بقلم: وليد عبد الحي
شكّلت الأزمة السورية المستمرة منذ عام 2011 نقطة اشتباك بين نظم إقليمية ونظم دولية، وامتزج التنافس الدبلوماسي بين أطراف دولية وإقليمية بعراك عضوي على الساحة السورية، وتبدّى الفارق بين سياسات إدارة النشاط الدبلوماسي اليومي وبين النشاط الدبلوماسي في لحظات التحولات الإستراتيجية، وهو ما جعل الكثير من المحللين الذين ألِفوا إيقاع الدبلوماسية اليومية لبعض القوى الكبرى -روسيا والصين- يُسقطون هذا الإيقاع على دبلوماسية لحظات التحول الإستراتيجية، فأخذتهم مفاجآت التغير.
التحولات في الدبلوماسية الصينية والروسية:
لقد شكّلت مواقف كل من روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية تجاه الأزمة السورية مفاجأة للكثير من المراقبين نظرًا لوقوعهم أسرى الاتجاه التاريخي الذي أخذته دبلوماسية الدولتين خلال الفترة من 1978 في الصين (ما بعد برنامج التحديثات الأربعة) ومن 1985 في روسيا الاتحادية (فترة ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين)، دون الأخذ في الاعتبار تحولات عميقة في بنية الدولتين انعكست على دبلوماسيتهما، وهو ما يتبدى في المظاهر التالية:
أ- القدرة على مواجهة الضغوط:
بلغت الدولتان مرحلة استشعرتا فيها القدرة على مواجهة الضغوط وامتلاك بدائل مختلفة تمكنهما من توسيع قاعدة مناورتهما الدبلوماسية؛ فالصين تمتلك احتياطيًا نقديًا قيمته 1.16 تريليون دولار، وهو ما يساوي 26.1% من ديْن الخزينة الأميركية، كما أن حجم تجارتها الخارجية بلغ عام 2010 حوالي 1.5 تريليون دولار يذهب 20% منها للولايات المتحدة، ناهيك عن أنها تحتل المرتبة الثانية في إجمالي الناتج المحلي على المستوى العالمي، وهو ما يجعل الضغط الاقتصادي عليها أمرًا متعذرا، ولا شك أن الضغط العسكري أمر غير متاح، أما الضغط السياسي غير المدعوم بآليات اقتصادية أو عسكرية فيبقى محدود الفاعلية.
أما روسيا، فيبدو أن حقبة غورباتشوف ويلتسين والمرحلة الممتدة حتى عام 2005 رسمت صورة باهتة للسياسة الروسية (نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي وما أعقبه من فترة عدم استقرار استمرت حتى عام 2005 تقريبًا)، غير أن روسيا حققت ما بين عامي 2000 -2006 معدل نمو اقتصادي بلغ 7%، كما كشفت منظمة التجارة الدولية أن روسيا حققت المرتبة الأولى عالميًا في نسبة النمو في صادراتها بنسبة 22% عام 2011، كما استمر النمو في وارداتها بنسبة 24% خلال نفس العام، وساعدها ارتفاع اسعار الغاز والبترول من ناحية وتسارع معدلات الاستثمار الخارجي من ناحية أخرى على تدعيم اقتصادها بشكل كبير، وأصبحت تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في احتياطي الذهب، ناهيك عن احتلالها المرتبة الثانية عالميًا في تصدير القمح لعام 2011، وهي مظاهر انعكست في مجمل آثارها على وضع خطة تطوير القدرات العسكرية لمدة ثماني سنوات من 2007 إلى 2015 بقيمة خمسة تريليون روبل (حوالي 178 مليار دولار).
ب- الترابط بين روسيا والصين:
هناك ترابط بين الدولتين في فضاءات عديدة (دون نفي بعض التباينات)، فإلى جانب أن الدولتين تشتركان في حدود سياسية يصل طولها إلى 3483 كيلومترًا، فإنهما متوافقتان في عدد من التوجهات التي تزيد من فرص التنسيق السياسي بينهما على المسرح الدولي:
أولًا: تمثل الصين الشريك التجاري الأول لروسيا، فقد أشار فلاديمير بوتين خلال لقاء له مع مسؤول في مجلس الشعب الصيني في سبتمبر/أيلول 2011 أن حجم التبادل التجاري بين البلدين وهو 70 مليار دولار، يُقدَّر له أن يبلغ 100 مليار عام 2015 و200 مليار عام 2020، وهو ما يعني وجود مصالح اقتصادية مشتركة بينهما.
ثانيًا: وجود أطر تنظيمية للعلاقة بينهما، فإلى جانب أن الدولتين تشتركان في اللجنة السداسية الخاصة بالموضوع الكوري الشمالي، هناك ارتباطهما بمنظمة شنغهاي وكتلة دول البريكس (BRICS)، ناهيك عن تواجدهما ضمن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
ثالثًا: التوافق بين البلدين على مبادئ إستراتيجية ترى كلتاهما أنها تحكم العلاقات الدولية، مثل:
– تكريس مبدأ السيادة وعدم القبول بالتدخل الخارجي في الشأن الداخلي لأية دولة من الدول، وبخاصة تغيير النظم السياسية أو الحكام بالقوة العسكرية وعبر التدخل الخارجي، وضرورة اعتماد التسويات السياسية السلمية لصراعات المناطق الإستراتيجية، وهو ما أكدته قمة دول البريكس في الهند في أواخر مارس/آذار 2012، ولا شك أن استقرار هذا المبدأ في شبكة التفاعلات الدولية سيُضعف من الاختلال الكبير في موازين القوة العسكرية التي تعد مختلة لصالح الولايات المتحدة التي تبلغ نفقاتها العسكرية 23 ضعفًا مقارنة بالإنفاق العسكري الروسي.
– إحساس الدولتين بأن الدول الغربية تتجاوز حدود التفويض الذي يمنحه مجلس الأمن الدولي، كما هو الحال في النموذج الليبي.
– اقتناع الدولتين بانتقائية الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة في التعامل مع موضوع الديمقراطية.
– علاقات الدولتين مع إيران التي تُعد حليفًا مركزيًا لسوريا، وهو ما يعني أن علاقة كل من الدولتين مع إيران تلقي بظلالها على الأزمة السورية.
ج- الاجتماع إستراتيجيًا على إيران:
تمثل إيران ركنًا مهمًا من إستراتيجية بكين وموسكو في الصراع الدولي الذي يدور حول غرب آسيا، وهو ما يتضح في الآتي:
1- العلاقات التجارية:
هناك علاقات تجارية متطورة بين إيران وروسيا، حيث ارتفعت نسبة التبادل بينهما بين عامي 2005-2010، من 1.215 مليار دولار إلى 3.2 مليار دولار، يُضاف لها مبيعات عسكرية تتجاوز 400 مليون دولار خلال الفترة من 2007-2010، ناهيك عن التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية.
وتمثل إيران أهمية بالغة لروسيا في عدد من النواحي، منها حماية البوابة الجنوبية لهذه الأخيرة ومساعدتها في المنافسة على المصادر البترولية وطرق نقل الطاقة من منطقة بحر قزوين، والتي تشهد تنافسًا حادًا مع الشركات الغربية والأميركية منها خاصة.
وفيما يتعلق بالعلاقات التجارية الصينية-الإيرانية، فرغم شكوى التجار الإيرانيين من إغراق الصين للأسواق الإيرانية بالسلع، فإن إيران تحتل المرتبة الرابعة في الاستثمارات الصينية من غير السندات، كما أن عدد الشركات الصينية العاملة في إيران ارتفع من مائة شركة عام 2010 إلى 166 شركة حتى إبريل/نيسان من عام 2011، ما يعني أن الشركات الصينية تستثمر الانسحاب الاقتصادي الغربي من الأسواق الإيرانية لتملأ الفراغ الذي يتركه، وهو ما يتضح بشكل جلي في أن الحصار الغربي على الغازولين والحؤول دون وصوله للأسواق الإيرانية أدى إلى انخفاض وفرته فيها بنسبة 75%، ما أتاح المجال للصين لتزود إيران به ولكن بأسعار تزيد 25% عن أسعار الغازولين في السوق العالمي، دون إغفال التعاون في مجالات التسلح بينهما.
وإذا أضفنا الأهمية الإستراتيجية لإيران كثاني أهم مورِّد للنفط للصين من ناحية، ومشاركتهما معًا في إستراتيجية إحياء طريق الحرير من ناحية أخرى، فإن مكانة إيران تتعزز في إستراتيجية الصين الدولية.
2- العلاقات السياسية:
تشير الزيارات الدبلوماسية بين الصين وإيران إلى كثافة التشاور الدبلوماسي بينهما؛ إذ تشير الإحصاءات المتوفرة عن تبادل الزيارات الرسمية لكبار المسؤولين في البلدين إلى أنها وصلت إلى 91 لقاءً خلال الفترة من 2003-2010، وهو معدل مرتفع بالمقاييس الدبلوماسية.
د- الاختلاف إستراتيجيًا مع واشنطن:
يختلف البلدان مع الولايات المتحدة في عدد من الموضوعات، وأبرزها على المستوى الإستراتيجي: رفضهما للتفرد الأميركي وسعيهما لعالم متعدد الأقطاب. فالبلدان يصران على ضرورة إدارة العلاقات الدولية عبر تعددية قطبية وبخاصة في الشرق الأوسط، وقد شكّلت الأزمة السورية فرصة للتعبير الفعلي عن هذا التوجه، والذي يتضمن كذلك ضرورة القبول بالتعامل مع الدولتين (روسيا والصين) على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، وبالتالي القبول الأميركي لهما بلعب دور “الشريك لا التابع”.
“التعدد القطبي” الروسي والصيني والموقف من سوريا:
إن التحولات في الدبلوماسية الروسية والصينية، تشير إلى أن العلاقات الدولية دخلت مرحلة الانتقال الأولى من التفرد القطبي الذي ساد مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة إلى مرحلة التعدد القطبي، ويبدو أن الأزمة السورية شكّلت البادرة الأولى في هذا الاتجاه، وهو أمر ليس مفصولاً عن منظور إستراتيجي تبلور لدى كل من روسيا الاتحادية والصين على النحو التالي:
المنظور الإستراتيجي الروسي والموقف من سوريا:
اتخذت السياسة الأميركية بشكل خاص وسياسة الناتو بشكل عام منذ انهيار الاتحاد السوفييتي شكل التطويق التدريجي لروسيا في مجالها الحيوي (strategic lebensraum) خوفًا من روسيا المحتملة أكثر منه خوفًا من روسيا القائمة، وقد تم إقفال المجال الحيوي الأول لروسيا في أوروبا الشرقية بانضمامها تمامًا لكل من الناتو والاتحاد الأوروبي، وتبعه بعد ذلك محاولات تأجيج الثورات في كل من جورجيا وأوكرانيا، ثم التواجد العسكري في بعض دول آسيا الوسطى والتي تمثل قاعدة مناس قرب العاصمة القرغيزية أبرزها.
فإذا أضفنا لذلك التقرير الذي نشرته (Independence paper) الروسية في فبراير/شباط 2007 عن مشروعات أميركية لنشر نظم مضادة للصورايخ في قواعد عسكرية في ألاسكا وكاليفورنيا لغلق “البوابة الشرقية” لروسيا، والسعي الأميركي في الفترة ذاتها لنشر نظم صاروخية في منطقة القفقاس، ليشكّل -كما يقول التقرير- “طعنة خنجر في عنق القوة النووية الإستراتيجية الروسية”، أدركنا خريطة الجدران التي تقام حول روسيا.
وقد استشعرت روسيا هذا الأمر تمامًا، لكنها في المراحل الأولى لم تكن في وضع يسمح لها باتخاذ خطوات فعالة لمواجهة التطويق هذا، لكنها ونتيجة للتطورات التي حصلت فيها، بخاصة منذ تولي فلاديمير بوتين الحكم عام 2000 بدأت في ممارسة نشاطات متنوعة لمواجهة التطويق المشار له، وشكّل التدخل الروسي في جورجيا في أغسطس/آب 2008 مؤشرًا واضحًا على الإستراتيجية الروسية للحيلولة دون وجود الناتو في جورجيا التي كان لديها طموح لتطوير اتفاقية الشراكة من أجل السلام الموقعة مع الناتو عام 2005 نحو العضوية الكاملة، ناهيك عن اتفاقيات أذربيجان مع الناتو في اتفاقية الشراكة من أجل السلام عام 1994، ما يعني التمدد الأطلسي من أوروبا الشرقية نحو الخاصرة الروسية في جبهة القفقاس، ويبدو أن مشروع بوتين الخاص بإقامة “اتحاد أوراسيا” الذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان يمثل محاولة لمنع أي تمدد للاطلسي في هذه المنطقة، خاصة وأن كلاً من قرغيزيا وطاجيكستان أعلنتا أنهما “تدرسان إمكانية الانضمام” للاتحاد المذكور.
وفي الخط الثاني من غرب آسيا الذي يمثل الحاضنة الجيوإستراتيجية لآسيا الوسطى تقع كل من إيران وسوريا، وهما الدولتان اللتان يعتبرهما بوتين “ضمانة الاستقرار في المناطق القريبة من حدودنا” على حد وصفه.
وتشكّل العلاقات السورية-الروسية بُعدًا مركزيًا في هذه الرؤية الإستراتيجية الروسية التي تتضح معالمها في الآتي:
1. تُشكِّل سوريا أحد أهم الشركاء العرب التجاريين لروسيا؛ إذ تشكِّل التجارة الروسية-السورية ما نسبته 20% من إجمالي التجارة العربية-الروسية، كما أنها تشهد تناميًا؛ إذ ارتفعت التجارة الروسية-السورية إلى 1.92 مليار دولار عام 2011 بزيادة تصل إلى 58% عن عام 2010. من ناحية أخرى، تصل الاستثمارات الروسية في سوريا إلى حوالي 20 مليار دولار،كما أن الشركات الروسية لا سيما في القطاع الطاقوي تُعد من أبرز الشركات العاملة في سوريا (مثل شركة تانتفت، وشركة سويوز منتغاز، وبعض فروع شركة غازبروم.. إلخ).
2. تشكّل القاعدة البحرية في سوريا (طرطوس) القاعدة الوحيدة لروسيا على شواطئ البحر المتوسط، وهي موجودة عملاً باتفاقية قديمة بين البلدين تعود لعام 1971، ولكن استمرارها كلّف روسيا إعفاء لسوريا من ديون بلغت 9.8 مليار دولار عام 2006، إلى جانب حصول روسيا على بعض التسهيلات كذلك في اللاذقية.
3. تُعد سوريا إحدى الدول المهمة كسوق للسلاح الروسي؛ إذ شكّل نصيب سوريا من تجارة روسيا العسكرية حوالي 7% عام 2010، والتي بلغت 700 مليون دولار، كما أن سوريا متعاقدة مع روسيا على صفقات عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار حتى عام 2013، منها 960 مليون دولار عام 2011، وحوالي 550 مليون دولار عام 2012 طبقًا لمركز تحليل الإستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو (كاست)، وهي تقريبًا نفس قيمة المبيعات العسكرية الروسية لسوريا خلال الفترة من 2006-2010؛ مما يجعل قيمة المبيعات العسكرية خلال الفترة من 2006-2013 حوالي ثمانية مليارات دولار.
4. المساندة الدبلوماسية المتبادلة بين البلدين، فإذا كانت روسيا قد ساندت سوريا في مواقف عديدة، فإن سوريا كانت من بين قلة من الدول التي أعلنت بشكل واضح تأييدها للعملية العسكرية الروسية في جورجيا عام 2008، وتأييدها للعب روسيا دورًا في الجهود الدبلوماسية لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، إضافة إلى تأييد السياسات الروسية في الصراع الداخلي في داغستان والشيشان.
5. تدل السياسة الروسية على المعارضة الصريحة لتغيير النظم السياسية بالتدخل العسكري الخارجي، وقد دلت سلسلة المقالات التي كتبها بوتين مؤخرًا في الصحف الروسية -تحضيرًا للانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوزه- على موقف واضح في هذا الجانب، فتحت عنوان “روسيا والعالم المتغير” أطلق بوتين على السياسات الغربية والأميركية بخاصة لنشر الديمقراطية أنها “ديمقراطية الصواريخ والقنابل” التي لا تقبلها روسيا بأي شكل من الأشكال.
الموقف الصيني من سوريا:
يحتاج تحليل الموقف الصيني لنظرة أبعد من مجرد ربط سياسة الدولة العظمى بعلاقاتها المباشرة مع الدولة موضوع التنازع (سوريا)، بل لابد من توسيع دائرة التحليل للربط بين الأزمة السورية ومشكلات أخرى تدور بين القوى الكبرى.
فعند النظر إلى العلاقات الصينية-السورية المباشرة، نجد أن هذه العلاقات التي تعود لعام 1955 ليست ذات قيمة بالمعايير التقليدية؛ إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين حوالي 2.48 مليار دولار (من بين مائة مليار دولار تمثل التجارة العربية-الصينية) عام 2010، إضافة لحوالي 1.82 مليار كعقود هندسية صينية في سوريا، و4.82 مليون دولار تحويلات عمال صينيين في حوالي 30 شركة صينية في سوريا و16.81 مليون دولار على شكل استثمارات صينية مباشرة(1) وتحتل الصين المرتبة الأولى حاليًا في الشركاء التجاريين لسوريا بنسبة تصل إلى 6.9% من إجمالي التجارة السورية مقابل 3% لروسيا الاتحادية.
كما أن الشركات الصينية تساعد سوريا في مواجهة المشكلات التكنولوجية الناتجة عن العقوبات الأوروبية على سوريا في القطاع النفطي الذي يمثل 20% من إجمالي الناتج المحلي السوري.
ذلك يعني أن سوريا لا تشكّل نقطة جذب تجاري لا تقاوم بالنسبة للصين التي تجاوز حجم تجارتها الكلي حوالي 1.5 تريليون دولار، مما يستدعي البحث عن مبررات أخرى للسلوك الصيني يمكن بلورتها في الجوانب التالية:
1. يشكّل الموقف الصيني بتبني الفيتو مرتين في الأزمة السورية (مع روسيا) أحد ردود الفعل المباشرة على الإعلان الأميركي عن تحول في الإستراتيجية الأميركية نحو منطقة المحيط الهادئ الآسيوية، ورغم أن الإشارات من الإدارة الأميركية تكررت في غير موضع عن هذه الإستراتيجية، فإن التعبير الواضح عنها جاء في مقال كتبته هيلاري كلينتون في مجلة (Foreign Policy) في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وجاء فيه “إن علينا أن نعمل بشكل فطن ومنظم خلال السنوات العشر القادمة في استثمار الوقت والجهد لنضمن لأنفسنا الوضع الأنسب لضمان استمرار قيادتنا وضمان مصالحنا وتقدم قيمنا… ومن أهم واجباتنا خلال العقد القادم أن نركز جهدًا دائبًا ومتواصلاً في الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي والإستراتيجي وغير ذلك في منطقة الهادئ الآسيوية”، وهي الإستراتيجية التي عبّر عنها بشكل مماثل الرئيس أوباما في يناير/كانون الثاني 2012 بالحديث عن “مراجعة دفاعية تقوم على تركيز القوات الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ”، فإذا ربطنا هذه الإستراتيجية بتكرار الولايات المتحدة التعبير عن قلقها من زيادة الصين لإنفاقها الدفاعي من ناحية، وإعلان الولايات المتحدة أنها ستسحب وجودها العسكري من آسيا الوسطى في عام 2014 من ناحية أخرى، نستدل على توتر بين الطرفين في هذه المنطقة نظرًا لإدراك الصين أن الولايات المتحدة تقوم بما أطلق عليه بعض الباحثين: الهندسة الجيوسياسية (Geopolitical Engineering) ، وهي التي دفعت نائب الرئيس الصيني (Xi Jinping) للقول: إننا “نأمل بأن تحترم الولايات المتحدة مصالح وهواجس الصين والدول الأخرى في هذه المنطقة”؛ مما يجعل الصين تعمل على الرد في مناطق أخرى، وقد شكّلت الأزمة السورية فرصة لبعض هذا الرد.
2. لعل الضغط الأميركي المتزايد على الصين لرفع قيمة عملتها والذي لم يجد صدى لدى الحكومة الصينية نظرًا لاعتماد الصين على صادراتها بشكل كبير خلق نوعًا من التوتر بين الطرفين في حدود معينة لاسيما في ظل اللوائح التي تبنّاها الكونجرس الأميركي في العام الماضي بهذا الخصوص.
3. قرارات الولايات المتحدة ببيع أسلحة لتايوان، وقد أشارت صحيفة (China Daily) في مقال بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 2011 حول الصفقة الأميركية التي بلغت قيمتها 5.85 مليار دولار إلى تصريح الناطق باسم وزارة الدفاع الصينية الذي قال: “إن هذا القرار الخاطئ يدمر العلاقات الأميركية-الصينية؛ لأنه يمس مصالح الصين الجوهرية وسيادة ووحدة أراضيها”، وتوقع رئيس معهد الصين للعلاقات الدولية في بكين (Qu Xing) أن الصين “ستكون ملزمة بالرد”، ولا شك أن المناكفة السورية جزء من الرد.
4. استقبال الرئيس الأميركي لزعيم الأقلية البوذية الدلاي لاما في يوليو/تموز 2011، وهو ما اعتبرت الصين على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية أنه “تدخل في الشؤون الداخلية الصينية.. وأن على الولايات المتحدة التوقف عن تشجيع الجماعات الانفصالية في التبت”.
ويبدو أن الموقف الصيني من الأزمة السورية ليس منفصلاً عن سعي صيني “لرد فعل” محسوب على السياسات الأميركية في الميادين المشار لها أعلاه.
التفاعلات الدولية والأزمة السورية منها:
تحولت طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة إلى لعبة غير صفرية (non-zero sum game) بين القوى المركزية في النظام الدولي المعاصر، حيث يدور التفاعل على أساس الإقرار بمصالح متناقضة من ناحية ومصالح مشتركة من ناحية أخرى.
فمن الواضح أن السياسة الأميركية بشكل خاص والغربية بشكل عام تستهدف مواصلة السعي لتوسيع دائرة عمل الناتو بهدف الحيلولة دون تحقق روسيا الكامنة (potential) عبر إستراتيجية التطويق، بينما تسعى روسيا إلى مواجهة هذا التوجه عبر جبهات عدة من بينها غرب آسيا التي تشكّل فيها كل من سوريا وإيران قواعد ارتكاز جوهرية، الأمر الذي يعني أن روسيا لن تفرط في ركائز مشروع مقاومة التطويق المتواصل لها من قبل الأطلسي.
لكن ذلك لا ينفي وجود تفاعل إيجابي بين روسيا وأطراف الأطلسي في ميادين أخرى، على أساس قواعد اللعبة غير الصفرية، مثل كبح تنامي الحركات الإسلامية بشكل عام، وهو ما نجد له نموذجًا في أفغانستان حيث تقدم روسيا تسهيلات لقوات الأطلسي العاملة فيها لضرب حركة طالبان، وهو الأمر الذي يتسق مع مخاوف روسيا من تنامي الحركات الإسلامية وما له من انعكاسات على أوضاعها الداخلية، لاسيما في الشيشان وداغستان وبقية الجمهوريات الروسية التي يوجد فيها أقليات إسلامية، ناهيك عن تهديد ذلك للجمهوريات في آسيا الوسطى التي تعتبرها روسيا جوارها القريب، ولعل بروز الحركات الإسلامية كبؤرة “للربيع العربي” عزز هذه الهواجس الروسية إضافة إلى إثارته لهواجس معينة لدى لدول الغربية كذلك.
أما الجوانب الأخرى من علاقات روسية مع سوريا في قطاعات تجارية وعسكرية، فهي ليست إلا نتائج للتصور الإستراتيجي الروسي للوظيفة السورية في نطاق إفشال التطويق الأطلسي لروسيا الكامنة.
أما من الناحية الصينية، فإن الهدف الإستراتيجي والذي جرى التعبير عنه من قبل الطرف الأميركي هو التحول الجيوإستراتيجي للولايات المتحدة نحو جبهة الهادئ الآسيوية، وهو الأمر الذي رأت فيه الصين محاولة أميركية لكبح تنامي الدور الصيني في تلك المنطقة، فترد الصين من خلال توجهات تخلق فرص مساومة للصين كالموقف من الأزمة السورية والعلاقات مع طهران، رغم أن المكانة الإستراتيجية لطهران أكثر أهمية للصين من سوريا.
ونظرًا للخصومة المشتركة من قبل الروس والصينيين للسياسة الأميركية، تقاربت الدولتان أكثر فأكثر لضمان تعزيز فكرة التعددية القطبية، وكبح التسلل الخارجي للمجال الحيوي لكل منهما، وهو ما يتجلى في منظمة شنغهاي بشكل خاص ومجموعة البريكس بشكل عام.
الآفاق المستقبلية:
يعتمد رسم الصورة المستقبلية على قدر غير يسير من المتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
ويبدو أن ملامح الصورة المستقبلية تتمحور حول الأبعاد المحتملة التالية:
1. إقرار أطلسي بأن روسيا قد تدفع المواجهة لحدها الأقصى في حالة الإصرار على الاستمرار في إستراتيجية التطويق لها، أو ضرب قواعد ارتكازها في مجالها الحيوي المتبقي في غرب آسيا، وهو أمر دفع الدول الغربية للتراخي في الأزمة السورية. ويعني أن روسيا لن تتخلى عن تأييد الموقف السوري، لكنها ستعمل على دفع النظام نحو تحولات مهمة على مستوى بنيته ولكن عبر خطوات تدريجية تسهّل السيطرة على تداعياتها، وقد تنجح في جذب أطراف من المعارضة السورية، مما يعزز من هذه الإستراتيجية الروسية.
وتدرك روسيا أن تراجعها عن هذا التوجه، سيؤثر على أمنها الحيوي ومصالحها الأخرى التي أشرنا لها من ناحية، ويضع مصداقيتها لدى حلفائها في المنطقة لاسيما إيران موضع مناقشة وارتياب من ناحية أخرى.
2. تبدو الصين في موقف أقل رسوخًا من الموقف الروسي بسبب طبيعة إستراتيجتها تجاه المنطقة بشكل خاص وتوجهاتها الدولية بشكل عام. غير أن بعض العوامل قد تجعل التراجع الصيني عن استمرار الموقف الحالي أمرًا ليس هينًا، ويتجلّى ذلك في حرصها على العلاقة مع إيران التي تمثل موردًا مهمًا لها في المصادر النفطية، ورغم أن السعودية تمثل المورِّد الأول للصين، لكن الحساب الإستراتيجي الصيني يقوم على أساس أن أية أزمة حادة بين الصين والولايات المتحدة قد تجعل من السعودية طرفًا لا يُؤْمن جانبه، خلافًا لما هو عليه الوضع في إيران.
كذلك فإن مشكلة استثمار الولايات المتحدة لهموم الأقليات الصينية وبخاصة الأقلية المسلمة في سينكيانج قد يجعل الصين أقل ترحيبًا بنجاح الحركات الإسلامية في الربيع العربي في تولي السلطة في الشرق الأوسط، لكي لا يكون هناك قواعد ارتكاز تحرك تلك الأقلية مستقبلاً. إضافة إلى أن التغير في الموقف الصيني قد يخلق ارتباكًا للعلاقات الصينية-الروسية التي تزداد تماسكًا وتستند لقواعد مشتركة.
ذلك يعني أن الظلال ستزحف تدريجيًا على الأزمة السورية، وقد تغطيها أزمة كبرى في منطقة أخرى، وقد تؤدي التفاعلات السلبية داخل مصر وليبيا واليمن إلى مزيد من زحف الخريف على الربيع العربي.