في مصر حملت الأسابيع القليلة الماضية العديد من القرائن على تمسك حكام البلاد بنهجهم السلطوي، وإصرارهم على إضاعة فرص الابتعاد ولو قليلا عن خانات الاستبداد التي دفعنا إليها منذ صيف 2013، ورفضهم الانفتاح على حوار حقيقي مع المستقلين والمعارضين السلميين الذين لا يواجههم الحكم سوى
بالقمع والقبضة الأمنية.
فمن جهة أولى تصاعد حجب المواقع الإلكترونية لصحف ووسائل إعلام مستقلة ولمنظمات حقوق إنسان محلية وعالمية لنصبح اليوم مع مئات المواقع المحجوبة (425 في جردة الحساب الأخيرة لصحافيين وحقوقيين مستقلين). وليس لسياسات الحجب غير هدفين صريحي الطبيعة السلطوية؛ منع تداول المعلومات والحقائق بشأن أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية وقضايا الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان لكي يتواصل تزييف الوعي الجمعي للمصريات والمصريين، وفرض المواقف الرسمية والادعاءات الحكومية كرأي أوحد على الفضاء العام وتكميم أفواه أصحاب الآراء المستقلة والمعارضة ومن ثم تعقبهم وقمعهم.
من جهة ثانية، روج نفر من أعضاء البرلمان الحالي ومن الإعلاميين الموظفين كأبواق لرئيس الجمهورية وللأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية النافذة لضرورة تعديل الدستور الحالي (دستور 2014) على نحو يضيف سنوات إلى الفترة الرئاسية المحددة راهنا بأربع سنوات ويوسع من سلطات واختصاصات الرئيس. ولأن الترويج للتعديل الدستوري جاء من قبل برلمانيين همهم الوحيد هو تأييد الحكام ومن أبواق للسلطة التنفيذية عرف عنهم إطلاق التصريحات وفقا «لتوجيهات الأجهزة السيادية»، ولأن الترويج جاء أيضا في شكل حملة ممنهجة غطتها وسائل الإعلام المدارة استخباراتيا وأمنيا بكثافة شديدة؛ لم يكن صعبا إدراك أن رئيس الجمهورية والأجهزة النافذة يقفون من وراء الحملة ويرون مصلحة جوهرية في فتح باب تعديل الدستور.
لا يبخل دستور 2014 على رئيس الجمهورية بسلطات واختصاصات تنفيذية وتشريعية عديدة، ويضعه كعادة الدساتير المصرية منذ انقلاب 1952 في موقع السلطة الأهم في النظام السياسي؛ رئيس يستتبع ولا يستتبع، رئيس يحاسب ولا يُحاسَب. كذلك يتيح الدستور لرئيس الجمهورية فترتين رئاسيتين متتاليتين (8 سنوات) حال الفوز في الانتخابات، والفوز في الظروف المصرية الحالية التي ألغيت بها السياسة وسيطرت بها الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية على الفضاء العام هو أمر مضمون لصاحب الخلفية العسكرية. وكما أن سلطات واختصاصات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في الدستور تستدعي بحسابات التطور السياسي والآمال الديمقراطية للناس الحد وليس الإضافة، ليست ثماني سنوات للرئيس بالأمد الزمني القصير في نظام سياسي طبيعي.
لذلك ليس في الترويج لتعديل الدستور سوى تعبير جلي عن النهج السلطوي لحكام البلاد الذين يريدون مواصلة احتكار إدارة شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون اضطرار لتغيير شخص رئيس الجمهورية الحالي. وليأتي المخرج اليوم عبر إطالة الفترات الرئاسية، ثم يتبعه بالغد إسقاط مسألة الفترتين الرئاسيتين كحد أقصى لأي رئيس والعودة إلى رئاسة مدى الحياة التي فتح لها الباب دستوريا الرئيس الأسبق السادات وتمتع بها واقعا الرئيس الأسبق مبارك. وإذا كانت الحملة «الرسمية» للترويج لتعديل الدستور قد تراجعت مؤخرا على وقع تنبيه بعض العقلاء داخل النظام السياسي إلى تداعياتها السلبية على «مظاهر شرعية» الحكم وكذلك في سياق انتقادات عديدة من قبل كتاب مستقلين ومعارضين هالهم أن يطلق الحكام حملتهم قبل الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية بشهور قليلة، فإن حملة التعديل مرجحة لأن تعود إلى الواجهة وأن تغزو الفضاء العام المسيطر عليه استخباراتيا وأمنيا ما أن تنظم الانتخابات الرئاسية وتحسم لصالح صاحب الخلفية العسكرية.
من جهة ثالثة، سجلت العقلانية غيابا تاما فيما خص تعامل حكام مصر مع الإدانات الدولية (حكومية وغير حكومية) لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات. حجبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبموافقة الكونجرس شقا من المعونة العسكرية وشقا من المعونة الاقتصادية المقدمتين سنويا للحكومة المصرية، وأذيع أن من بين أسباب الحجب تدهور أوضاع حقوق الإنسان في بر مصر والتعقب المستمر لمنظمات المجتمع المدني وتصديق رئيس الجمهورية على قانون الجمعيات الأهلية الجديد المتسم بطبيعة قمعية جلية (والأسباب الأخرى تتعلق على ما يبدو بالتعاون العسكري والتجاري بين الحكومة المصرية وكوريا الشمالية). وتبع القرار بشأن المعونة موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي على تخفيض إضافي لها (في مشروع الموازنة الأمريكية 2018 – 2019 وتحتاج موافقة مجلس الشيوخ إلى موافقة مجلس النواب ثم موافقة إدارة الرئيس ترامب لكي تصبح نافذة).
عوضا عن التعاطي العقلاني مع الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى حجب شق من المعونة، وجهت الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية برلمانييها وأبواقها من الإعلاميين إلى إطلاق الاتهامات بالتآمر على مصر باتجاه إدارة ترامب والكونجرس علما بأن البرلمانيين والإعلاميين أنفسهم كانوا يحتفون بالصداقة بين الرئيسين الأمريكي والمصري منذ انتخب الأول وزاره الثاني في البيت الأبيض.
عوضا عن فتح باب النقاش، محليا وفي حوار داخل أروقة الحكم يمتد تدريجيا إلى حوار بين الحكم وشخصيات مستقلة ومعارضين سلميين وممثلين حقيقيين للمجتمع المدني، بشأن تراكم انتهاكات الحقوق والحريات وسبل الحد منها وبشأن الجوانب القمعية في قانون الجمعيات الأهلية الجديد وفرص تعديله وحماية المجتمع المدني المصري من عنف القبضة الاستخباراتية والأمنية، دفع حكام البلاد إلى واجهة الفضاء العام بالمزيج غير العقلاني المعتاد من الخطاب الإنكاري (لا توجد انتهاكات في مصر)، وخطاب «السيادة الوطنية» الشكلي (لن نسمح بالتدخل في شؤون مصر)، وخطاب التخوين والاتهام باتجاه منظمات المجتمع المدني (المنظمات الحقوقية تعمل على تحريض الولايات المتحدة ضد مصر). وتكرر التعامل ذاته غير العقلاني بعد أن أصدرت منظمات حقوقية دولية (غير حكومية) تقاريرها بشأن المظالم والانتهاكات في مصر (ليس تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عن التعذيب هو التقرير الوحيد).
متى يراجع حكام مصر أنفسهم؟
بقلم: عمرو حمزاوي
القدس العربي
(هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع)