بقلم: عمر كوش
اتسم الموقف الإيراني الرسمي حيال الأزمة في سوريا بالانحياز الكامل للنظام السوري منذ اندلاع الحراك الاحتجاجي الشعبي فيها،
حيث تبنى الساسة الإيرانيون خطاباً داعماً للنظام في نهجه وسياساته الداخلية والخارجية، ونظروا إلى الأزمة بوصفها نتاج “مؤامرة خارجية”، هدفها النيل من مواقف النظام المعادية للمشاريع الأميركية والصهيونية، ولم يخفوا وقوفهم القوي إلى جانبه بكل إمكاناتهم الدبلوماسية والسياسية واللوجستية، بل تبنوا وجهة نظره وطريقة تعامله مع الأوضاع الدامية والمتفاقمة في البلاد.
وبالرغم من التصريحات الخجولة لبعض المسؤولين حول الإصلاح واحترام مطالب الشعب السوري، فإن ساسة إيران لم يعطوا الجانب الإنساني والأخلاقي أي اهتمام يُذكر، بالرغم من سقوط آلاف الضحايا المدنيين، فضلاً عن الجرحى والمعتقلين والمفقودين والنازحين، مع علمهم بأن الحراك الاحتجاجي السلمي أعلن منذ انطلاقته رغبة الشباب السوري في نيل الحرية واسترجاع الكرامة، والتطلع إلى دولة مدنية تعددية، تقوم على المواطنة والعدالة الاجتماعية.
المشروع الارتدادي:
يدعو موقف النظام الإيراني من الأزمة السورية إلى التفكير في الأسباب والحيثيات التي جعلت قادته يتعاملون معها، وكأنها القضية الأهم بالنسبة إليهم في منطقة الشرق الأوسط. ويدعو كذلك إلى التفكير في أبعاد الدور الإقليمي لإيران والمشروع الإيراني الارتدادي، الذي يضرب عمقه في التاريخ، مع العلم بأن العرب الذين دخلوا إيران -في غابر الأزمان- دخلوها كمسلمين، ولم يكنوا العداء للشعوب الإيرانية التي دخلت الإسلام دون إكراه.
ويتخذ المشروع الإيراني الذي يسعى النظام إليه في المنطقة تلوينات مختلفة، ويقف وراءه عقل سياسي يزاوج ما بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً وفق فهم رجال الدين، والطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا، الأمر الذي يجعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة والتغيير، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل.
ولا يقدم دعاته ومناصروه أي تنازلات، ولا يقبلون بالمساومات أو التسويات، حتى وإن تعلّق الأمر بالاسم فقط، حيث رفضوا تسمية “الخليج الإسلامي”، التي اقترحت كحل وسط لتسمية الخليج العربي، ويصرون على تسمية “الخليج الفارسي”، بل ويتخذون إجراءات صارمة بهذا الخصوص. وقد أطلق الرئيس أحمدي نجاد على من يسمونه “الخليج العربي” مزوري اسم الخليج، وادعى أنهم لا يملكون ثقافة. يضاف إلى ذلك رفض النظام الإيراني تقديم أي تنازل حيال مسألة الجزر الثلاث المحتلة، والمتنازع عليها مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
الدور الإقليمي:
منذ عقود عدة، يحاول النظام الإيراني تثبيت معادلة دولية، تقوم على لعب إيران دور الدولة المحورية بأسنان نووية، وسعى إلى تزعم المشرق الإسلامي تحت لافتة ذرائعية، فحواها الصراع مع إسرائيل ومجابهة الولايات المتحدة الأميركية. وهي لافتة شعاراتية فارغة، لأن هذا النظام سارع على الدوام إلى مهادنة المشاريع الأميركية والاستفادة منها، بل وساعد الإدارات الأميركية على تنفيذ مرادها في أفغانستان والعراق. في حين أن الصراع المزعوم مع إسرائيل اكتسى معاني لفظية طنانة فقط، والهدف من ورائه ضمان أمن النظام الإيراني وسلامة نخبته الحاكمة، إلى جانب سعيه إلى إيجاد مجال حيوي يضمن نفوذه الإقليمي القوي.
وفي ظل فراغ القوة الحاصل في المنطقة، وغياب أي محور فاعل فيها وقادر على الوقوف في وجه النفوذ الإيراني، سعت إيران -خلال العقود الثلاثة الماضية- إلى تقوية تحالفها مع النظام في سوريا، وإلى بناء شبكة معقدة من العلاقات في المنطقة العربية، حيث تمكنت من امتلاك أوراق عديدة في دول المشرق العربي، بدءاً من العراق الذي تمكنت فيه من إيجاد قوى سياسية عراقية فاعلة على الأرض، مكونة من مليشيات وأحزاب مذهبية، تنفذ سياساتها بالرغم من علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية.
ودعمت إيران حزب الله اللبناني، بل وساهمت في تأسيسه وتقويته، ومدّه بالرجال والمال والسلاح. كما دعمت مجموعات مذهبية في بلدان الخليج العربي، حيث دعمت بشكل كبير التمرد المسلح لجماعة الحوثيين في اليمن ومدّتهم بالأسلحة والمال، بل وأوعزت إليهم للتحرش بالحدود السعودية، واستخدمتهم في معركة ذات أبعاد إقليمية واضحة. إضافة إلى مساندة النظام الإيراني، وبشكل علني، للحراك الاحتجاجي في البحرين ومحاولات تجييره.
ولم يتردد النظام الإيراني في استخدام أي وسيلة كانت في سبيل تحقيق مصالح نخبته الحاكمة ومصالح حلفائه في المنطقة، مستنداً إلى نهج يبرر الوسيلة في خدمة المصالح، بينما يعيش الشعب الإيراني أوضاعاً صعبة المصالح، خاصة بعد قمع حراك “الثورة الخضراء”. لذلك يحاول ساسة إيران أن يقللوا من خسائرهم الناجمة عن إرهاصات الربيع العربي، وأن يشعلوا صراعات في بعض الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج، بغية تحويل أنظار الداخل الإيراني إلى الأماكن التي يستهدفونها، بالنظر إلى مناهضة أغلب دول الخليج لسياسة إيران في المنطقة العربية.
المتغيرات العربية:
تمثل الثورات العربية تحولات كبرى في التاريخ العربي المعاصر، لأنها تسطّر مرحلة جديدة، بدأت بالتشكل منذ قيام الثورة التونسية، وما زالت رياحها تجتاح معظم البلدان العربية. وراح النظام الإيراني يراقب بقلق وحذر التداعيات التي يمكن أن تنتجها الثورات التي عصفت بالعديد من الأنظمة العربية على مصالحه ومشروعه في المنطقة، بالرغم من أن إيران من أوائل القوى الإقليمية التي رحبت بثورتيْ تونس ومصر، إلا إن موقفها تغير عندما امتدت الثورة إلى حلفائها في المنطقة، للدرجة التي لا يمكن الحديث معها عن موقف إيراني موحد حيال الثورات العربية، بل مواقف متعددة ومتناقضة في غالب الأحيان.
وقد أماط الدعم الإيراني للنظام السوري اللثام عن اللافتة التي حاول النظام الإيراني رفعها شعاراً لمواقفه من الثورات العربية، وهو “نصرة المستضعفين” و”محاربة الاستكبار”، والذي حاول تسويقه في تعامله مع الثورات في كل من تونس ومصر والبحرين واليمن، وبالتالي تبيّن للجميع أن النظام الإيراني يسلك نهجاً نفعياً، يصب في خدمة مشروعه ومصالحه الإستراتيجية في المنطقة العربية.
وتثير المتغيرات التي تحملها الثورات والحركات الاحتجاجية العربية قلق النظام الإيراني، لكونه يخشى امتداد تأثيرها نحو الشعوب الإيرانية، ويتخوف من أن تشمل المتغيرات والتطورات الجديدة الدور الإقليمي لإيران وتدخلاته في العديد من البلدان العربية. ولعل أول تأثيرات الربيع العربي على الدور الإيراني هو نجاح مصر بعد الثورة في جذب حركة “حماس” نحو الحضن المصري، من خلال توقيع المصالحة مع حركة “فتح”، ثم توقيعها على صفقة التبادل مع إسرائيل، الأمر الذي يشير إلى ابتعاد حركة حماس عن الوصاية الإيرانية.
كما أن وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى الحكم في الدول التي أسقطت أنظمتها السياسية لا يصب في مصلحة الرصيد الإقليمي الإيراني، إذ لن يسعى الحكام الجدد إلى تقوية علاقات دولهم مع إيران، بما يعني أن الأخيرة لن تحظى بتحالفات إقليمية جديدة. يضاف إلى ذلك أن هناك حرصا لدى قوى الإسلام السياسي في كل من تونس ومصر وليبيا على الابتعاد عن النفوذ الإيراني، بل والحدّ منه في المنطقة العربية.
نذكر في هذا المجال أنه عندما صرح المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي بأن “الثورات العربية تستلهم روح ونموذج الثورة الإسلامية في إيران، وبالتالي فهي استمرار لها”، سارع قادة الإخوان المسلمين المصريين إلى القول بأن “الثورة المصرية ثورة شعبية مصرية خالصة، ولا يستطيع أحد أن ينسب الفضل لنفسه في القيام بها”.
الحسابات والمخاوف:
يلاحظ المراقب والمتابع أن القادة الإيرانيين راحوا يتعاملون –منذ البداية- مع الأزمة السورية بوصفها صراعاً دولياً على سوريا، متعدد الأطراف إقليميا ودولياً، ومختلف المركبات والحمولات، ولم يقروا بأن الأزمة داخلية المنشأ والمطالب، وأن الصراع داخلي قبل كل شيء، لذلك اعتبروا أنه يتوجب عليهم توفير الدعم للنظام، بما يفضي إلى منع محاولة الدول الغربية تجريدهم من حليفهم الإستراتيجي في المنطقة.
ولا شك في أن النظام الإيراني يشعر بالقلق من استمرار الأزمة السورية، ومن مآلها وإرهاصاتها وتداعياتها الإقليمية، ويتخوف من دعم الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية لمطالب الحركة الاحتجاجية الشعبية، واتخاذها عقوبات اقتصادية وسياسية ضد النظام السوري، ويثيره كثيراً موقف تركيا حيال الأزمة إلى درجة أنه وجه تحذيراً إليها، وطالبها بتغيير موقفها من الحراك الاحتجاجي السوري.
وفي هذا السياق، يثير موقف مجلس التعاون الخليجي مما يجري في سوريا غضب قادة النظام الإيراني، ويجعل إيران تقف وحدها مع النظام السوري بوصفه الحليف الإستراتيجي الوحيد لها في المنطقة العربية، لذلك تتخوف إيران من الموقف السعودي وثقله وتأثيره على مواقف الدول العربية حيال الأزمة السورية.
ولا يغيب عن أنظار قادة النظام الإيراني مبادرة دول مجلس التعاون بخصوص الأزمة اليمنية، وتأمين الانتقال السلمي للسلطة في اليمن. كما لا يبتعد عن الحسابات الإقليمية مدى التنافس بين إيران والمملكة العربية السعودية، ويظهر ذلك جلياً في المواقف والتدخلات في كل من العراق والبحرين وسوريا. وبالتالي دفعت الثورات والانتفاضات العربية كلا من السعودية وإيران نحو مواجهة مفتوحة، حيث تسعى المملكة السعودية إلى حماية أمنها الوطني، وقطع الطريق أمام محاولة إيران إثارة القلائل وعدم الاستقرار في بعض دول المنطقة، خاصة أن الساسة الإيرانيين ما زالوا يعتبرون البحرين ساحة مفتوحة، وأن المملكة العربية السعودية هي من أجهض التغيير الذي يأملونه في البحرين، من خلال إرسالها قوات درع الجزيرة.
وفي هذا السياق، يمكن تفهم الموقف الإيراني الرافض بشدة لمشروع الاتحاد بين السعودية والبحرين الذي أعلِن مؤخراً.
وتتخوف إيران من السيناريوهات المحتملة لنهاية الأزمة السورية، ومن تأثيرها على مصالحها وتحالفاتها. لذلك ينظر الساسة الإيرانيون في كل الخيارات للمحافظة على تأثيرهم ونفوذهم، ولمنع تمكين الأتراك أو السعوديين من لعب دور محوري في سوريا والمنطقة.
ومعروف أن العقل السياسي الإيراني ليس بعيداً عن عالم الصفقات، حيث توصف العقلية السياسية الإيرانية بعقلية “البازار” القائمة على المساومة والمماطلة. وفي هذا السياق تدخل اللقاءات التي أجرتها القيادة الإيرانية مع بعض أطراف المعارضة السورية، خاصة أن المعروف عن النظام الإيراني وضعه المصالح الإيرانية فوق كل العلاقات مع العالم الخارجي، بالرغم من أن علاقاته وتحالفاته مع النظام السوري لا تتوقف عند حدود سوريا الجغرافية، بل تتجاوزها إلى حزب الله في لبنان، وإلى القوى الحليفة له في العراق.