بقلم: عبد المنعم سعيد
الأصل في الموضوع السوري أنه جزء من حركة «الربيع العربي» التي سرت في الإقليم العربي منذ شتاء 2011 وشمل دولا مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، وكانت له مظاهر من القلق السياسي الحاد في دول مثل المغرب والجزائر والأردن. وبشكل أو بآخر تعاملت النظم الحاكمة في هذه الدول مع الأزمة السياسية المستحكمة في شكل مظاهرات وإضرابات ورفض بوسائل متنوعة من الإصلاح والضغط جعلتها تتجاوز المرحلة ولو إلى حين.
سوريا دخلت إلى الموجة الثورية مثل الآخرين، ولكن النظام كان مختلفا في رد فعله، فقد كان عنيفا بقسوة، أما محاولاته الإصلاحية فقد تجاوزها الزمن، وفي كل الأحوال كانت متأخرة. كان واضحا أن النظام فقد شرط القبول الذي هو أول منافذ الشرعية، ولكنه لم يفقد شرط الاستفادة من الظروف الخارجية التي أبقت إيران حليفة استراتيجية تمد بالرجال والعتاد والمال وما هو أكثر؛ والظروف الداخلية التي جعلته يلعب على مخاوف التقسيم، وانتهازية أقاليم مختلفة لم تتصور وجود فرصة أخرى لكي تتجاوز مظالم تاريخية للتهميش والاستبعاد. وسواء كان الأمر في العراق أو في لبنان فإن الجوار المباشر وجد فيما يجري في سوريا ليس أمرا سوريا بحتا يقرره السوريون؛ وإنما هو مسألة إقليمية سوف تقرر مصير الإقليم كله، بل وتعيد رسم خرائطه.
ضاعت القضية الأصلية إذن، ولم يعد الأمر هو حكم البعث الدامي على مدى عقود طويلة من الاستبداد والقهر والتعذيب، وإنما رعب وخوف من العودة إلى ما كان عليه الحال في القرن الحادي عشر الميلادي عندما كان الإقليم السوري لا يزيد عن كونه ممالك وإمارات متفرقة لا يربطها رابط إلا خيط رفيع من ولاء لولاية عباسية متهافتة. كانت تلك هي الخلفية التي جاء عليها الصليبيون فخلقت دافعا للوحدة سواء تحت حكم المماليك أو تحت الخلافة العثمانية. فالحقيقة أن اتفاقيات «سايكس بيكو» لم تكن أول من قسم سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب كما كان يذكر عن المنطقة المعروفة بالمشرق العربي تمييزا لها عن الجزيرة العربية ووادي النيل. فقد كان التقسيم سمة أساسية ظلت موجودة تحت قبضات حديدية متعددة الأشكال من الاستعمار حتى القيادات «الوطنية»، ولكن الدولة لم تولد بالمعنى الحديث، وجاءت الثورة أو الهبة لكي تضع وجودها على المحك. وكانت هذه الفرصة هي التي جاءت إلى بشار الأسد لكي يبقي على جذوة من نوع ما مشتعلة وكافية لكي يطيل ألم التغيير إلى درجة تجعل من هم في الداخل والخارج على استعداد للدخول في صفقة من نوع أو آخر.
المعضلة حتى الآن أن صفقة بشار تتضمن بقاءه وأعوانه، أو من بقي منهم في السلطة، مع استعداد لإجراء الإصلاحات اللازمة التي لا يوجد من يثق أنه على استعداد لإجرائها. لا يوجد في هذه الصفقة ما يرضي دماء الشهداء، أو يتعامل مع المعادلة التي تغيرت في التوازن الإقليمي حيث لم تعد سوريا كما كانت، والأرجح أنها لن تعود في المستقبل القريب، وهناك مولود سوري جديد يزعق بالبكاء لكي يخرج إلى الوجود.
صفقة بشار فاسدة إذن، ويمكنه أن ينتظر حتى نهاية التاريخ، ولكنه لن يكون ثابتا أبدا على رأس السلطة في سوريا. ولكن على الجانب الآخر فإن كافة الرافضين لبشار في الداخل والخارج غير قادرين على تقديم صفقة تاريخية تطيح ببشار وصحبه غير الكرام وتبقى سوريا كدولة وطنية. التفكير الاستراتيجي الخارجي لا يزال أسير مدرستين: الإطاحة بالقذافي وهذه كانت من خلال التدخل الدولي عسكريا وهذه لا يريدها أحد. والإطاحة بعلي عبد الله صالح في اليمن من خلال مبادرة مجلس التعاون الخليجي وتعاون الرئيس اليمني، وهذه لا وجود لها في سوريا حيث لا مبادرة خليجية ولا تعاون من الرئيس السوري الذي يخوض المعركة حتى نهايتها. المأزق هكذا بين فساد صفقة بشار، وعدم وجود صفقة أو حل من داخل أو خارج سوريا يعني استمرار الاحتكام إلى السلاح كما هو الحال في الصراعات السياسية المحتدمة والحادة والتي لا يوجد لدى أي من طرفي الصراع إلا العمل على هزيمة الطرف الآخر.
الثمن فادح إذن، ليس فقط دماء تسيل لأشقاء، وأرواح تصعد إلى السماء شهداء عند ربهم يرزقون وشاهدين على الرغبة في الحرية والانعتاق؛ ولكنه بداية لما سوف يأتي إن عاجلا أم آجلا عندما يعود المشرق العربي إلى أصوله الأولى لجماعات وفرق ونحل وممالك وإمارات تعيش مرارات ورغبات متوحشة للثأر. مثل ذلك ليس ضروريا على الإطلاق وهناك طرق يمكن بها الخروج من المأزق السوري. طريق منها عربي يقوم على وضع تصور متكامل من خلال الجامعة العربية تتضمن أركانه ذهاب النظام الحالي، وتكوين حكومة انتقالية تتفق على أمر واحد هو بقاء سوريا كدولة وطنية، والحصول على الموافقة الإقليمية والدولية على ذلك. مثل ذلك يمكنه الحصول على موافقة أغلبية المجتمع الدولي، ومن يبق خارج الاتفاق سوف يكون منعزلا يطلب أحيانا الترضية في مجال ونطاق آخر. مثل هذه الحكومة تفرض سيطرتها تدريجيا على المناطق المحررة داخل سوريا وتجري حمايتها من خلال حظر جوي مثل ذلك الذي جرى على شمال العراق، على أن يكون هذا الحظر من دول عربية وإسلامية. ويأخذ هذا الطريق الشرعية الدولية اللازمة من مجلس الأمن والمنظمات العالمية المختصة. مثل هذا الحل لن يجد سبيلا إلى النجاح من دون إقناع العراق ولبنان بأن سقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة تفكك كليهما، بل إن الحقيقة أن بقاءه هو الذي سوف يؤدي إلى ذلك، ومن ثم فإن إقامة «الحجر» على النظام السوري هي السبيل للحفاظ على البلدين.
بقيت مسألة ربما لا تخص سوريا مباشرة، ولكنها تعيدنا إلى تجربة مماثلة عاشها الأوروبيون في العصور الوسطى عندما جرت عمليات تفكيك الدول الأوروبية بسبب اضطهاد الأقليات، ونزاعات الحدود المترتبة عليها. وكان الحل هو صلح وستفاليا 1648 الذي احترم الحدود القائمة على أنها واقعة بين دول وطنية لا بد أن تحترم فيها حقوق الأقليات التي لا يصير لها حق التواصل عبر الحدود لإنشاء دول جديدة تؤدي إلى المنازعات والصراعات الممتدة لسنوات طويلة في التاريخ. المسألة ببساطة أننا نحتاج «عهد وستفاليا» عربيا مصدقا عليه دوليا وإقليميا ومعترفا به مؤسسيا في العالم. الموضوع ليس سهلا بالطبع، ولكن كل البدائل لا تقل عنها صعوبة، وربما كان هذا ما يريده النظام السوري، وهو أن تصل كل البدائل إلى طريق مسدود فيكون هو الحل الأخير الباقي.