بقلم: باسل حفار
إن حالة التخلي التي تعيشها الثورة السورية والتي اضطرت العديد من أبناء هذه الثورة إلى القيام بما لم يكن من المفترض أن يقوموا به بأيديهم، أمر يستدعي الاهتمام ويستوجب العمل الجاد والمدروس الدقيق بما يضمن أن يؤدي إلى إنجاز حقيقي تثمر عنه نتائج واقعية ملموسة تدفع بعجلة الثورة إلى الأمام.
مجتمع دولي متردد:
رغم كل التصريحات الهزازة التي نسمعها بين الفينة والأخرى من قبل زعماء ومسؤولين عرب وأجانب حول ما يحدث في سوريا إلا أنه لا يخفى على المتابع حالة البرود الواضحة والتردد الكبير في دعم الثورة السورية من قبل المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا.
وهذا أمر وإن بدا غريبا عندما ننظر إليه من زاوية المأساة التي تعيشها سوريا إلا أنه طبيعي جدا عندما نستذكر التجربة التي خاضتها أميركا في أفغانستان والعراق في فترة سابقة.
وبحسب العديد من المحللين فبعد هاتين الحربين لم يعد المواطن الغربي والأميركي خصوصا داعما فعليا لأي قرار يتضمن عملية تدخل خارجي ملموس في شؤون أي بلد من البلدان حتى إن القيادة الحالية للولايات المتحدة إنما تغلبت على منافسيها عبر وعودها بإخراج الأميركيين من تبعات المشاركة في حروب خارجية تسببت لهم بكره عالمي وجعلتهم أهدافا لفئة واسعة من البشر واضعفت هيبتهم ومكانتهم الاقتصادية والسياسية بين الدول.
كما أن الأزمة السورية على رغم تعقيدها والفظائع والمجازر التي ترتكب فيها، ليس لها تأثير مباشر على مصلحة المواطن الأميركي، فالمواطن الأميركي لن يخسر شيئا ملموساً بخسارة سوريا ولن يتوقف شيء من مصالحه بتوقف عجلة الحياة في سوريا أو حتى اختفائها عن الخارطة ربما.
وعليه فطالما أن المواطن الأميركي خصوصا والأوروبي عموما لا يشعر بخسارة شيء في سوريا فسيبقى تعاطفه مع ما يجري في هذا البلد تعاطفا معنويا من الصعب تحويله إلى دعم ملموس حقيقي على الأرض.
ثم إن سوريا لا تحوي موارد أساسية كالنفط وخلافه يمكن أن يؤثر سقوطها في الأيدي (الخطأ) على الاقتصاد الأميركي أو الغربي عموما وبالتالي وبحسب رأي العديد من السياسيين الغربيين ليس هناك الكثير مما يمكن أن يخسره الغرب وأميركا في حال سمحوا لدول أخرى بالتدخل (ولو مؤقتاً) في الوضع السوري لحين تمكنهم هم من ترتيب الأوراق بالطريقة التي تلائمهم.
عدم التدخل الغربي الفاعل لدعم الثورة في سوريا تمت ترجمته في الأوساط العربية والإقليمية إلى حالة من الإحجام عن المساس بالوضع في سوريا، كون هذه القوى لا تستسيغ ولا تتحمل فكرة اللعب خارج الملعب الدولي، وكنتيجة مباشرة لهذا الوضع فقد انتهت الأمور إلى حالة من التخلي عن الثورة السوريا التي ما انفك أبناؤها يصعدون الأمور ويقدمون التضحيات تلو التضحيات على طريق المواجهة مع النظام.
أفكار متشددة تنمو سريعا في الساحة:
وكتحصيل حاصل لحالة التخلي هذه فقد وجد الثوار أنفسهم أمام خيارين: أولهما يتمثل في التخفيف من وتيرة الاحتجاج وعيش حالة من الركود لحين تكشف الأمور أكثر وضمان مصادر الدعم وهو ما حصل في حالة حماة ومناطق الساحل مثلا، أو (الخيار الثاني) استمرار التصعيد والإبداع بما هو متوفر بين الأيادي والاعتماد على “مصادر أخرى” غير المطروحة على الساحة يمكنها أن تعمل خارج نطاق السياسات العالمية لتوفير الدعم وهو ما حصل في مناطق سوريا الأخرى وفي مقدمتها حمص وحلب ودمشق.
هذا علما أن مصادر الدعم (الأخرى) هذه ليست في الغالب مصادر شفافة أو بريئة وإنما هي مصادر لها أجنداتها الخاصة بالنسبة إلى الثورة السورية وإلى طبيعة النظام الذي سيقوم بعدها في دمشق، وفي عواصم أخرى أيضاً.
وعليه وفي ظل غياب الغطاء الغربي والعربي الرسمي، الذي كان يمكن أن يشكل عاملاً موازناً لمصلحة قيام نظام ديمقراطي تعددي في سوريا ما بعد الأسد. فليس من المستغرب مثلا أن نرى طابعاً إسلامياً سلفياً يظهر أكثر فأكثر في الشعارات والسلوك والوجهة السياسية لمسلّحي الثورة السورية ويقوم بمحاولة فرض طريقة تفكيره على مظاهر العمل المسلح في سوريا. وربما مظاهر الحياة المدنية مستقبلاً.
هذا الاستنتاج يقودنا إلى سؤال هام يتبادر إلى الذهن حول موقع النظام من هذه التطورات الكبيرة في الحالة السورية.
عندما كانت الثورة في طورها السلمي حرص النظام كل الحرص على نقلها بأسرع ما يمكن إلى الطور المسلح ولم يكن يومها الأمر مفهوما لدى العديدين وظن الكثيرون أن الأمر ليس أكثر من أن النظام يتخذ قرارا غبيا لا يعرف أبعاده بمحاولة كبت الحراك بالقوة.
ولكن الحقيقة أن النظام كان يدرك منذ البداية أن أسهل وأقصر الطرق لإطالة زمن حكمه هو تحويل مسار الثورة سريعاً إلى الحالة العسكرية بحكم معرفته بطبيعة تفكير المجتمع الدولي اتجاه الوضع في سوريا وخبرته بطريقة رد الفعل للشعب السوري بحكم ممارسات قمعية سابقة مارسها ضده في الثمانينيات وطيلة فترة حكمه الماضية، ولا ننسى أن الشروق المتأخر نسبيا لشمس الربيع العربي على الربوع السورية أعطى الفرصة للنظام لحياكة الخطط والإستراتيجيات التي تلزمه لكبت الحراك.
ولكن ما لم يحسب النظام حسابه ربما ولم يكن يعرف كيف يتعامل معه في حينها هو بقاء العمل الثوري ضمن دائرة الطور السلمي مع تشكل قيادة عسكرية من الجيش السوري تأخذ على كاهلها مسؤولية العمل المسلح.
هذه الإستراتيجية في العمل لو قدر لها الاستمرار والنجاح لشكلت موازنة جديدة غيرت قوانين اللعبة في القضية السورية تماماً، وهو ما أدركه النظام قبل غيره من الأطراف (التي تعاني مشكلة حقيقية في الإدراك على ما يبدو) فحرص باكرا على وأد هذا المسار وحرف مساره إلى المسار الذي يخدم الصورة التي يريدها هو، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن قواعد اللعبة بالكامل وتنفيذ عملية اختطاف في الأراضي التركية لأحد أهم رموز هذا المسار وأوائل الداعين له المقدم حسين الهرموش.
مسار عسكري متعثر بنفسه:
لهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة فقد فشل هذا المسار في المضي قدما في الثورة وظهر بدلا منه مسار آخر مظهره الأساسي عدد كبير من أنصار الثورة وناشطيها المدنيين الذين قرروا رفع البندقية والمسدس بدل القلم واللافتة يدفعهم في قرارهم هذا طروحات وتصريحات كثيرة أوهمتهم بأن المجتمع الدولي يقف من خلفهم وأنه لن يسمح بمزيد من الهدر لدمائهم، وأن نظام بشار بحكم الساقط ولا يمنع من سقوطه إلا تواجد ثلة مقاتلة من أبناء سوريا نفسها تطلق رصاصة الرحمة عليه.
ووسط جهل كبير في كيفية استخدام الأدوات الجديدة وكيفية توظيفها أقدم الآف الشباب في سوريا على بيع الغالي والرخيص لشراء قطعة سلاح لا تساوي في الوضع الطبيعي ربع سعرها في سوق عسكرة الثورة، وراحوا ينظمون أنفسهم في مجموعات وكتائب تحاول جاهدة الصمود أمام آلة عسكرية منظمة تحصد الأرواح حصدا، تقويها مجموعات إجرام بلباس أمني تحرص على القتل كما يحرص غيرها على الحياة.
ومع بداية تشكل هذا المسار استشعرت قوى إقليمية في مقدمتها تركيا خطر هذا التحول ولكنها لم تملك الشجاعة للحديث علنا حول ما أدركته فراحت تلح وتشدد على ضرورة الإبقاء على الطابع العسكري والحرص على العمل من خلال شخوص الجيش المنشقين دون أن تتمكن من إقناع الآخرين بسبب إلحاحها والتزامها بهذا الطرح.
فنتج عن حالة الجذب هذه بين الطرفين تشكل مؤسسة عمل عسكري مشوهة التركيب قوامها عدد كبير من الشباب المتطوعين الذين قرروا أن يبيعوا الدنيا بسقوط النظام يمثلهم مجموعة من رموز سابقين للنظام انشقوا عنه وقرروا ان يبيعوا ما كانوا عليه بوضع جديد يضمن لهم احترامهم ومستقبل أولادهم وعوائلهم.
ولم يكن لهذه التركيبة أن تستمر ما استمرت عليه أو تنجح بشكل من الأشكال لولا آلة دفع إعلامية عجيبة راحت تمجد هؤلاء المنشقين العسكريين وتثني عليهم دون حساب أو مراجعة رغبة في إعطائهم نوعا من الرمزية والقدسية التي ستصعب في المستقبل القريب تجاوزهم أو التخلص منهم.
عقل ثوري يتطور:
ومع مرور الوقت واستمرار حالة التخلي التي كانت وما زالت تعاني منها الثورة السورية اقتنع العقل الثوري بأمور أساسية شكلت منعطفا مهما في طريقة تعامله مع الثورة أهمها:
1- الميادين الخارجية (تركيا، لبنان، أوروبا) بالنسبة للثائر السوري أحد أمرين: إما نقطة اتصال مع الخارج يتم من خلالها توصيل المطالب واستلام المكاسب المعنوية أو المادية وإما ملجأ خوف (مؤقت) لشخص ملاحق لم يجد في أرض سوريا ملاذا يؤمنه، وأما ما هو غير ذلك فليس أكثر من شخص اتخذ موقفا مع الثورة ولم يتمكن من دفع ثمنه فانسحب وترك الآخرين ليقوموا (بالواجب).
2- الإعلام ليس أكثر من أداة تتلاعب بالثورة عن قصد أو غير قصد ومعركة الثوار الحقيقين العاملين في مجال الإعلام ليست مع إعلام النظام فقط ولكنها أيضا مع أدوات الإعلام العربية والأجنبية التي يعيشون معها حالة صراع ليل نهار حول كيفية نقل الخبر وزمنه وطريقة نقله وما يظهر مما لا يظهر. فهم في صراع بين أجندات وأهواء إعلامية خارجية وداخلية يحاول متسلقون أو مستفيدون فرضها وبين واقع مؤلم معقد قد يصعب حتى على أبرع الصحفيين والكتاب التعبير عنه بالطريقة التي تخدم القضية.
3- كل ما هو قائم ومعروف في غالبه ليس أكثر من فقاعات تتحرك بمعية أو تبعية أطراف معينة في المجتمع الدولي يلزم الالتفاف عليها والحصول منها على أكبر قدر ممكن من المكاسب بداعي الاستمرار في الثورة وإن استلزم الأمر نفخ المزيد من الهواء بين الفينة والأخرى لهذه البالونة أو تلك.
4- أفضل طريقة لمواجهة المتسلقين والارتياح منهم سد الباب في وجه الجميع وعدم الانفتاح على أحد مباشرة إلا عندما يتعلق الأمر بالدعم. وكما يقول المثل (الباب اللي بجيك منه الريح سده واستريح).
5- العسكريون ليسوا أكثر من أشخاص مولعين بالقيادة ولا يوجد فيهم من يرغب فعلا بالعمل الميداني إلا ما ندر ومعظمهم يسرق المال إذا وصل إلى يديه أو يتصرف به بطريقة لا ترقى لمستوى الثورة والحدث.
هذه القناعات وغيرها من الأفكار التي تبلورت في أذهان شريحة واسعة من الثوار نتيجة الوضع الذي عاشوه على مر عام ونصف من اندلاع الثورة دفعتهم للتحليق بمفردهم خارجا عن أي سرب معتمدين على أنفسهم أولا وعلى ما يتم سوقه لهم ما بين فترة وأخرى من هنا أو هناك ماضين في طريقهم نحو تشكيل مظهر جديد للثورة المسلحة قوامه سرايا وكتائب وألوية من شباب الثورة يقودهم رجالاتها وأصحاب النفوذ فيها، ليحملوا على عاتقهم مسؤولية العمل العسكري وينتقلوا بالعمل من حالة الدفاع إلى المواجهة ومن طور الركود الثوري إلى النشاط الفوضوي الذي لم يعاينه أحد إلا وصدم بحجمه وشكله.
المسار العسكري الجديد كيف ومن؟
مع تبلور هذا الواقع الجديد وجدت الرموز العسكرية نفسها خارج إطار اللعبة فراحت تبحث لنفسها عن دور في طابور الفوضى وعن مكان وسط الركام وموقع بين الجثث، فرجعت إلى ناصحها الأول (تركيا) تستنجد به مروجة لسيطرة المسلحين من القاعدة وغيرها من المتشددين على مقاليد الأمور، ليعودوا من جديد بمشروع كانوا قد رفضوه هم أنفسهم من قبل اسمه المجالس العسكرية، تعرض نفسها على الثوار ممثلة للعمل العسكري وناطقة باسمه وربما مخططا إستراتيجيا لمستقبله.
وقد بدت فكرة براقة جميلة في البداية ولكنها سرعان ما تعرضت للنقد بعد أن فهم الميدانيون أنها ستؤدي إلى حالة من الغياب الإعلامي لوجودهم وبالتأكيد إلى حالة من السيطرة للعسكريين على مقاليد مستقبلهم.
فانتهى الأمر إلى حالة من الجفاء بين الطرفين تولد عنها انقسام جديد طرفه الأول مجالس عسكرية تتمتع بقبول خارجي مبدئي ودعم رسمي من المعارضة السورية في مقابل طرف ثان عبارة عن مجموعات من المجاهدين المسلحين الذين يتمتعون بالقبول الشعبي ومؤازرة المجالس الثورية ودعم غير رسمي من المعارضة السورية ومن نخب ومؤسسات أخرى غير سورية.
غير أن حالة الجفاء هذه سرعان ما وجدت من ينادي بإنهائها والانتقال إلى طور جديد يمثل حالة تعاون وتنسيق بين المجالس العسكرية والمجموعات المسلحة بعد أن وجد كل طرف نفسه مجبرا على القبول بوضع التعاون الجديد وسط تهديد بخسارة كل ما يتمتع به من مميزات إن استمر في تعنته الذي لا يعرف أحد مبرراً له.
مسؤولية بحاجة إلى من يحملها:
هذه التركيبة للثورة في سوريا والتي باتت تتعقد يوما بعد يوم والتي هي المسؤولية الأكبر التي لم تجد من يحملها أو يبادر إلى الإشارة إليها حتى الآن، لا يمكن أن يحل عقدتها إلا فكر سامٍ واضح متزن يسود العقل الثوري ويعيد تقويمه بما يسهل عليه إعادة النظر في الأمور وعواقبها فيتمكن من تجاوز الخلافات والترفع عن التفاهات دون المساس بالثوابت أو تثبيت المتغيرات.