بعد حملة انتخابية شرسة لم يشهد لها الفرنسيون مثيلا، أطبق الصمت على البلاد لـ 24 ساعة، قبل أن تشرق شمس اليوم الأحد، لتعطي شارة الإنطلاق للجولة
الثانية للانتخابات الرئاسية.
مواجهة منتظرة لا تقل شراسة بين المرشح الوسطي ايمانويل ماكرون، واليمينية المتطرفة مارين لوبان، في اقتراع دعي إليه نحو 47 مليون ناخب، ويقر الجميع بأنه يشكل نقطة ارتكاز في التاريخ المعاصر لفرنسا.
تدابير أمنية مشددة
لتأمين هذا الإقتراع الذي يجري في أجواء حالة الطوارئ المفروضة في البلاد، نشرت السلطات الفرنسية –كما في الدور الأول- نحو 50 ألف من الشرطة والدرك، في كامل أرجاء البلاد.
قوات تعزّز الـ 7 آلاف عسكري التابعين لعملية “سونتينال”، والمنتشرة بدورها في البلاد منذ استهدافها بالهجمات الإرهابية في يناير/ كانون ثان 2015.
المتحدث باسم الداخلية، بيير هنري براندي، قال في تعقيب له، إن هذه التدابير الأمنية تعتبر مكثّفة و”غير مسبوقة” مقارنة بالانتخابات الرئاسية السابقة (2012)، ويحتمها “السياق المختلف تماما” لإقتراع هذا العام.
وفي توضيحه للجزئية الأخيرة، تحدث براندي، في تصريحات إعلامية، عن “التهديدات الإرهابية” و”حالة الطوارئ” التي تأتي في إطارها هذه الجولة من الإقتراع المصيري.
وأضاف: “قبل رئاسية 2012، استهدفنا أيضا بهجمات (محمد مراح الذي قتل 7 أشخاص)، وهو ما استدعى مستوى عال من اليقظة، وهذه الضرورة الأمنية ما انفكت تتزايد في السنوات الـ 5 الأخيرة”.
غير أن تكثيف الإجراءات الأمنية لن يقتصر، وفق براندي، على تأمين الإقتراع نهارا فحسب، وإنما تشمل مرحلة ما بعد الإعلان عن النتائج الجزئية المنتظرة انطلاقا من الساعة (20.00) بالتوقيت المحلي (18.00 تغ) اليوم.
تدابير استباقية تأتي في وقت تخشى فيه السلطات اندلاع أعمال شغب من أنصار المرشح الخاسر، ولذلك، تقرر “نشر دوريات ثابتة للشرطة لتأمين محيط مكاتب التصويت، والتحرّك فورا حال وقوع أي حادث”، حسب متحدث الداخلية.
سياق انتخابي “خاص جدا”
حين تساءل فرانسوا بايرو، رئيس حزب “الحركة الديمقراطية” (وسط)، “متى يمكن الجزم بالفوز باقتراع ما؟”، أجابه المختص الإقتصادي، جان سيريزي (مستشار الرئيس فاليري جيسكار ديستان (1974-1981): “حين تحرز نقطة إضافية في استطلاعات الرأي”.
ردّ يقدّم، وفق المراقبين، صورة مثالية عن نسبية نتائج اقتراع يكتنف أهمية لا تقلّ عن السياق الذي يأتي فيه.
آخر استطلاع نوايا التصويت في الدور الثاني، أجرته “إيبسوس- سبورا ستيريا”، وشمل عينة من 8 آلاف و200 فرنسي، منح مرشح حركة “إلى الأمام” 63 % من الأصوات مقابل 37 % لمنافسته زعيمة «الجبهة الوطنية».
هذه النتائج التي نشرت مساء أوّل أمس الجمعة، أي مباشرة قبل سريان الصمت الإنتخابي، سجلت تراجعا لمرشحة اليمين المتطرف بـ 2.5 نقطة مقارنة مع استطلاع سابق جرى في 30 أبريل والأوّل من الشهرالجاري.
تراجع فسره أسبابه المحللون السياسيون بـ “العدوانية الكاذبة وغير المنضبطة” للوبان، خلال المناظرة التلفزيونية مع ماكرون الأربعاء، وفق ما نقلته صحيفة “لوموند” المحلية، والتي أشارت أن هذا التراجع سجلته استطلاعات أخرى لشركات مختلفة.
أرقام تقلّص السيناريوهات المحتملة لإقتراع يأتي في سياق “خاص للغاية”.
فمن جهة، يخيم شبح التأثيرات السلبية لاستبعاد مرشحي التيارات التقليدية (اليمين واليسار) منذ الدور الأول، مع ما يطرحه ذلك من احتمال تزايد عدد الممتنعين عن التصويت.
من جهة أخرى، وخلافا لرئاسية 2002 بين اليميني جاك شيراك واليميني المتطرف جان ماري لوبان، فإن صعود الأخير إلى الدور الثاني أفرز تعبئة واسعة النطاق، ما منح نسبة المشاركة في الجولة الثانية آنذاك، 8 نقاط إضافية مقارنة بالدور الأول، ودفع نحو فوز شيراك بنتيجة تاريخية (82.2 %).
لكن هذه المرة، يُخشى أن يتراجع إقبال الناخبين مقارنة بالدور الأول (78.8 %)، وذلك بناء على تقديرات “إيبوس – سبورا ستيريا”، والتي استشرفت تراجعا بنقطتين، لتستقر نسبة المشاركة عند 76 %.
الورقة البيضاء.. تصويت ضدّ ماكرون
يقر المختصون بأن تقدّم ماكرون في استطلاعات الرأي ينبغي أن لا يجعل جهود المرشح منصبة على إدارة رصيده الإنتخابي التقليدي، معتبرين أن التحدي الحقيقي لا يكمن في الفوز فقط، وإنّما بالحصول أيضا على نسبة تصويت عالية تمنحه “شرعية” شعبية أكبر لتقلّد أعلى منصب.
شرط يعتبر محوريا في حال أراد المرشح نزع الشرعية اللازمة لتطبيق برامجه الإصلاحية، والمحافظة على فرصه في الحصول على أغلبية خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وعلاوة على العزوف عن التصويت، قد يستهدف ماكرون بما يعرف بـ “التصويت الإحتجاجي”، أو التصويت الأبيض أو الفارغ، أي تقديم ورقة بيضاء لا تحمل اسم أي مرشح.
ولئن لا يتم احتساب هذه الأوراق ضمن الأصوات عند الفرز، إلا أنها يمكن أن تستقطب عددا مهما من الناخبين المعادين للنهج الليبرالي لوزير الإقتصاد السابق، ما يكشف في النهاية درجة عدم الرضا تجاه المرشح، بل قد تترجم رفضا تاما للعرض الانتخابي برمته للدور الثاني.
منحى سلبي محتمل بقوة، في وقت تظهر فيه الاستطلاعات أن جزءا كبيرا من ناخبي المرشح الخاسر لليسار الراديكالي، جان لوك ميلونشون، ومن ناخبي هذا التيار عموما، يرفضون تماما التصويت لمرشحيْ الدور الثاني.
والشعارات التي رفعوها خلال مسيرات شهدتها، مؤخرا، بعض المدن، أكبر دليل على ذلك: “لا مارين ولا ماكرون”.
وكالات