تحاول الفلسطينية وداد طه في روايتها “حرير مريم” المزج بين التأريخ والتوثيق والحكايات الشخصية المستعادة على هامش النكبة الفلسطينية، وتقارب جانبا من التصاعد الخطير في وتيرة
الطائفية في لبنان والمنطقة، وانعكاس ذلك على أبناء البلد الذين يسلبون وطنيتهم لصالح انتماءات مذهبية وطائفية ضيقة تشكل قيودا عليهم.
تشير طه من خلال تركيزها على الذكريات والتاريخ إلى أن قدر الفلسطيني أن يعيش محنة أهله التاريخية ويناهض الاحتلال بالتذكر، لأن الذاكرة هي التي يسعى المحتلون إلى محوها وإحلال ذاكرة بديلة مشوهة عنها، بحيث تمحى الحقائق التاريخية لصالح فرض وقائع وأحداث ملفقة وتصديرها على أنها الأصل، وهنا يكون الصراع المحتدم على الاحتفاظ بالذاكرة والإيغال في التذكر وسرد الذكريات، لأن الذكريات لا تعود بهذه الحالة ملكا لصاحبها، بل تغدو إرثا جماعيا ينبغي المحافظة عليه وتوثيقه.
تختار طه في روايتها (منشورات الفارابي، بيروت 2017) شخصيات نسائية في توثيق مرحلة النكبة، ثم مرحلة النزوح والبقاء في المخيمات، وبعدها الاقتتال الأهلي، والتشتت الذي تسبب فيه، والشروخ التي رسخها بين المخيم وجواره.
ومن شخصياتها لمى التي تكون في مرحلة الإعداد للزواج، تناقش مع خطيبها بيير مقترحات السكن والاستقرار، لكنها تصدم وتنتكب بفقده في تفجير مدمر في بيروت، وتدخل مرحلة يأس وضياع، تنتشلها منه الجدة مريم بحكاياتها التي تمنحها شيئا من الأمان والراحة، وتعقد مصالحة بينها وبين واقعها.
خياطة الحكايات
لمى التي تجد نفسها في بيت مريم في الزعتر بلبنان، تتفاجأ بتعرفها إلى نفسها هناك، تكون مريم دليلها إلى ماضيها وتاريخ أهلها أيضا، تكتشف جرائم كان والدها قد شارك فيها. تعود إلى ذاك الزمن الدموي الذي شهد حروبا أخوية بين جماعات وأطراف لبنانية وفلسطينية وبمشاركة النظام السوري حينها وتأليبه الأطراف المتناحرة على بعضها.
مريم هي الجدة الحافظة لإرث العائلة والوطن، وحرير مريم هو حرير الذاكرة نفسه، تغزله بصبرها وأناتها وإبداعها وحبها ليكون عتبة عبور إلى تاريخها، إلى أهلها المنكوبين، إلى بدايات التهجير وما صاحبها من عنف ووحشية وإراقة دماء من قبل الصهاينة وبتواطؤ من المحتلين الإنجليز.
تنسج الخياطة مريم خيوط الذكريات وتحتفظ عبرها بتفاصيل الذاكرة التي تشهرها كسلاح في وجه النسيان الذي يفضي إلى الضياع، تتماهى مع وطنها المسلوب بالفقد.
تراها تؤثث عالمها الصغير بناء على حياتها السابقة حين كانت تعيش في فلسطين، قبل أن يتعرض أهلها لإجرام عصابات الصهاينة التي أحرقت كثيرا من القرى وهجّرت أهلها وفتكت بهم بطريقة انتقامية في مسعاها لتغيير الخريطة السكانية في البلاد.
تنوع الكاتبة في رسم شخصيات رجالية تحاصرهم الخيبة رغما عنهم، هناك مرعي، إبراهيم، بيير، والد لمى، عبد الحفيظ، أحمد، محمود، يحيى، وهؤلاء تفترق بهم السبل ويقعون فرائس هزائم متتالية تفرضها عليهم ظروف الحياة، ولا يفلحون في إنقاذ أنفسهم أو أهلهم من الضياع الذي يتربص بهم في حياتهم.
تؤرخ طه على لسان بطلتها بعض الأحداث المحفوظة في ذاكرتها بداية النكبة، حين كان فجر التاسع من تموز 1948، وبدأت الحملة العسكرية ديكل، أي النخيل، على قرى الجليل، وكيف أن الحملة انقسمت إلى مرحلتين وكان الهدف منها الوصول إلى احتلال الناصرة، والقضاء على القرى الفلسطينية التي عرفت مقاومة ووجد فيها جيش الإنقاذ العربي.
قيامة فلسطين
العودة إلى الأمكنة الأثيرة تحمل معاني كثيرة، وبرغم أن لمى تعود إلى القدس بجنسية أجنبية فإنها تعيش عراقة المكان وتتشرب عبقه، تستمتع إلى حكايات الباقين هناك ومعاناتهم ومراراتهم وصمودهم الأسطوري في ظل الاحتلال.
كما أن عودتها لبيروت تنكأ جراح روحها، تصرح ليحيى أنه في الحرب يختفي الزمن، تفقد الأيام معانيها، أما بعد الحرب فيموت الزمن مع كل دمعة عين وغصة قلب لمن فقدوا أعزاء لهم فيها، وحين يبدأ المسؤولون إحصاء الأضرار التي خلفتها الحرب، ويجلسون على عروش من أضرحة الشهداء ترتفع شواهد القبور.. ترمز إلى أن القبر هو المكان الذي يلم شمل الأسرة الغريبة في ضياعها المؤسف.
ذكرت الروائية أنها لم تسعَ إلى استجرار عطف القارئ أو ابتزاز مشاعره ليتضامن مع مريم في حزنها الطويل، وتاليا مع شعب فلسطين وتقول “أنا فقط أردت أن أحكي قصة صغيرة عن امرأة عادية ككل النساء، صارت بحجم فلسطين بل الوجود حين خسرت أبناءها بصمت.
وعن معاناة الفلسطيني الماضية المستمرة تقول طه “ما زال الفلسطيني يحيا غصصه وملحمته أمام أعين العالم، ومازالت جدتي أمام عتبة البيت تنتظر عودتهم التي لن تكون، كأني أردت أن أجمعهم ولو بين الكلمات في حبكة من وجعهم”.
وتلفت إلى سبب تسميتها لبطلة روايته مريم بالقول “لأنها مقدسة، ولأن العالم صلب أبناءها ووطنها، وجعلتها خياطة لأنني أردتها أن تغزل رؤيتنا للعالم وتحيك لنكبتنا ونكباتنا اليومية قميصا يبشر بقيامتنا الآتية.. قيامة فلسطين، ولهذا أبقيت يحيى بطلا يمسك بيد البشرية نحو الآتي وهو عنوان الفصل الأخير من الرواية”.
المصدر : الجزيرة