بقلم: غازي دحمان
التطور الجديد في سياق الثورة السورية، تطور ميداني، وهندسة ميدان الثورة، قوامها إعادة هيكلة الكتائب المقاومة وتنظيمها
في إطار الجيش الحر. من حيث الشكل، تحمل هذه الخطوة في طياتها إيجابيات كثيرة، لعل أهمها ضبط سلوك وفعاليات هذه الكتائب وضمان عدم تحولها إلى حالة فوضوية، خاصة في ظل تكاثر الحديث عن سلوكيات مسيئة للثورة تمارسها بعض الكتائب والأجنحة في المناطق التي حررت من قبضة جيش النظام، مما يحول هذا السلوك إلى دعاية مجانية للنظام.
وثمة إيجابية أخرى تتمثل في ضمان تنسيق خطط هذه الكتائب وتوحيد جهودها في سبيل تحقيق أهدافها، حيث تعاني هذه الكتائب من فرط جهودها وتبعثرها وانقسامها لدرجة وصلت فيها الأمور إلى عدم مناصرة الكتائب بعضها لبعض في مناطق معينة بسبب اختلاف الانتماءات والتوجهات.
ومما لا شك فيه أن الكتائب المقاتلة تنطوي على طيف واسع من الانتماءات والتوجهات، حيث تلعب هذه الاعتبارات دورا مهما في طبيعة تحركها، كما يوضح شكل توزعها الجغرافي وطبيعة المنتمين لها هذا العامل بشكل واضح، حيث يوجد في الساحة تشكيلات معينة، كالجيش الحر الذي يضم المنشقين عن جيش النظام وكذلك بعض الأشخاص الذين أدوا الخدمة العسكرية سابقا وانضووا من جديد في إطار الجيش الحر، ويتميز هذا الجسم بكونه الأقرب إلى التنظيم السياسي للثورة، كما يتمتع بصدى جماهيري نظرا لانخراطه المبكر بالثورة، وكذلك لما يتمتع به من حالة انضباط واضحة، إضافة إلى كونه يشكل جناح الثورة العسكري الحقيقي والمعترف به وينظر إليه باعتباره نواة جيش سوريا المستقبلي.
إلى جانب ذلك توجد كيانات كثيرة، أغلبها ذات مرجعيات إسلامية يتضح ذلك من تسميات كتائبها، وقد ظهرت هذه الكيانات في مرحلة لاحقة من الثورة، يطلق على بعضها تسمية الجيش الحر، إلا أنها تختلف عن هذا الأخير من حيث هيكليتها وتراتبيتها وكذلك من حيث نظرتها للثورة ومستقبل الحكم في سوريا، وتشكل مروحة كبيرة من المرجعيات، وتقسم لثلاث جبهات:
جبهة تحرير سوريا الإسلامية: تتألف من 20 لواء وكتيبة، وتضم مجموعات قريبة من “الإخوان المسلمين” المعارضة، مثل “لواء التوحيد” الذي يعد أبرز المجموعات المعارضة المقاتلة في محافظة حلب. كما تنتسب إليها مجموعات إسلامية مستقلة، مثل “كتائب الفاروق” الناشطة في حمص والمناطق القريبة من الحدود التركية. ويرتبط عدد كبير من هذه المجموعات بـ”الجيش السوري الحر” الذي يشكل مظلة لغالبية المقاتلين المعارضين للنظام السوري، وتعد هذه الجبهة أبرز المجموعات الإسلامية في البلاد.
الجبهة السورية الإسلامية: تعد هذه الجبهة الصغرى في المجموعات الإسلامية لكنها أكثر تنظيما وهيكلة من “جبهة تحرير سوريا الإسلامية”. وتتوزع هذه الجبهة ذات التوجه السلفي في مختلف الأراضي السورية، وتقودها “كتائب أحرار الشام”، ويقدر الخبراء أن الجبهة، التي لا تعد جزءا من الجيش الحر، تضم نحو 25 ألف مقاتل، وهو رقم لا يمكن التحقق منه. وتؤكد الجبهة في شرعتها سعيها للوصول إلى دولة مرتكزة على الشريعة الإسلامية. وفي حين تضم الجبهة عددا من المقاتلين الأجانب، فإن قادتها سوريون ويشددون على أنهم مرتبطون حصرا بالنزاع في سوريا.
جبهة النصرة: هي المجموعة الإسلامية الأكثر شهرة في سوريا، لكنها ليست الكبرى حجما. تنتمي الجبهة إلى تيار “الجهاد العالمي”. وفي حين تشدد المجموعات الإسلامية الأخرى على أن اهتمامها محصور بالقتال في سوريا، أعلنت هذه الجبهة مبايعتها الظواهري. وتبنت الجبهة العديد من الهجمات التي نفذ عددا كبيرا منهم انتحاريون، واستهدفت في غالبيتها مقار أمنية وعسكرية. وتشير التقديرات إلى أنها تضم في صفوفها قرابة 6000 مقاتل.
بالإضافة لذلك ثمة مكون ثوري آخر يتكون من الكتائب الكردية، وهي تعمل في مناطق الأكراد حصرا وتتبع مرجعيات سياسية محددة وواضحة، مثل “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، تتميز بالانضباط وفق أجندة سياسية وعملها غالبا له طابع محلي لا يتعدى حماية المناطق الكردية خاصة في حلب والشمال الشرقي، ولا ينفي ذلك انخراط الشباب الكردي في فعاليات الثورة السورية عموما وفي عموم سوريا.
تؤكد سياقات الأحداث عدم وجود تنسيق كامل بين هذه الكتائب الموجودة على الأرض “المقاتلة” وليس في ذلك سر، بل ثمة تعارض وتناقض يسود بين هذه الكتائب، ولكن الأكيد ووفق معطيات كثيرة أن هذه الكتائب تتعايش بعضها مع بعض وتتوحد على قاعدة إسقاط الأسد، والمؤكد وجود تفاهم ضمني بينها عبر عنه الكثير من قادة الكتائب الموجودة في دمشق وريفها، يشتمل هذا التفاهم على عدم الانجرار إلى الصراع بينها واحترام مواقف ومناطق كل منها، إضافة إلى قضية لوجستية، وهي وجود درجة معينة من الاعتمادية بين هذه الكتائب.
بناء على ذلك من شأن أي محاولة لإعادة وهندسة ضبط الواقع الميداني أن تؤثر بشكل جدي على فاعليته، مما قد ينعكس على شكل انهيارات أو صراعات بين هذه المكونات، ويمنح الفرصة للنظام لاستعادة زمام المبادرة في مناطق إستراتيجية مهمة خاصة في دمشق، وفي الواقع تشكو الكثير من الكتائب المقاتلة، خاصة في جنوب العاصمة وشرقها، من محاولات العبث هذه، حيث تعمد بعض الجهات المنخرطة في مشروع إعادة هندسة مسرح المعركة إلى تضييق الخناق عليها وحرمانها من الأسلحة والذخائر والمؤن، مما يهدد بانسحاب هذه الكتائب من الميدان أو يجعلها فريسة سهلة للنظام.
والإشكالية تكمن في أن انهيار هذه الكتائب من شأنه أن يؤثر على قوة الجيش الحر، خاصة أن جزءا منها يشكل رأس حربة ومقدمة لهذا الجيش. إضافة لذلك بدأت تظهر في بعض مناطق العاصمة الجنوبية ما يطلقا عليه مجموعات “الصحوات” خاصة في الحجر الأسود والقدم، وهي كتائب مدعومة من وجهاء العشائر وتذكر بتجربة العراق، مهمتها محاربة بعض الفصائل الإسلامية خاصة ذات الفكر العقائدي.
الإشكالية الكبرى التي تواجه مثل هذا التنظيم تكمن في أن النظام نفسه بات يعتمد على هذا النمط من الكتائب المقاتلة في مواجهة الثورة عبر استدعاء مقاتلين من أفغانستان والعراق “كتائب أبو الفضل العباس” ومقاتلي “حزب الله”، وهو ما يهدد المناطق التي تؤوي الكتائب الإسلامية بالإبادة على أساس طائفي دون وجود حماية أو ضامن لها. وتتمثل الإشكالية الثانية بالنزوع الطائفي لدى النظام نفسه الذي لن يألو جهدا بإبادة المناطق التي تؤوي المقاتلين الإسلاميين في حال خروج هؤلاء من الميدان، وهذه ليست هواجس وتخوفات، هذه حقائق عاينها سكان تلك المناطق سابقا.
الإشكالية الأخرى أن إنجاز هذا الأمر، أي إعادة هندسة ميدان المعركة، مسألة تستغرق وقتا طويلا، كما أنها عملية غير مضمونة النتائج، فهي مغامرة لا تملك الثقة اللازمة لتنفيذها، خاصة أن الدول التي ترعاها وتشرف عليها أعلنت صراحة أن خياراتها باتت أكثر توافقا وتهادنا مع الرؤى الدولية والإقليمية التي لا ترغب بإنجاز نصر حاسم للثورة السورية وأنها تميل أكثر إلى منطق التسويات السياسية، وقد لا يكون في ذلك عيب، لكن المشكلة أن التسوية ستكون لصالح الطرف الأقوى ميدانيا، وفي نهاية هذه الإجراءات سيكون النظام حتما هو الأقوى.
العبث بميدان المعركة بيد خارجية أمر خطير جدا، الأفضل أن تترك الثورة تنجز مهمتها بإسقاط النظام، وهي قادرة بعد ذلك على تصحيح مساراتها، التقديرات والحسابات المترددة هي من أخرت معركة دمشق والحسم في حلب ودرعا ومناطق كثيرة، ومع كل تأخير يزداد تأزم الجرح السوري وتترسخ حالة الاستنقاع التي تفرز في داخلها كل هذا العفن المؤذي.