يابان الشرق الاوسط “الخ . نعود ونقول: التغير الاجتماعي يختلف عن التغير الطبيعي بمقدار اختلاف مادته وهي المجتمع بثقافته وتقاليده ووو الخ وخليته وهو الفرد العاقل (او المريض او المجنون !!!) عن الطبيعة غير العاقلة او الواعي. لكن هذا لا يلغي، بل لا يقلل من قيمة الماضي وضرورة اعادة النظر اليه و ليس بالاحتباس بين دفتيه وانما بأخذ العبر والدروس المفيدة منه لتسريع الخطى نحو المستقبل . مثلا، اهم هذه الدروس من وجهة نظري هو الأثر الكبير على وتيرة التطور الاجتماعي -الاقتصادي واتجاهاته الذي يمكن احداثه بالتدخل الارادي المباشر، متراوحا بين اقصى الايجابية واقصى السلبية، تبعا لمختلف المؤثرات، وهنا تتجلى الفروق في القيادة ودور العامل الذاتي في التطور بطريقته في التعامل مع جميع عناصر وجوانب التطور المجتمعي، ويبقي المعيار الاصدق في الحكم هو نتائج الاعمال، والتي للاسف الشديد، تعمل القوى المحافظة او الرجعية على طمسها وتجاهلها واستبعاد النزول عند مقتضياته، وما يسمى السير بعكس عقارب الساعة ! لنتجاوز االان مراحل ماقبل عام 2000، ليس انتقاصا من اهميتها، بل رغم اهميتها البالغة، ولنبدأ ب “ربيع دمشق”.

في حزيران عام 2000 انتعش الامل الذي بقي حبيسا معنفا ثلاثين عاما ضاعت خلالها تضحيات عشرات الاف المواطنات والمواطنين الذي لم يستطيعوا ان يستوعبوا بقاء سورية رهينة سلطة مغرقة بالاستبداد والتزوير والفساد ايمانا بانه سيجري حتما اطلاق سراح الاصلاح والتغيير، بشكل تدريجي وباسلوب واع وسلمي، مأخوذين احيانا ببعض نثرات الخطاب الرسمي والاعلامي المحملة بالوعود، وايمانا بان لدى سورية ما يكفي من المواطنين اصحاب الخبرات الواعين لضرورات التغيير الذين يستطيعون، مهما اختلفت آراؤهم واستقطاباتهم، ان يختاروا الاشكال والوسائل الانسب التي تمكن البلاد من التعويض عن الضمور الذي اعتراها خلال ثلاثين عاما وسبب تخلفها كثيرا في جميع ميادين التطور الاقتصادي والاجتماعي. ولكن سرعان ما برزت الفجوة بين تصورات السلطة الممسكة بمقدرات البلاد والتي كانت قد اصبحت مع امتداد الزمن مجرد سلطة امنية عميقة الفساد والاستبداد وشديدة الانحصار وبين آمال وتطلعات وطموحات النخب والجماهير الواسعة كثيرة الحرمان والمعاناة، حتى ضاق القميص (السلطة الخانقة ) بالجسد (النامي والمتفتح )، ومن الطبيعي ان يظهر نمو الجسد المنفلت، بعد احتباس ثلاثة عقود، متسارعا بما يفوق قدرات السلطة الضيقة والقاصرة جدا امكانيات ووعيا على ملاحقة تفتحه وتعبيراته والامساك بها برغبة اعادتها من جديد الى القفص الخانق، بعد ان حررت نفسها ذهنيا من ادمان الاحتباس داخله. ولم تر السلطة خشبة نجاة تتعلق بها سوى طرح شعار الاصلاح الاقتصادي والتظاهر بتكثيف العمل الجاد عليه لشد اهتمام الجماهير والنخب نحوه ولتغطية اصرارها على استبعاد الاصلاح السياسي الذي لم يعد يقبل باقل من حرية الراي والتعبير والاعلام والنشر وتحرير الحياة السياسية والحزبية والغاء السجون السياسية وتحرير نزلائها وتعويض واعادة الاعتبار لضحاياها السابقين والغاء كل الاحكام والقرارات والمؤسسات المانعة للحريات واتهام دعاتها بالهرطقة وحتى بالخيانة الوطنية، بإصرارهم عليه، وبالأخص وفق ما جاء في بيان ال99 او في الوثيقة السياسية التي نشرتها لجان احياء المجتمع المدني والتي كنت احد اعضاء مكتبها المؤلف من خمسة عشر عضوا او ما سمي بوثيقة الالف (وهذا الرقم اقل بكثير من عدد الموقعين على الوثيقة من مختلف انحاء سورية(.

* في موضوع الاصلاح الاقتصادي والاصلاح السياسي، هل ثمة ما يفصل بينهما ؟

– اختصر القول بشأن الاصلاح الاقتصادي والاصلاح السياسي انه لمن سخف القول والرأي بإمكانية الفصل بينهما، فهل يمكن اجراء اصلاح اقتصادي بدون محاربة الفساد واستئصال الفاسدين؟ وهل يمكن محاربة الفساد واستئصال الفاسدين من مراكز التحكم بجميع السلطات والقرارات بدون اصلاح سياسي؟ بالطبع الجواب على السؤالين هو بالنفي مما يدل على ان الاصلاحين مكونان لعملية واحدة او عملة ذات وجهين . ولئن كان انصار عدم التغيير السياسي، اي اصحاب المصلحة في تخشب ويباس السلطة وتحجرها وتقوقعها على الحزب الواحد، حتى وهو ليس بينه وبين الحزب السياسي اي شبه، يضربون المثل بالنموذج الصيني الناجح في الاصلاح بدعوى انه يفصل بين الاصلاح الاقتصادي والاصلاح السياسي ليدعموا وجهة نظر سلطتهم بإمكانية تطبيقه في سورية، فان الرد عليهم بسيط جدا، وبالوقائع وليس باللغة والايديولوجيا . ان النمو الاقتصادي المذهل الذي حققته الصين منذ بدأت الاصلاح الاقتصادي عام 1978 والذي جعل منها اليوم ثاني اقتصاد في العالم واول دولة بحجم الفوائض والاموال الاحتياطية المتراكم والسنوي في العالم، رغم ان عدد سكانها يقارب ربع سكان العالم وما يرتبه ذلك من اعباء اقتصادية، ما كان يمكن ان يتحقق الا باستباقه باكتساب ثقة المستثمرين الصينيين والعالميين بصدق وكفاءة القيادة السياسية الصينية واحتيازها للثقة واتقانها لعملية تكييف قوانينها وممارساتها الادارية ولتطوير بنيتها التحتية وكوادرها البشرية الادارية والفنية الى المستوى العالمي الذي يجعلها جاذبة للأموال والخبرات والعقول وغير طاردة او منفرة لشيء . ان حملات مكافحة الفساد داخل الحزب والادارة الحكومية في الصين والتغييرات القانونية الخادمة لها ادت الى موجات تطهير واسعة، وكذلك التجديد الجريء في القيادات العليا الحزبية والادارية، وغير ذلك مما يجب اعتباره من اهم بنود الاصلاح السياسي .

فهل حدث في سورية شيء من ذلك الذي حدث في الصين؟ بالتأكيد لا، وانما حدث عكسه تماما! ولذلك كانت حتى النتائج الاقتصادية ماقبل 2011 بالغة السلبية في سورية. وبالأحرى الان، بعد تدمير سورية دولة وشعبا واخراجها من التاريخ والجغرافيا العالميين، هل بقي هناك عاقل يؤكد على ان استبعاد الاصلاح السياسي كان يمكن ان يطور ويحمي سورية، ليس فقط من الفشل الاقتصادي، بل ومن كارثة الاندثار والانمحاق الشامل؟ بل هل هناك انسان واحد عاقل يستطيع ان ينفي انه لو جرى تطبيق اصلاح تدريجي سياسي -اقتصادي حقيقي معاد للفساد ومحاب للشعب بكامل فئاته، من مستثمرين وعاملين وعقول وقضاة ومعلمين، حتى ابتداء من تطبيق قرارات المؤتمر القطري الخامس لحزب السلطة الذي انعقد عام 2005 ، وكنت اسمع وانا داخل زنزانتي الانفرادية وقائع المؤتمر الصحفي اليومي عن المناقشات والقرارات التي يتخذها المؤتمر والتي، على هزالتها في الاصلاح السياسي، قامت السلطة بوضعها في الادراج وأخمدت اي حديث عنها وعن التقارير الدورية التي كان يجب على القيادة ان تنشرها بخصوص تطبيقها كل ثلاثة اشهر؟؟؟

عام 2000، ايام بدايات ربيع دمشق، ارادت السلطة (الامنية ) التحقق من ميول عامة الناس وبالأخص النخب المثقفة والمسيسة نسبيا ، فتظاهرت باللامبالاة، بل بداية بالتسهيل، اتجاه عقد اجتماعات وندوات ومحاضرات ونقاشات حرة ومفتوحة،( وان كان في بيوت خاصة !)، وبعد تعبئة جيش من “الأمنيين” وزجهم في المشاركة فيها وتفنيد الانتقادات التي تقال خلالها للسياسات والممارسات السائدة وغالبا بلهجة الاتهام والتخوين والتهديد والوعيد وكان الغرض الوحيد من تيسير هذه الحشود والندوات معرفة توزيع الحظوظ بين السلطة و معارضيها، وتقدير الحدود التي يمكنها الذهاب اليها في الاصلاح لو قررت اجراءه، واضافة الى المنتديات قام مدراء المراكز الثقافية، بتكليف مسبق طبعا، بالاتصال بي ودعوتي لالقاء محاضرات مفتوحة في مراكزهم، ورغم معرفتي بان الغاية من ورائها هي استقراء الواقع واستكشاف توزع القوى والاتجاهات في صفوف الشعب، ثقة من السلطة بانه خلال ثلاثين عاما لم يكن يجري في سورية كلها انتخاب او استفتاء واحد حتى على مستوى اصغر ناد او جمعية يصلح للاستدلال به لمعرفة التوزع السياسي في سورية، وانما كان يحل محله التزوير العلني المكشوف، ولكن ما ان القيت محاضرات في مراكز صحنايا والسويداء واللاذقية وحمص والسلمية حتى تدخلت السلطة والغت دعوات مدراء مراكز محافظات اخرى بعد ان اكتفت من المعلومات التي حصدتها من وراء هذه الندوات. كانت المحاضرات مقدمة لعشرات التعليقات من المشاركين الذي اقبلوا لأول مرة خلال ثلاثين عاما ليقولوا رايهم بشكل حر في الشؤون العامة التي تحكمهم، وكان كبير المسؤولين الحكوميين (المحافظ ) وامين فرع حزب السلطة يحضرون ويردون ويدافعون عن السياسات والوقائع والممارسات. واذكر ان محافظ اللاذقية ما ان بدأ يرد على ارائي حتى علا التشويش والتصفير تقييما لآرائه مما اضطرني الى التدخل قائلا: “اننا على مدى ثلاثين عاما ونحن بانتظار هذه اللحظة الذهبية، ان يلقي معارض محاضرة في انتقاد النظام وتفنيد سياساته وممارسات مسؤوليه ومؤسساته بحضور ممثلين عنه ومشاركتهم في النقاش، ارجو ان لا تفوتوا هذه الفرصة الذهبية وانما ان نتعاون جميعا على انضاجها واستمرارها” ودعوت المحافظ لإكمال حديثه، ولأرد بدوري عليه وليشارك اكثر من 25 من الحاضرين، واصبحت هذه الندوات التي كانت تمتد لثلاث ساعات واكثر تسجل على اشرطة وتباع في المكتبات، وهو ما يذكرنا بذلك اللقاء اليتيم على مدرج جامعة دمشق بين لجنة من ستة من امناء عامين لاحزاب الجبهة وهم بمناصبهم الحكومية العليا يكلفون عام 1980 بالاجتماع بالصحفيين والكتاب واساتذة الجامعات وتجري تلك النقاشات التاريخية الحرة الجريئة جدا، وكنت احد مشاركيها، والتي رغم التأكيد في بدايتها على استمرارها وتعميمها على كل انحاء سورية، الا ان النتيجة في المناسبتين، وبعد توصل السلطة الى استنتاج بليغ جدا وهو ان حصتها في الوسط الشعبي لن تزيد عن 10% ، هي المسارعة الى بتر التجربة فورا من قبل الطرف المهيمن والاقوى وهو السلطة واخمادها باعتقال رموز المشاركين فيها لفترات طويلة جدا دون تهمة او محاكمة !

وهذا غيض من فيض يجعلنا نتساءل اليوم وبحسرة بالغة: ترى اما كان يمكن لسورية ان تتطور بطريقة طبيعية وعبر تصحيحات متتابعة وعلى طريقة التجربة والصح والخطأ وتكون في مصاف دول العالم المتقدمة بدل الانزلاق الى كارثة نورثها لأجيال قادمة لخمسين عاما على الاقل، فقط لو كانت السلطة لم تحش رؤوسها بالجشع وتأليه الذات ورفض الآخر والعجرفة الفارغة الضاربة عرض الحائط بالمصلحة الوطنية وبحقوق الشعب والمواطنين في العيش احرارا كراما في دولة متقدمة منيعة الحدود ومصانة الاركان ؟

* كنت احد الاقتصاديين الذين كانوا يتابعون بشكل حثيث، وبالأخص من خلال ندوة (الثلاثاء الاقتصادي ( التي كنتم تنظمونها في المركز الثقافي وابحاثك الاخرى بما فيها ما نشرته في جريدة “الثورة” عام 2000 عن الاصلاح الاقتصادي ومسار تطور الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي والمالي، ،كيف تقيم هذه التجربة؟

– في محاضرتي “الاقتصاد السوري : مشكلات وحلول” التي القيتها في منتدى الحوار الديمقراطي(منتدى الاتاسي) في 2/2/2001 والتي اعتقلت بعدها بأسبوع، (وهي مازالت على الانترنت بالعربية والانكليزية) قلت، وازيد الآن تفصيلا، انه كان للنظام الذي قام بعد 1970 وجهان: الوجه الاول، الاعلى والفوقي، ويحتكر القيادة العسكرية والادارة الامنية والتوجه الاستراتيجي والعلاقات الخارجية والخطاب السياسي والايديولوجي والاعلامي والحزبي، والوجه الاخر، الادنى و يختص بالإدارة التنفيذية وكل ما يتعلق بالعمل اليومي على الارض في الداخل، وعلى راسه العمل الاقتصادي بكل فروعه من ادارة القطاع العام والعمل التخطيطي والادارة المالية والنقدية وادارة التجارة الخارجية وسعر الصرف والاسعار والاجور الخ، وان العلاقة بين الوجهين، الاعلى والادنى، كانت اشبه بوحدة المتضادات، الاعلى يشكل تغطية للادني والادنى يعمل تحت غطاء من الاعلى ولكن على مبدأ عجيب غرب: “القول (الاعلى) عكس الفعل (الادنى )، والعكس بالعكس ، الفعل عكس القول، وعلى طول الخط، وهما في تحالف وتضامن وتعاضد عز مثيله! فجميع ما يقال كان يترجم على ارض الواقع عكسيا، الى درجة ” تدويخ “الناس وتعجيزهم عن تحديد ايهما هو الوجه الحقيقي للنظام: الوجه القائل (الخطابي الشعاراتي) ام الوجه الفاعل المضاد (التنفيذي العملياتي) وكان التناقض الفاقع بينهما يسهل عملية التبرير للانحرافات البالغة للمسار الواقعي عن المسار التنظيري ويسلح الانتهازيين بسلاح دفاعي جاهز للرد على الناقدين المعارضين الذين كثيرا ما كانوا ينتهون في السجون او يهربون خارج الحدود او يضطرون الي التقية والصمت، الملجأ الاوسع الذي اصبح ملجأ الاغلبية الساحقة من الشعب، الى درجة انه لم يعد هناك شيء او احد، اللهم الا ما رحم او من رحم ربك، يماهي الحق والصواب او يتوافق حتى مع ما تنص عليه مواد دستور السلطة وقوانينها نفسها بدءا بالحقوق العامة والخاصة وحتى الوقائع المعاشة، هذا دون الحديث عن التناقض الاكبر بين النظرية والتطبيق في الشعار الرئيس للنظام ” وحدة، حرية، اشتراكية” والذي اصبح على الارض في الممارسة : ضد الوحدة والحرية والاشتراكية، على طول الخط وبما ان “الاقتصاد هو التعبير المكثف عن السياسة” حسب التعريف الصحيح ل فلاديمير ايليتش لينين، فقد كنت كاقتصادي سياسي، ولست كاقتصادوي حرفي تنفيذي، اكثر من يرى ويتحسس هذا التناقض وآثاره الخطيرة على مصير الدولة والشعب في قلب هذه الوحدة الكاذبة بين القول والفعل، فكان كل همي هو الكشف عن الممارسات الانحرافية الهائلة التي كانت تؤدي الى نتائج اقتصادية اجتماعية وسياسية سلبية خطيرة على مستوى الداخل في الاقتصاد والادارة والبيئة والبنية التحتية والمستوى المعاشي والخدمات التعليمية والصحية الخ وعلى مستوى علاقات سورية الخارجية العربية والدولية المتراجعة الى ادنى المستويات السلبية اقتصاديا وسياسيا، وبشكل خاص، اضاعة الفرص الهائلة التي كان يمكن لسورية جنايتها من وراء موقع سورية الاستراتيجي الفريد في العالم كجسر بين اكبر مناطق انتاج اهم سلعة في العصر الحديث وهي الوقود الاحفوري، النفط والغاز،(الخليج العربي) وبين اهم مناطق استهلاكه (اوربا بشكل خاص)، وهذا الجسر كان لسورية المركز المحفوظ تاريخيا منذ قرون طويلة على طريق الحرير العالمي الشهير، وكانت هذة الميزة الاستراتيجية الهائلة تتحول الى نهر من الذهب ولكن لا يصب في الخزينة العامة ليرفد التنمية والرفاه العام وانما يصب في الجيوب والحسابات الخارجية الخاصة لأصحاب القرار الممسكين برقبة الدولة والشعب، كما يتأكد من الوقائع الفاقعة التي لا تخطؤها الا العيون المغشاة الطافحة بالنفعية والانتهازية .

ويضيق الحال في هذه العجالة عن التفصيل في ما جاءت به محاضراتي وما لم تجيء به عن الاعيب الحواة الاقتصادويين الى جانب ” رفاقهم ” الشركاء على قدم المساواة في جريمة اغتيال سورية جهارا نهارا على مدى نصف قرن، وان كنت اؤكد هنا ماكنت اصف به هذه العملية دائما بانها كانت عملية “هادفة وواعية “، وليست مجرد اخطاء قابلة للأخذ والرد والتصحيح ! وهذه تشكل اليوم اضاءة واضافة ضرورية لمن ما فتأوا يتحدثون صباحا مساء عن “المؤامرة الكونية” على سورية، والتي لم انفها يوما، بل اقول يجب اخذها كمعطى قائم دائما من اجل التحسب لها والعمل مسبقا بما يقطع عليها الطريق، وانما اتساءل دائما: من هو المتآمر الاكبر ؟ اليس هو ذلك الذي لايفعل غير تمهيد الارض وتعبيد الطريق واستدعاء ارباب المؤامرة ليعبروا الى الداخل وليعملوا بأدوات مهيئة داخليا لخدمتهم بحيث تظهر كفعل داخلي، وليس كعدوان خارجي، كما كان الامر ايام الاحتلال الاستعماري الذي كان يسهل على الوطنيين التوحد على اختلافهم لمحاربته ويسهل الفرز بين الوطني والخائن الامر الذي يجعله المتآمر الاكبر اليوم متعذرا .

في مثل هذه الوضعية لم يكن بإمكان التخطيط ان يحقق اي نتيجة ايجابية، بل اصبح مرتعا للفاسدين المنتفعين في السلطات المركزية المغتصبة القرار في توزيع الموارد على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية وفي الاشراف والرقابة على العمل الاقتصادي التنفيذي، مستفيدين من نظام الاحتكار السياسي القائم وغياب الرقابة الشعبية والاعلامية( بل توظيف الاعلام واجهزة القمع وتزوير الانتخابات والقضاء الفاسد لحماية الفساد واربابه وقهر اعدائه وتغييب الحق والقانون) وعدم تداول السلطة عبر الانتخابات الحرة وغير ذلك.

كل ذلك كنا نضعه على مشرحة التحليل ولكن دون ان يحرك ساكنا لدى السلطة المتخشبة حتى عندما حاولت الظهور بمظهر المعترف بصحة تقييمنا للواقع وللدور السلبي للسياسات والممارسات الرسمية في تصحيحه فشكلت اللجان للاصلاح الاداري والاقتصادي كاللجنة العليا للإصلاح الاقتصادي وكنت احد اعضاثها ال18 والتي عملت لعدة اشهر عام 2001 ، وقد اعتقلت قبل صدور تقريرها الذي قراته وانا في السجن وكان فارغا كليا من الاهتمامات الرئيسة التي ملأت جلسات عملنا وبالأخص التخلص من اسباب الانتكاسة الاقتصادية وعلى راسها الفساد الكبير سبب الركود والعطالة، الذي أصبح العائق الاكبر امام التطور الاقتصادي والاجتماعي .

والان يمكن القول بكل ثقة ان ارباب الفساد الاكبر كانوا العامل الرئيس في تحديد الخيار العسكري الكارثي للتعامل مع الازمة التي انفجرت في آذار عام 2011 والانقلاب على الخيار السياسي الاصلاحي الجذري، هذا الاصلاح المستحق بإلحاح منذ عقود، الذي كان الموئل الكفيل بحماية سورية من الانزلاق الى الكارثة، هذا الخيار الذي ماكان ليتحقق كما فعلت السلطة لاحقا، بتغييرات كاريكاتورية في الدستور وقانون الانتخابات والغاء محكمة امن الدولة التي جيء بأسوأ منها بكثير، ومن المحزن جدا ان تصبح هذه التغييرات الجذرية معترفا بها وموضوعة على راس جدول مفاوضات جنيف الجارية الان فقط و بعد ست سنوات من التهشيم الهمجي للدولة والشعب والقيم الوطنية والاخلاقية للانسان السوري وبعد بلوغ تكلفة الدمار عدة مئات من مليارات الدولات بينما لم تكن “تكلفة” الاصلاح الشامل تزيد عن تبييض الوجه، وهو التكلفة غير المحتملة، كما يبدو، عند ارباب الفساد والاستبداد، وبالأخص بعدما تكاثرت وجوههم السوداء واشكالهم المتنافسة بهمجية في اوساط مختلف القوى المسلحة التي طحنت بسلاحها المكلف جدا كل مقدرات سورية وعلى راسها البشر اهل البلاد، مستعينة عليهم بكل (زناة الارض).

* برأيك كيف يكون المخرج من هذه الكارثة خصوصا بعد انتهاء جولة جنيف 4 دون نتائج تذكر؟

اليوم ، وبعد الاعلان عن اختتام جولة جنيف الرابعة دون اي نتيجة ، وفي ظروف عدم تثبيت وقف اطلاق النار ومع ظهور اطروحات جدية لدى اطراف عديدة بتقسيم سورية ، التي كنت ومازلت اقول انها غير قابلة للتقسيم، اذ ان ما يظهر تقسيما الان ان هو الا احتلال مباشر او تشارك مع الاطراف الخارجية الطامعة في الاستراتيجيا وفي الثروات السورية بعد ان امكنهم “تنظيف” الارض من اصحابها واستملاكها دون مقابل وبلا نقاش لتحقيق اغراض ومصالح خاصة، وما كان يمكن للقوى الطامعة ان تحصل على شبر في سورية لولا تدخلها العدواني الهمجي السافر بعد مماطلتها الدائمة في المساعدة على الحل وممانعتها لأي مخرج وطني سوري وحربها على دعاته والتعاون على تحطيمهم حتى لا يبقى الا المستسلمون لما تبتغيه ثمنا لعدوانها. ان المنجى من التقسيم هو تواصل السوريين المستقلين عن التبعية العمياء لأي جهة خارجية وتوصلهم الى الاجتماع على اساس وطني، يتوافق على اعلان دستوري موقت يكون مرشدا وحاكما لعمل هيئة الحكم الانتقالية في المرحلة الانتقالية. ان المبادئ الاثني عشرة التي وضعها المفاوض الدولي ديماستورا في ما اسماها (اللاورقة ) وهو يعلن اختتام جنيف 4 تصلح ان تكون اعلانا دستوريا، والمطلوب الان تثبيت وقف القتال واتخاذ الاجراءات الانسانية الضرورية لإعادة الحياة العادية للسكان بتوفير الحاجات الضرورية لهم واولها الامن والمأوى والغذاء والكهرباء والماء والخدمات التعليمية والصحية والمؤسسات الادارية المدنية ووسائل الانتاج وكل ما يلزم لعودة المهجرين والنازحين وتامين كل شروط ممارسة العملية الانتخابية التنافسية الحرة قبل ان يتشدق احد بلفظ عبارة ان (الشعب السوري وحده صاحب القرار) وهو لم يترك وسيلة من وسائل الاجرام الا واستخدمها لازاحة هذا الشعب عن الارض التي يملك. وقد حقق جميع المعتدين على الشعب السوري مبتغاهم حتى الان ! وبقي ان يستطيع السوريون تحقيق مبتغاهم المتضمن في خطة طريق يجتمعون على وضعها متجاوزين تناقضاتهم الراهنة حتى يستطيعوا بعدها استعادة ما اقتطعه الاخرون وما يطمعون في اقتطاعه ايضا من ارضهم وحقوقهم !

* كيف ترى وضع الاقتصاد السوري اليوم، وهل تتوفر الامكانيات اللازمة لإعادة الاعمار ام ان سورية ستكون بحاجة الى ” خطة مارشال ” دولية لكي تقف على رجليها من جديد ، والى متى يستطيع السوريون تحمل البطالة والفاقة والشروط القاسية للمعيشة التي يعانونها منذ سنوات ؟

– كان الاقتصاد السوري يعاني الكثير من العلل حتى قبل عام 2011 ، لكنه منذ اواخر عام 2011 لم يعد بالإمكان الحديث عن اقتصاد وطني سوري . فوسائل الانتاج وقوى الانتاج واماكن العمل والمنتجون والاسواق الداخلية والخارجية والقطاع المصرفي والنقدي والبنية التحتية وكل عناصر النظام الاقتصادي كانت، بعد الشعب والانسان في سورية ، اكبر الضحايا المستهدفة بشكل مخطط سواء من قبل الخارج الذي عاقب اول ما عاقب ليس النظام السياسي او المسؤولين عن الانفجار واشخاصهم ومصالحهم، بل تمتعت كتلة اثرياء الفساد والتجاوزات والحرب، القدماء والجدد، خلال الكارثة بفرص نمو ما كانت لتحلم بها، وانما ايضا من قبل الهمجيين الذين ابتليت بهم الارض السورية حيث انصب تخريبهم على اسس الحياة الاقتصادية للشعب، ووقعت الخسارة بكاملها على العامة الذين فقدوا فرص عملهم وشروط تجديد العملية الانتاجية لديهم واغتصبت ودمرت احتياطيات الاستهلاك الانتاجي والشخصي، فالقطاعات الاستراتيجية كانت اول ما تعرض للتدمير مثل النفط والغاز والحبوب، اضافة الى تقويض التواصل بين قطاعات الانتاج والتداول والتصريف والاستهلاك، واستنزفت جميع الاموال والثروات الجاهزة، وحتى الاثار التي خلفها الاجداد والحضارات المتعاقبة والتي لا تقدر بثمن، ونتيجة التقسيم الواقعي للبلاد بين الاطراف المتحاربة الداخلية وكذلك الخارجية اصبح حتى الانتاج المتاح، و الذي انخفض كثيرا بدوره ، يتكدس ويهدر اما بالتلف او بالاغتصاب والنهب من قبل قوى الامر الواقع، بينما ملايين المواطنين يعانون من الحاجة والفاقة والجوع وغالبيتهم فقدت بالاصل مصادر عيشها وعملها بل ومأواها . واما اداة التداول الليرة السورية فقد اصبحت موضع تلاعب مكشوف، بعد الاطاحة بعشرين مليار دولار من الاحتياطيات المتجمعة من حرمان السوريين واعتصارهم، وكل ذلك تحول ادى الى تورم لثروات المتلاعبين مع انهيار سعر صرف الليرة الى اقل من 9% مما كان عليه مطلع عام 2011 ، مع ما يعنيه ذلك من خسائر هائلة لعموم الشعب وبالأخص من ذوي الدخل المحدود ودفع قسما كبيرا من هؤلاء ممن نجى من الموت او لم يهاجر الى الخارج الى التحول الى احتياطي تنهل منه جيوش القتل والارهاب والخطف والاغتصاب من جميع الاطراف والالوان، مما زاد من تفاقم وتضخيم حجم الجرائم على مدى الساحة السورية، هذا والعالم يتفرج ان لم يصب الزيت على النار حتى يصبح اطفاؤها موازيا لاخراج سورية من الوجود !

نتيجة كل ما جرى هي استحالة التعويل على اهلية وقدرة او حتى رغبة قوى الامر الواقع في اعادة الاعمار، رغم استمرارهم في الهيمنة على الارض، وانما الامر منوط بيقظة السوريين المقهورين وتعاليهم على الشروخ التي افتعلت فيما بينهم وادراكهم السليم للواقع ولتهميشهم واستبعادهم قصدا عن تحمل المسؤولية المباشرة واتخاذ القرار، ذلك ان دورهم، وان كان يبدو الان، في ظروف الحرب الهمجية المفروضة عليهم، مغيبا او مستحيلا، سيبقى هو، وليس دور القوى الخارجية المتحالفة والمتآمرة ولا قوى الامر الواقع المحلية الفاسدة والخائنة للوطن، هو وحده الذي سيشكل خشبة الخلاص . اليقظة والايمان بوحدة المصير ورفض الخضوع للتيئيس والتفتيت ضروري كله لبداية بناء سورية الجديدة .

هيئة التنسيق الوطنية

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة