لا يكشف مراسل صحيفة “لوفيغارو” جان ماري كيمينير أسراراً لا نعرفها عن حياة وشخصية الرئيس السوري بشار الأسد في كتابه “دكتور بشار.. مستر أسد” الصادر حديثاً عن دار نشر “أنكر دوريان”، لكنه يخط بمهارةٍ وموضوعية كبيرة وصفا دقيقاً لبشار مرتكزاً في ذلك على أبرز محطات وأحداث حياته.
ويحاول الكتاب الإجابة على مجموعة أسئلة أبرزها: كيف تحوّل “دكتور بشار” إلى “مستر أسد”؟ في إشارة إلى قصة ستيفنسون “الحالة الغريبة لدكتور جيكيل ومستر هايد”، وأين يكمن الصدع في شخصيته؟ وفي أي لحظة قرّر حمل إرث والده العنيف كليا والسير على خطاه؟
ومنذ الصفحات الأولى من بحثه، يقرّ كيمينير أنه لم يعثر على ازدواجية حقيقية في شخصية الأسد، أو على حدثٍ في مساره جعله ينقلب من “إنسانٍ إلى وحش”، بل على تبدّلٍ بطيء انحلّت فيه خلفيته الطيّبة الخجولة أمام ثقافة السلطة والتسلّط التي تربّى في كنفها وكانت لها الكلمة الأخيرة في عملية تطوّره.
وفي حال وجود صدع ما، فهو ليس في شخصية الأسد بل في نظرة السوريين إليه التي ستتضح مع حلول “ربيع دمشق” عام ٢٠٠٠.
في البداية، يبيّن كيمينير لنا أن قبول الأسد حمْل إرث أبيه وخلافته لم يحصل في الفترة الأخيرة من حياة الوالد بل منذ عام ١٩٩٤، وأن الطريقة التي اتبعها لتحقيق ذلك تعكس حقيقة شخصيته ونظرته إلى الأشياء، وبالتالي كم هو فعلاً ابن أبيه.
فقد اقتصر مشروع الأسد -سواء على مستوى حزب البعث أو على المستوى العائلي أو على مستوى الجيش- على التخلّص من كل مَن تجرّأ على التعبير عن تحفّظ على عملية صعوده المبرمجة.
وفي الوقت ذاته، عمل على جمع “حرسٍ خاص” حوله انطلاقاً من معايير ثلاثة: الوفاء لآل الأسد، والانتماء إلى الطائفة العلوية، والدعم غير المشروط لطموحاته.
وفي هذا السياق، عمد منذ عام ١٩٩٥ إلى انتزاع ملف لبنان من يد عبد الحليم خدام بمباركة أبيه، وإلى التخلص من رئيس المخابرات العسكرية علي دوبا بعد تقويض سلطته، ثم من رئيس أركان الجيش حكمة الشهابي بحجة تقدمه في السن، ومن رئيس أركان سلاح الطيران محمد خولي.
وبهدف الإستيلاء أيضاً على السلطة المضادة للجيش ومؤسسات الدولة المتمثلة في عالم الأعمال، أنشأ “أرستقراطية” جديدة من رؤساء الشركات والتجار الكبار الطيّعين، ووضع على رأسها ابن خاله رامي مخلوف.
أما خلافته لأخيه باسل على رأس شركة “المعلوماتية” واهتمامه بنشر تقنيات الإنترنت في بلده، فلم يهدف منهما إلا إلى الظهور بحلة المحدِّث، وفي الوقت ذاته إكمال سيطرته الأمنية على البلاد بالوسائل التقنية الحديثة.
وبعد وفاة حافظ الأسد في يونيو/حزيران ٢٠٠٠، يشير كيمينير إلى أن بشار تمكن من خداع بعض السوريين -في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة توليه السلطة- بتوجهه فيه إلى قوى الشباب المبدعة وتحدثه عن الحداثة والإصلاح.
لكن هذه الخديعة ما لبثت أن انكشفت مع انطلاق “ربيع” دمشق على يد ٩٩ مثقفا سوريًّا تحوّلوا بسرعة إلى ألف، وطالبوا الرئيس الجديد برفع حالة الطوارئ وتحرير المعتقلين السياسيين وإحلال تعددية سياسية وفكرية واحترام الحريات العامة.
وقد ساهم في هذا “الربيع” النائب رياض سيف الذي أيقظ بجمعيته “أصدقاء المجتمع المدني” تقليد المنتديات الثقافية العريق في سوريا، و”الكتلة البرلمانية المستقلة” (عشرين نائبا) التي طالبت باستقلالية العدالة وبالتشريع لأحزاب سياسية جديدة، والصحافة السورية، بما فيها صحفية “تشرين” الرسمية التي فتحت صفحاتها لمفكرين معارضين مثل ميشال كيلو وعارف دليلة، وطالب رئيس تحريرها محمود سلام بالتعددية السياسية والاقتصادية والثقافية.
وجاء رد نظام الأسد الجديد القديم على هذه التحركات على النحو التالي: فرض قوانين على المنتديات مشابهة لتلك التي تتحكم في حق التجمع في الأماكن العامة، ورفع حصانة النائبين سيف ومأمون الحمصي والحكم عليهما بالسجن خمس سنوات، في حين حُكم على عارف دليلة بالسجن عشر سنوات وأقيل محمود سلام من منصبه الإعلامي.
يكشف كيمينير عن اتباع الأسد منذ وصوله رأسمالية الأصدقاء التي حوّلت رامي مخلوف بسرعة إلى أول مستثمر في سوريا، وسمحت لشركته القابضة الشام بالاستحواذ على ٦٠% من القطاع الخاص
“وعلى المستوى الاقتصادي، يكشف كيمينير عن اتباع الأسد منذ وصوله “رأسمالية الأصدقاء” التي حوّلت رامي مخلوف بسرعة إلى أول مستثمر في سوريا، وسمحت لشركته القابضة “الشام” بالاستحواذ على ٦٠% من القطاع الخاص. أما الشركة القابضة الثانية من حيث الأهمية “السورية” فيقف خلفها ورثة رجال الأعمال الذين كانوا أوفياء لوالده.
وحتى المؤسسات الاجتماعية التي أسستها زوجة الأسد أسماء، ثم جمعتها تحت تسمية واحدة “تراست”، والتي تستقطب جزءاً كبيراً من المساعدات الدولية لسوريا بحجة أنها مؤسسات غير حكومية، فيعتبر كيمينير أنها لا تستحق هذه الصفة لبقائها في دائرة الحكم، ولأن موظفيها يتألفون من أبناء وأقارب المسؤولين السياسيين أو العسكريين ورجال الأعمال الأوفياء لعائلة الأسد.
ولا يُهمل مراسل لوفيغارو في كتابه سلسلة الاغتيالات التي تعرضت لها الوجوه السياسية والإعلامية اللبنانية المعارضة للتدخل السوري في لبنان، وتشير جميع أصابع الاتهام فيها إلى وقوف نظام الأسد خلفها، بدءاً بالنائب والإعلامي مروان حمادة ومروراً برئيس الوزراء رفيق الحريري الذي سيؤدي مقتله المروع مع عشرين شخصا من مرافقيه إلى نزول مليون لبناني (من أصل أربعة) إلى الشارع، وإلى اضطرار الأسد لسحب جيشه من لبنان.
فشلٌ لن يردعه عن الاستمرار في هذه السياسة الدموية التي اتّبعها والده قبله في لبنان، فتتم تصفية الصحفي والمفكر سمير قصير والأمين العام للحزب الشيوعي جورج حاوي ومدير صحيفة النهار النائب جبران تويني، قبل أن “ينتحر” وزير الداخلية السوري غازي كنعان “بست رصاصات في ظهره” عشية استجواب المحقق الدولي ديتليف ميليس له في قضية مقتل الحريري.
ويرى كيمينير في نهاية كتابه أن نزعتي الاستئثار بالسلطة والتسلط لدى الأسد بلغتا اليوم حدا لم يعد فيه قادرا على التمييز بين مصالحه ومصالح شعبه أو بلده.
وهذا ما يجعله يتعامل مع “الثورة السورية المشروعة” التي انطلقت يوم ١٥ مارس/آذار الماضي وما زالت مستمرّة، كما لو أنها مجرّد اضطرابات تقف خلفها “عصابات إرهابية” أو “أيادٍ خارجية”، في وقت يتظاهر فيه مئات الآلاف يومياً في جميع المدن السورية ضدّه وتجاوز عدد ضحايا قمعه ثمانية آلاف شهيد.