ليس السجن جديداً في حياة الفلسطينيين، وما هو بجديد إضراب السجناء عن الطعام، الذين كان لهم في زمن الاستعمار البريطاني نشيد مهيب «يا ظلام السجن خيّم، إننا نهوى الظلام».
كان الأمر، ولا يزال، مرتبطاً بمراتب الإرادة، إذ الجسد يقاتل الطليق خارج السجن، ثم يقاتل داخله، فإن اشتد السجن قاتل السجين بروحه وأعلن: الإضراب عن الطعام، الذي يطالب بالحرية، وينسى احتمالات الموت.
الإنــــكليز الذيــن ورّثــــوا استــعمارهــم لدولة إسرائيــل، تـــركوا وراءهم سجوناً تدل عليهم: سجن عوفر، الذي أفادت منه «الدولة الجديدة» وأعطاه السجناء الفلسطينيون، لاحقاً، اسم «غــوانـتــانــامو»، و «الأحمر» نظراً إلى سوء الأحوال فيه، وسجن «الدامون» الشديد الرطوبة، الذي يضمّ اليوم حوالى 440 معتقلاً. كانت مذكّرات سجناء ثورة 1936 قد تحدثت عن سجن «عتليت» المسوّر بأسلاك شائكة. سيأتي يوم يحتاج فيه الفلسطينيون إلى ذاكرة قوية، ليحفظوا أسماء السجون ومراكز التحقيق، بعد أن أصبح السجن جزءاً من حياتهم اليومية، وغدا إضراب المساجين عن الطعام طقساً متواتراً، تطلعاً إلى اعتقال بلا إهانة قبل أن يصلوا إلى كلمة: الحرية.
تقع عين المتفرّج على الشريط الإخباري السريع في «تلفزيون فلسطين»، إن كان مصرّاً على متابعة الأخبار هذه الأيام، على الجمل التالية: أم تضرب عن الطعام تعاطفاً مع ابنها الذي لم يذق الطعام منذ عشرين يوماً، صبي يشارك والده إضرابه عنه الطعام، وأصدقاء السجين، الذي يكاد أن يحتضر، يدخلون إلى ما دخل إليه، شاعرين بالقهر والألم والحزن معاً، ومسيرة بالمشاعل في بيت لحم لنصرة السجناء في كلمات الأم والابن والصديق والمسيرة ما يشير إلى شعب سجين، أرهقه عالم بلا ذاكرة، وخذله تداعي القيم الإنسانية في أكثر من مكان. أدمن الفلسطينيون عذابات «الحاجز»، الذي هو اعتقال يومي محدود، وسطوة «الجدار العازل»، الذي يحوّل المسافة الصغيرة إلى مشوار طويل، وتعايشوا، من دون أن يتعايشوا، مع الاحتلال الذي صيّر»المناطق المحتلة» إلى سجن كبير.
يكشف الاحتلال – السجن، في ألوانه الرمادية الموشاة بالدماء، عن ثنائيات حفظها الفلسطينيون عن ظهر قلب: الاحتلال/ المواجهة، التي تنتهي بعظام مكسرة وبيوت مهدّمة، الضحية/ الجلاد والعدل المنتظر فـ «محكمة التاريخ» كلمة فارغة، الاحتجاج/ الاعتقال، إذ يعطي الإسرائيليون الاعتقال أشكالاً متعددة: الاعتقال القانوني، الذي يبدأ بأمن إسرائيل وينتهي به، الاعتقال الإداري، القام على الشبهة وأحوال المناخ، الاعتقال الجماعي، المرتبط «بسكين» وجندي قتيل وقرية فلسطينية منكوبة فات أهلها موسم الحصاد، والاعتقال السري، حيث موقع المشتبه به لا يعرفه أحد. وإذا كان في «الاعتقالات»، على مستوى الكلام، ما يذكر بسجين وغرفة مظلمة، فإن للسجن الانفرادي أنيابه العجيبة. ففي صور المساجين الذين أضربوا عن الطعام منذ ما يعطّل الروح ويخرس النظر.
سجين أقرب إلى كومة من عظام تغطيه ملابس بيضاء طويل اللحية يسأل علاجاً لا يأتي، عينان واسعتان مثبتتان فوق وجه لا لون له تنتظران رحمة تأتي من موقع ما، مريض فوق سرير حديد يحدّق في الفراغ، نسي الحركة واجتاحته أوجاع المرض… والمريض هنا موجود بصيغة الجمع: هناك ما يزيد على 1200 أسير يعانون أمراضاً مختلفة، منهم 140 لهم أمراض مزمنة خطيرة كالسرطان والقلب والكلى والضغط والسكر، و185 أسيراً يقيمون في شكل دائم في ما يسمى «مستشفى مراج بسجن الرملة» لا يستطيعون الحركة، ولا ينتبه إلى حركتهم وسكونهم أحد.
ربما يكون في ما يدعى «عزل الأسرى» ما يضيء، سريعاً، أسباب المرض، بدءاً بالغرف الضيقة الرطبة ونقص الضوء والهواء وسوء الطعام وتقنين الحركة… قد يبقى الأسير في زنزانته 23 ساعة، وإن سمح له بالخروج إلى «الساحة» يكون مقيد الأرجل والأيدي. ما الفرق بين الزنزانة المظلمة و «بقعة مشمسة» يكون فيها السجين مقيد الأوصال؟ واللافت أن العزل الانفرادي، الأسود والدامي المأسوي والهازل، لا أسباب واضحة له، يأتي بدواعي الأمن، وبذريعة مراقبة الإرهابيين، وقد يصل إلى خمسة عشر عاماً حال الأسير أحمد شكري من سكان رام الله، وهناك اليوم 16 أسيراً وأسيرة تم «عزلهم» في سجـن الرمـلة، منـذ اندلاع ثورة الأقصى، قبل نحو عشرين عاماً.
اعتاد الفلسطينيون، منذ «أيام العرب» بلغة إمييل حبيبي، أن يقرنوا بين أسماء البلدات وثمار أرضها، فتحدّثوا عن «عنب الخليل» و «برتقال يافا» و «زيتون الجليل»، قبل أن يقرنوا بين بلدات كثيرة ومجازر واسعة. يستطيعون اليوم أن يتعرّفوا إلى ما تبقى من أرضهم بأسماء «مراكز التحقيق»، التي تبرهن تعدديتها عن «اتساع السجن الفلسطيني» وتحوّل الأسر إلى علاقة من علاقات النهار. تبلغ هذه المراكز، التي يعتبر فيها التعذيب الواسع الخيال، عملاً قانونياً – بالمعنى الإسرائيلي – 11 مركزاً، لها أسماء عبرية، ذلك أن الذي له الحق في الاحتلال له الحق في التسمية، تفترش الأرض الفلسطينية المثقّبة بتحصينات «المستوطنات» المتوالدة: مركز على الطريق بين حيفا والناصرة، وآخر في القسم الشمالي من القدس (المسكوبية) أقيم في فترة الانتداب، وثالث على أطراف نابلس (حوّارة)، ورابع في جنوب الخليل، وآخر في جنوب شرق رام الله، وهناك ما تلتحق به بيت لحم وجنين وكفر قدّوم، ومركز عسقلان الذي احتفظ باسم قديم. وفوق هذا جميعاً يوجد «السجن السري» الذي ينفذ المتخيّل الفلسطيني إلى داخله، حتى لو كان سريّاً.
لا تنفصل مراكز التحقيق، التي هي عتبات للسجون، عن «تنوّع الفلسطينيين الإرهابيين» الذين تعالج خللهم القضبان الكهربائية والترويع الليلي المنظّم، الذي يأخذ شكل غارة عسكرية، والكلاب البوليسية الضخمة المقتلعة الأسنان، التي تطلق في هزيع الليل الأخير على رقاب هزيلة، تظل في مواقعها بفضل «العطف الإسرائيلي»، الذي يقتلع اسنان الكلاب المدرّبة.
روى سجين قديم، أُفرج عنه بعد خمسة عشر عاماً كوابيسه مع «كلب إسرائيلي» هائل الجسم كان يزوره في منتصف الليل، في شكل منظّم، يصفعه بقوائمه، المقتلعة الأظافر ويعمل على خنقه، ويبول عليه، ولا يترك الزنزانة الضيّقة إلى بعد أن «يحاول» أن «يغتصبه» أكثر من مرة، كما لو كان ضابطاً يتقن عمله، يجمع بين العنف و «الشذوذ الجنسي».
أما ألوان «الإرهابيين» فمتنوعة (عدد السجناء الإجمالي اليوم 7000)، بينهم رجال يخوضون إضراباً مفتوحاً منذ شهرين متتاليين (محمد جمال النتشة ونزال رمضان والمقدسي محمد أبو طير… وآخرون)، ومنهم نساء وصل عددهن خلال العام 2015 إلى 252 إمرأة، ولبعضهنّ أحكام في السجن طويلة (شروق صلاح إبراهيم دويات 16 سنة، عطايا خليل خمس سنوات، مرح جودت باكير 8 سنوات)، على سبيل المثال. إضافة إلى غرامات مالية عالية. وللأطفال الفلسطينيين مكانهم أيضاً، فدولة إسرائيل «الديمقراطية» تعتقل ما يقارب 480 دون سن الـ18، وهناك القادة السياسيون (مروان البرغوثي محكوم عليه بالمؤبد 5 مرات وأحمد سعادات 30 عاماً…). يذكر هنا أن القاضي الإسرائيلي حكم، قبل عشرين عاماً على صبي من غزة، عمره أربعة عشر عاماً، بالمؤبد ثلاث مرات، لأنه صنع «قنبلة من الكحل»، بلغة الصبي. لفظ الصبي البريء، المصور تلفزيونياً، القاف كافاً، واعتبر أن الكحل هو البارود، لأن المادتين لهما لون السواد.
غير أن للكيان الاستيطاني العنصري، الذي ينقّب باحثاً عن «عظام نخرة» عمرها أكثر من 2000 عام، تميّزه الإرهابي ، فإسرائيل هي البلد الوحيد في العالم الذي يعتقل الأموات، فلدى سلطة الاحتلال 250 جثماناً محتجزاً، و70 مفقوداً، ولا تزال منذ 30 عاماً ترفض تسليم جثمان الشهيدة دلال المغربي، ولا تعترف بوجود مساجين قضوا جوعاً، كانوا أرقاماً ذات مرة، وصاروا لاحقاً أرقاماً لا وجود لها.
كان عاطف أبو سيف، ابن غزة، قد نظر إلى اضطراب معيشه وكتب رواية «حياة معلقة»، متأسياً على نزاع فلسطيني بين الفلسطينيين لا يحتمل. بإمكانه، كما بإمكان غيره، أن يكتب رواية متعددة الأجزاء عنوانها: «حياة مقيّدة»، تستهل بالتحقيق الذي هو «درس ضروري في الانضباط بالمعيار الإسرائيلي»، يتلوه السجن الذي هو درس في «التربية الضرورية» التي تكفل الأمن والحكم المريح. وبين الانضباط والتربية تقوم الحياة – التجربة، التي عرفها الفلسطينيون منذ عقود، معتبرين أن في ظلام السجن القديم «وميضاً» ما، وأن الكحل بديل البارود، كما اعتقد الصبي الغزاوي الذي حكم عليه بالمؤبد ثلاث مرات.
سرد السجين الفلسطيني، من أيام الانتداب إلى زمن «جيش الدفاع تفاصيل حكاية مفتوحة عنوانها الأول: الإخضاع، الذي يسعى إليه جلاّد قديم، وعنوانها الثاني: المواجهة، التي يتداخل فيها الجسد والروح والعقل والعاطفة والكرامة والفداء ويتراءى فيها، وراء غبش كثيف، عنب الخيل وزيتون الجليل وتحدي المحتل الدخيل.
تحصل اليوم جولة مواجهة جديدة لن تأتي بجديد، لكنها تبرهن أن الأمل الفلسطيني لم يصبح قديماً.
المصدر: الحياة