مثَّلَت الثورة المصرية التي اندلعت في يناير 2011 الانطلاقة الأهم للطبقة العاملة العربية على مدار خمسين عامًا (1). كانت ضربةً ضد الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية، وإلهامًا للنشطاء عبر العالم. أما الثورة المضادة التي قادها عبد الفتاح السيسي في 2013، فقد
أظهَرَت الطاقات اللازمة من أجل إيقاف حركةٍ جماهيريةٍ ضخمة. وقد شَكَّلَ الاستمرار في القمع مشكلاتٍ حادة للنشطا4ء، الذين في الوقت نفسه كانوا واقعين تحت تأثيرِ أزمةٍ في السياسات كان لها أثرٌ على قوى اليسار. وتجسَّدَت أحد ردود الفعلِ على هذه الأزمة في سلبيةٍ وانسحابٍ، حتى من محاولاتِ فهمِ الثورة المضادة، والمشكلات الجمَّة التي يواجهها النظام، والآفاق الأخرى للتغيير. تتناول هذه المقالة أزمة اليسار في مصر في عهدِ القمع، كمثالٍ على المعضلاتِ والإمكانياتِ المرتبطة بتحدي الرأسمالية في عصر الليبرالية الجديدة. وتُركِّز المقالة على دور الدولة وجهود الأحزاب الليبرالية والإصلاحية في مصر للتحالف مع القوات المسلحة – ظاهريًا لمصلحة الحركة الجماهيرية.
مثَّلَت ثورة 25 يناير تحديًا كبيرًا للرأسمالية المصرية. وخلال أيامٍ معدودة، تحوَّلَت مكاتب المركز القيادي لهذه الرأسمالية، حزب حسني مبارك الوطني الديمقراطي، إلى أنقاضٍ تتصاعَد منها أعمدةُ الدخان، وفي أبريل 2011، من أجلِ تلبيةِ المطالب الشعبية، حلَّت الحكومة الانتقالية التي شكَّلَها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحزب (2). انخَرَطَ العمال في حركةٍ جماعيةٍ اتسعت على نطاقٍ غير مسبوقٍ منذ الأربيعينيات، لتُجبِر الدولة على الاعتراف بالنقابات المستقلة ومراجعة قوانين العمل إبان عهدِ مبارك. وسرعان ما أزالت مطالب التطهير الآلاف من مدراء وموظفي النقابات التي تديرها الدولة، علاوة على غيرهم من ضباط الأمن في مواقع العمل، من مناصبهم. وحين حاوَلَ المجلس العسكري استخدام الجيش لكسرِ الإضرابات، أُجبِرَ على التراجع، مما أبرَزَ قوة العمال المُنَظَّمين في مواجهة مؤسسات القسر والقمع. ألحَقَت الحركة ضررًا بالغًا في بعضٍ من أهمِ أجهزةِ الدولة؛ إذ أُجبِرَ الأمن المركزي، الذي كان في الخطوط الأمامية للحفاظِ على القمع على مدارِ ثلاثين عامًا، على الانسحاب إلى الثكنات. وبعدها بأسابيع، تعرَّضَت مباحث أمن الدولة، وهي الوكالة الرئيسية ضمن شبكات المخابرات، للشللِ بعدما اقتحَمَ المتظاهرون مكاتبها وسجونها عبر البلاد. وفي مارس 2011، جاء العنوان الرئيسي في صحيفة الأهرام الرسمية: “سقوط دولة أمن الدولة” (3). ولأولِ مرةٍ منذ ستين عامًا تحرَّرَت مواقع العمل والمساحات العامة في معظمِ المدنِ من السيطرة اللصيقة التي مارستها الأنظمة المتعاقبة.
ظلَّت القواتُ المسلحة دون مساس، لكنها كافحت باستمرار لتأكيدِ سلطتها. كان الجنود الذين دخلوا ميدان التحرير في يناير 2011 قد رحَّبَ بهم المتظاهرون الذين احتلوا الميدان بهتافِ “الجيش والشعب إيد واحدة”، لكن بعد الهجمات التي شنَّتها قوات الجيش، تغيَّرَ المزاج الجماهيري، وحفَّزَت محاولات المجلس العسكري لتأجيل الانتخابات في صيف 2011 احتجاجاتٍ هائلة. ودفعت هجماتٌ أخرى على الحركة مظاهراتٍ احتشَدَت فيها جموعٌ هائلة تحت شعاراتٍ ضد الحكم العسكري، بينما كانت رموزٌ بارزة، مثل رئيس المجلس العسكري محمد حسين طنطاوي، في مرمى الغضب الجماهيري (4).
استمرت مطالب التغيير الجذري، وكان شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” تتردَّد أصداؤه في عددٍ لا يُحصى من المظاهرات والمسيرات ومواقع العمل. وكان هذا هو السياق الذي جرت فيه أول انتخابات حرة في مصر تبارت فيها مجموعةٌ من الأحزاب الجديدة، التي تأسَّسَ معظمها في الأشهر اللاحقة على إسقاطِ مبارك. كان تأثيرُ الحركةِ الجماهيرية واضحًا في التصريحات والبيانات السياسية لهذه الأحزاب. وحتى جماعة الإخوان المسلمين، التي تُعد نخبويةً وسلطويةً في جوهرها، تبنَّت لغة الثورة لتعبيد الطريق أمام أهداف حزبها – حزب الحرية والعدالة (5).
في 2011، أسفَرَت أول انتخابات عامة حرة عن برلمانٍ هيمَن عليه الإخوان المسلمون، وفي 2012 انتُخِبَ زعيم الجماعة محمد مرسي رئيسًا. وسرعان ما خلقت سياساتهم الرامية لخدمة مصالهم الذاتية، وكذلك محاولاتهم لإجهاض الثورة، حالةً من الاغتراب لدى الملايين. وفي ظل رئاسة مرسي، صارت الحركة أكثر إصرارًا. وقبل وقتٍ قصيرٍ من الانقلاب، ذَكَرَت مها عبد الرحمن أن: “مصر لا تزال حتى اليوم تزخر بملايين من المصريين الذين يخرجون يوميًا إلى الشوارعِ في نضالٍ لا راد له ضد سياسات النخبة الحاكمة المستمرة في إفقارهم وتهميشهم. وتحاول مجموعاتٌ من النشطاء بلا كللٍ شقَّ مساحاتٍ للحركة” (6).
ثورةٌ “في الاتجاه المُعاكِس”
ومع ذلك، أبعدت التنظيمات السياسية، التي تشكَّلَت بالأساسِ لتلبية مصالح الحركة، نفسها عن مطالب تلك الحركة نفسها. وما أثار قلق الكثير من الأعضاء القاعديين هو أن قادة الأحزاب الليبرالية والإصلاحية صاروا أقل وضوحًا في السياسات العامة. وفي تعليقٍ كاشف، زَعَمَ عضوٌ شابٌ في حزب الدستور أن قادته ركَّزوا على مطامحهم الخاصة، إذ قال: “هناك مجموعةٌ مُسيطِرةٌ على الحزب يعتقدون أن بإمكانهم كسب الأغلبية في البرلمان ويصبحوا وزراء” (7). رجحت طموحات المشاركة في الحكومة على الالتزامات الشكلية تجاه الحركة الجماهيرية. انجَذَبَ قادة مثل هذه الأحزاب بثباتٍ نحو القوات المسلحة بينما كانت قيادة الجيش تُجهِّز لتدخلٍ من شأنه – كما ترقَّبوا – أن يزيح الإخوان المسلمين ويكافئهم بمناصبٍ عليا.
وبعد أيامٍ من الانقلاب، أعلن السيسي حكومةً بقيادةِ ليبراليين ويساريين إصلاحيين؛ إذ قدَّمَ حزب الدستور نائبًا للرئيس، ونائبًا لرئيس الوزراء، ووزيرَين للخارجية والتضامن الاجتماعي، بينما قدَّمَ الحزب الديمقراطي الاجتماعي رئيس الوزراء ونائبًا له، وحظى التيار الشعبي بوزارة القوى العاملة. وأظهرت هذه التعيينات “الرئيسية” الأهمية التي أولاها السيسي للأحزاب المرتبطة بالحركة الجماهيرية، وكان دورهم هو إضفاء شرعيةٍ من اليسار على الانقضاض على الثورة.
كان الهدف الأول هو الإخوان المسلمين. ففي يوليو 2013، اختُطِفَ مرسي وسُجِن، وفي الشهر التالي قُتِلَ ما يقرُب من 2000 من مؤيديه في الجماعة في اعتصامهم في موقعَين في القاهرة، ثم حُكِمَ بالإعدام على المئات من أعضاء الجماعة، وزُجَّ بعشراتِ الآلاف في السجن. صدَّقَت معظم الأحزاب والتيارات السياسية، التي استفادت من الحريات التي انتزعتها الحركة الجماهيرية، على هذا الهجوم. وقد عملوا على التعبئةِ لمظاهراتٍ مؤيدةٍ للجيش، مُوفِّرين بذلك ظهيرًا أيديولوجيًا للسيسي، تحت مظلة جبهة الإنقاذ التي تأسَّسَت عام 2012 وجمعت مؤيدي مبارك بأحزابٍ رأسماليةٍ ليبراليةٍ جديدة بمنظماتٍ يسارية. وبينما كانت الشرطة وقوات الجيش تنقض على الإخوان المسلمين في ميدان رابعة العدوية، أصدَرَت الجبهة بيانًا قالت فيه: “إن جبهة الإنقاذ إذ تحيي قوات الشرطة والجيش، فإنها تحني رأسها إجلالًا واحترامًا لشعبٍ عظيم فَرَضَ إرادة الانتصار الكامل… المجد للشعب العظيم والجيش العظيم والشرطة الباسلة” (8).
صوَّرَت قيادة الجيش انقلابها على أنه مبادرة “ثورية” مُتَّسِقة مع تطلعات الجماهير. وأمَّنَت أحزابٌ اليسار على هذا الادعاء. ووفقًا لحمدين صباحي، القومي الراديكالي وزعيم التيار الشعبي، لم يكن تدخُّل القوات المسلحة انقلابًا، بل “ثورةً شعبية”؛ مُصرًّا على أن الجيش والشرطة “مؤسساتٌ وطنية” (9)، فيما كان الفصيل الشيوعي الرسمي، حزب التجمع، من بين أكثر المؤيدين حماسةً للانقلاب وللنظام الجديد.
بهذا الدعم، واصَلَ السيسي حملةً قمعيةً ضد الحركة الثورية ككل. وفي حين كان الكثيرُ من المصريين، بما يتضمَّن نشطاء بارزين في الحركة الجماهيرية في الشوارع ومواقع العمل، معادين لمرسي، وانضموا للاحتجاجات الجماهيرية ضد الإسلاميين، لم يكن هؤلاء مستعدين للانقلاب أو للهجمة التي تبعته إذ سَعَت القوات المسلحة وحلفاؤها لخنق الحريات التي ترسَّخَت منذ انتفاضة يناير. أعلن السيسي حظر التجوال، وأقام الكمائن عبر أرجاءِ البلاد، وأمَرَ بإطلاق النار على الفور على كلِ من يكسر الحظر. وفي غضون أسابيع، صَدَرَ مرسومٌ رئاسي ليحظر كل التحرُّكات الجماعية العامة:
“يُحظَر على المشاركين في التجمُّعات أو المسيرات أو المظاهرات التعدي على الأمن أو النظام العام، أو تعطيل الإنتاج أو الدعوة لذلك، أو تعطيل مصالح المواطنين أو إلحاق الأذى بهم أو تعريضهم للخطر أو التأثير على قدرتهم على ممارسة حقوقهم وعملهم، أو التأثير على مجرى العدالة، أو التعدي على المنشآت العامة، أو قطع الطرق أو المواصلات العامة أو وسائل النقل البرية أو البحرية أو الجوية، أو إغلاق المرور، أو التعدي على الأفراد أو الملكية العامة أو الخاصة، أو تعريضهم للخطر” (10).
وسرعان ما صار النشطاء من المجموعات الشبابية واليسارية، الذين اضطلعوا بأدوارٍ قيادية في الحركة الجماهيرية، رهن الاعتقال بذريعةِ “التظاهر غير القانوني”، بينما اعتُقِلَ عشرات الآلاف من الناس من الشوارع ومواقع العمل – الكثيرون منهم اختفوا في السجون العسكرية. وعلَّقَت منظمة هيومان رايتس ووتش بأن الثورة سارت “في الاتجاه المُعاكِس”، إذ شنَّت مؤسسات الدولة حملةً انتقاميةً ضد الحركة الجماهيرية (11).
من بينوشيه إلى السيسي
سارت التطوُّرات اللاحقة في مصر على منوالٍ شُهِدَ بالفعل في حالاتٍ ثوريةٍ اصطف فيها اليسار إلى جانبٍ قوى شنَّت في ما بعد هجمةً على الحركةِ نفسها: ومثال تشيلي 1973 له أهميةٌ خاصة في هذا الصدد. وتتردَّد المقارنات بين السيسي وأوجستو بينوشيه على نطاقٍ واسعٍ بين النشطاء في مصر. عُيِّنَ الجنرال بينوشيه كقائدٍ عام للقوات المسلحة في تشيلي بواسطة الرئيس الاشتراكي الجذري سلفادور آيندي، زعيم حكومة الجبهة الشعبية اليسارية في أثناء الاضطرابات الكبرى في أوائل السبعينيات. وبعد أقل من شهرٍ واحد، قادَ بينوشيه ثورة مضادة وحشية، استولى فيها على السلطة على رأسِ مجلسٍ عسكري ظلَّ مُسيطِرًا على مقاليد الأمور حتى 1981، وليحكم كرئيسٍ ديكتاتوري حتى العام 1998.
وفي أمريكا اللاتينية، يعقد النشطاء الذين شهدوا الانقلاب التشيلي مقارباتٍ مع مصر، فيذكر الصحفي الأرجنتيني سيزار تشيلالا أن الأحداث المصرية تُعد بمثابة “تذكيرٍ مخيف” لما وَقَعَ قبل أربعين عامًا (12). ووفقًا لأريل دورفمان، الذي عمل مستشارًا للسياسات الثقافية لآيندي، فإن الانقلاب المصري يعيد إنتاج سيناريو 1973:
“في مصر، كانت لديك حكومةٌ مُنتَخَبَة ديمقراطيًا، وجيشٌ أطاحَ بها، ومرةً أخرى تُفرَض الرقابة، ومرةً أخرى أجسادٌ تُعذَّب في السجون، ومرةً أخرى كذب… كان من المُقلِق للغاية أن نرى التاريخ يُكرِّر نفسه بهذه الصورةِ الفظيعة؛ بأن تصل مرةً أخرى تجربةٌ ديمقراطيةٌ، كانت ذات شأنٍ هام، إلى نهايةٍ مُفاجِئةٍ على يدِ جنودٍ غير مُنتَخَبين” (13).
القضية المطروحة في كلا البلدين، وفي غيرهما من الحركات الثورية التي قَطَعَ التدخُّل العسكري عليها الطريق، هي النهج الذي تبنَّاه أولئك الذين وقفوا علنًا مع أهداف الحركة الجماهيرية تجاه مؤسسات الدولة.
وحين تحتضن الأحزاب السياسية المتلزمة – ظاهريًا – بالتغيير رموزًا كبرى في أجهزة الدولة، فهم بذلك يضعون الحركة في خطرٍ داهم. إن للفهم الخاطئ لطبيعة الدولة وممثليها آثارًا وجوديةً على الحركة الثورية، وخاصةً على نشطائها القياديين.
في الماضي، استنتج مؤسِّسو الحركة الشيوعية في القرن التاسع عشر أن الدولة مُدمَجة وكامنة في النظام الرأسمالي، ومن غير الممكنِ تعبئتها لمصلحة جماهير الشعب. وجادَلَ هؤلاء بأن المحاولات الرامية لاستخدامِ الدولةِ كوكيلٍ للتغيير واهمةٌ وخطرة. أرشَدَت هذه الأفكار قادة ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، وصارت بمثابة مبادئ استراتيجية للحركة الشيوعية الأممية. لكن هذه المبادئ جرى “التخلي” عنها لاحقًا، وتبع ذلك عواقب كانت الرموز المؤسِّسَة للشيوعية، مثل كارل ماركس وفريدريك إنجلز، قد حذَّروا منها. كيف إذن أثَّرَت هذه العملية على اليسار؟ وما هي آثارها على مصر، وبصورةٍ أوسع على الحركات التي تتحدى الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين؟
“أداة الطبقة الحاكمة”
يطرح النص التأسيسي للحركة الشيوعية الأممية معضلةً رئيسيةً في ما يتعلَّق بالدولة. في “البيان الشيوعي”، المنشور عام 1848، لاحَظَ ماركس وإنجلز أن الدولة الحديثة أصبحت أداةً في يدِ الطبقة الرأسمالية:
“انتزعت البرجوازية أخيرًا، بقيامِ الصناعةِ الكبيرة والسوق العالمية، السلطة السياسية كاملةً في الدولة التمثيلية العصرية. وسلطة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها” (14).
تأكَّدَت هذه الرؤى في الأحداث التي جرت في فرنسا، حيث لاقت حركة العمال المُنتفِضين قمعًا وحشيًا على يد القوات المسلحة. من خلال تحليل ثورة 1848، أوضَحَ ماركس بمزيدٍ من التفصيل دور الدولة ومؤسساتها المُكوِّنة لها. واستنتج أن ثورات الماضي، لاسيما الثورة الفرنسية 1789، “أكمَلَت” الدولة البرجوازية – وهي مجموع المؤسسات والممارسات التي خدمت الطبقة الرأسمالية (15). وطَرَحَ أن الدولة ما هي إلا “سلطة تنفيذية، بما لها من منظمة بيروقراطية وعسكرية ضخمة… هيئة طفيلية مريعة”. ورغم أن البيروقراطية لم تكن إلا “وسيلة لإعداد الحكم الطبقي للبرجوازية” (16)، فقد اعتبرت الأحزاب المُتنازِعة في ثورة 1848 “حيازة صرح الدولة الضخم هذا الغنيمة الرئيسية للمنتصر” (17). ولا يمكن أن تستولي حركة العمال المُنتفِضين على جهاز الدولة القديم، إذ أنه جزءٌ من المنظومة الطبقية، وهو مُدمَجٌ في نظام القمع، بل استنتَجَ ماركس أن لابد من “تحطيمه” (18).
وجادَلَ ماركس بأن خبرةَ كوميونة باريس، بعد ذلك بعشرين عامًا، قد قدَّمَت دليلًا إضافيًا على هذا: “الطبقة العاملة ليس في وسعها أن تضع يدها ببساطة على الأداة الحكومة الجاهزة وأن تُسيِّرها لمقاصدها الخاصة” (19). كان لهذا الافتراض أهميةً في الحركة الشيوعية الناشئة إلى درجةِ أنه حين صَدَرَت طبعةٌ جديدةٌ من “البيان الشيوعي” في العام 1872، لاحَظَ المؤلفان أن الوثيقة الأصلية قد “عفا عليها الزمن”، إذ أنها لم تُشدِّد على هذه القضية الهامة (20). وفي مقدمةٍ جديدة، أصرَّا على أنه بدلًا من الاستحواذ على الدولة الرأسمالية بنقلِ المنظمة البيروقراطية والعسكرية “من يدٍ إلى أخرى”، لابد على الثورة أن “تُحطِّمها” (21).
وحين عادَ إنجلز لاحقًا للإشارةِ إلى أصول وتطوُّر الدولة، أضاف أن الدولة الحديثة لها خصائصها الخاصة، فقال إنها “سلطةٌ عامة” تتمتَّع بمواردٍ خاصة لتأمين مصالح الطبقة الرأسمالية. وهذه السلطة تتواجد في كل دولةٍ حديثة، مُرتَكِزةً على أجهزةٍ مُنظَّمَةٍ لحشدِ وتعبئة القوى: “إنها لا تتألَّف فقط من رجالٍ مُسلَّحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجونِ ومُختَلَف مؤسسات القسر” (22). وطُوِّرَت هذه المؤسسات تلبيةً لغرضٍ خاص، فلا يمكن الاستحواذ عليها من أجل أغراضٍ تتعلَّق بتغييرٍ جذري.
وبينما اندلعت الأحداث الثورية في روسيا، بعد ذلك بثلاثين عامًا، صار هناك جدالٌ مُكثَّف في أوساطِ اليسار عن كيفية المُضي قُدُمًا بمصالح الجماهير في وجه مثل هذه المؤسسات. وبالنسبةِ للينين، الذي استنَدَ إلى كتاباتِ ماركس وإنجلز، فقد كانت الدولة في تعارضٍ لا وفاق فيه مع مصالح الجماهير. وطَرَحَ كتيِّبه “الدولة والثورة: تعاليم الماركسية حول الدولة ومهمات البروليتاريا في الثورة” أن “الدولة ليست إلا جهازًا لقمعِ طبقةٍ من قِبَلِ طبقةٍ أخرى” (23). ورغم أنها تبدو وسيطًا بين الطبقات المُتناحِرة – أي تبدو فوق هذه الطبقات لمصلحةِ المجتمعِ ككل – فهي أداةٌ للقمع، “هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينها وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)” (24). وبينما كان يكتب خلال المراحل الأكثر احتدامًا من الثورة الروسية، لاحَظَ لينين انجذاب الكثير من الليبراليين والإصلاحيين الاجتماعيين لمفهومِ التجانس بين الطبقات ولفكرةِ أن الدولة يمكن أن تتوسَّط في الصراعات وتحسم الأزمات السياسية للصالح العام. كان ذلك وهمًا، إذ يُعد تحرُّر الطبقة المُضطهَدة مستحيلًا “دون تدمير جهاز سلطة الدولة” (25). لا يمكن أن تخلو الدولة الحديثة من التناقضات الطبقية، وكما أصرَّ لينين، لا يمكن أن تكون “دولةً للشعب” (26).
اعتُمِدَ هذا النهج على نطاقٍ واسعٍ في الحركة الشيوعية خلال السنوات التالية على ثورة أكتوبر. ويُشدِّد هذا النهج ليس فقط على الأخطار الناجمة عن محاولات الاستحواذ على الدولة الرأسمالية، بل أيضًا على أهمية كيانات التمثيل الديمقراطي الخاصة بالعمال – وهي الأدوات التي تضمن سلطة العمال في مواجهة الطبقة الحاكمة وأجهزتها القسرية. تمكَّنَت الثورة الروسية من إزاحة الدولة القيصرية من خلال تعبئةِ ونظمِ سلطة العمال. وبدلًا من أن يحاول البلاشفة السيطرة على الدولة أو الاستحواذ عليها من خلال التحالف مع كبار مسئوليها وعسكرييها، رفعوا شعار “كل السلطة للسوفييتات”.
لكن صعود نفوذِ، ثم هيمنة، البيروقراطية الستالينية على الاتحاد السوفييتي، وسيطرتها على الأممية الشيوعية، أدى إلى تشويش هذه الوجهة نحو النضال العمالي المستقل وإحلال التوجُّه نحو الرأسماليين “التقدميين” محلها. وفي غضونِ نحو عقدٍ من ثورة أكتوبر، تخلَّت الأممية الشيوعية عن مشروع السلطة العمالية، لتوجِّه النشطاء في أنحاءِ العالم إلى السعي وراء تحالفاتٍ رسمية قيل إن من شأنها أن تُسهِّل التقدُّم “الديمقراطي”. و كانت مؤسسات الدولة من ضمن أهدافهم الرئيسية، بالأخص في دول جنوب العالم حيث صارت السيطرة على الجيش وهيئات الدولة قضيةً محورية في النضالات المناهِضة للاستعمار، وحيث اضطلع العسكريون والبيروقراطيون بأدوارٍ قيادية في الحركات الساعية للاستقلال وفي حكوماتِ ما بعد الاستعمار. وحينها أصبح الشيوعيون باستمرار يُخضعون مصالح الطبقة العاملة لمصالح “التقدميين” داخل الدولة، أو أولئك الذين يرغبون في السيطرةِ عليها. وبدلًا من “تحطيم” أو “تدمير” الدولة، صار معظم اليسار مُوجَّهًا بهوسٍ بالغٍ نحو الحفاظِ عليها.
اليسار في مصر
منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، مارست مؤسسات الدولة تأثيرًا جاذبًا للأحزاب الشيوعية على مستوى العالم، وكذلك شجَّعَت التيارات الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية والقومية على اعتناقِ مُعتقدهم بأن الدولة – بإعادة صياغة لما كتبه ماركس – هي الجائزة الأساسية الجديرة بحوزها في الساحة السياسية.
وفي دول الجنوب، اتبع كلٌ من القوميين والشيوعيين في الأغلب استراتيجيات متوازية. في الشرق الأوسط، لعبت التيارات الشيوعية دورًا هامًا في الحركات المناهِضة للاستعمار في الثلاثينيات والأربعينيات، لكن القيادات الحزبين كانت تُخضِع مصالح الطبقة العاملة على نحوٍ متزايد لمصالح القيادات القومية، خاصةً داخل القوات المسلحة. وهنا، تحتل الحالة المصرية أهميةً خاصة. بنى الشيوعيون المصريون نفوذًا أكبر كثيرًا من حجمهم العددي، ليضطلعوا بدورٍ محوري في الحركة النقابية وفي التعبئة ضد الاحتلال البريطاني. وبحلول نهاية عقدِ الأربعينيات، انتشرت التنبوءاتُ بانتفاضةٍ ثوريةٍ يتحدَّى فيها اليسار الدولة الاستعمارية والملكية المصرية على السواء. وكما ذكَرَت المُؤرِّخَة الأمريكية سيلما بوتمان، فلقد كان: “بإمكان اليسار الثوري (الشيوعي)، أو الإخوان المسلمين، أن يرث أيٌ منهما السلطة السياسية في مصر. فكلٌ منهما كان مُنظَّمًا، وواعيًا سياسيًا، وذا شعبيةٍ متنامية. إلا أن كليهما لم يكن قادرًا على اقتناص اللحظة” (27). أصرَّت الأرثوذكسية الشيوعية (الستالينية) آنذاك على التغيير لن يُنجَز إلا بالتحالف مع الطبقة الرأسمالية “التقدمية” في جبهةٍ “شعبيةٍ”. وهكذا سعى شيوعيو مصر لحليفٍ مُتخيَّلٍ في حزب الوفد البرجوازي الوطني، الذي كان قد سوَّى علاقاته منذ زمنٍ مع الإنجليز. النتيجة كانت هي الشلل في وسطِ اليسار. يُعلِّق المُؤرِّخ الأمريكي جويل جوردون بأن كان لدى الشيوعيين “أيديولوجيةٌ، وقصورٌ تنظيمي، وعقليةٌ ظلَّت إصلاحية أعاقت أفكارًا جديةً تتعلَّق بالثورة” (28).
وتقول بوتمان إن الحركة الشيوعية “لم تكن مستعدةً لتولي السلطة” (29). لم يكن القادة الشيوعيون يعترفون بإمكانية تحدي الحركة الجماهيرية للدولة الاستعمارية المُتحلِّلة. ارتكزت آمالهم للتغيير على الجيش وتنظيم الضباط الأحرار بزعامةِ جمال عبد الناصر، في ما يُطلِق عليه جوردون “أسطورة المُخلِّص”، التي ظَهَرَ فيها ناصر بصورةِ التقدمي الذي يمكن للشيوعيين بناء الجبهة الشعبية المُبتغاة معه (30). وفي العام 1952، استولى الضباط الأحرار على السلطة، وفي غضونِ أسابيع شنُّوا هجومًا على الحركة العمالية. وعلى مدار العامَين التاليَين، زُجَّ بالمئات من الشيوعيين في السجون. إلا أن القادة الشيوعيين ظلُّوا ثابتين على فكرةِ حكومةٍ تقدميةٍ بقيادةٍ وطنية. ورغم موجات القمع المُتكرِّرة على يد الرئيس ناصر، بذلوا كل الجهودِ لدعم نظامه. وفي النهاية، من أجل الاعتراف الكامل بقيادة ناصر للشعبِ بأسره، كما قالوا حينها، حلَّ الحزب الشيوعي المصري نفسه. ووُجِّهَ أعضاء الحزب، وكذلك الواقعين في نطاقِ نفوذه، للانضمامِ إلى الاتحاد العربي الاشتراكي – وهو “الغطاء” الحزبي الذي أدارته الدولة وكان جزءًا من آلة القمع. وأخبَرَ الحزب الشيوعي ناصر بأن: “هذا الحزب الواحد تحت قيادتكم هو البديل لمنظمتنا المستقلة” (31). والآن تحالَفَ الشيوعيون رسميًا مع الدولة التي اعتبرونها “بديلًا” عن حضورٍ مستقلٍ للطبقة العاملة. بنى ناصر طبقةً حاكمةً عسكريةً بيروقراطية مستعدةً لسحقِ حركة العمال واليسار – هذا ما قالوا عنه إنه رافعةٌ للتغيير “الثوري” (32).
كان لحلِّ الحزب الشيوعي عواقبٌ طويلة الأمد، إذ صفَّت هذه الخطوة تيارًا سياسيًا كان من قبلِ له دورٌ مركزي في تنظيم الطبقة العاملة. وكذلك فقد حفَّزَ ذلك آخرين، منهم الليبراليين والقوميين الجذريين، للاعتقادِ بأن ليس لليسار بديلٌ عن الحكم العسكري. وحين اكتَسَبَت المعارضة ضد ناصر، ومن بعده السادات، زخمًا، فَتَحَت مساحةً سرعان ما شَغَلَتها التيارات الإسلامية.
ذَكَرَ جويل بينين أنه على مدارِ سنواتٍ طويلة منذ حلِّ الحزب الشيوعي، “كفَّت الإنتلجنسيا الماركسية (قيادة الحزب) عن إشغالِ نفسها بقضايا طبقتها العاملة، في حين ركَّزَت على دمج نفسها في نظام ناصر” (34). وحين ظَهَرَ الشيوعيون في النهايةِ مُجدَّدًا في حضورٍ مُنظَّمٍ، كانوا جزءًا من الاتحاد الاشتراكي الذي تديره الدولة. ومن ثُم تولَّى من تبقى من الحزب الشيوعي مناصب قيادية في حزب التجمع الوطني التقدُّمي الوحدوي، وهو واحدٌ من المنابر التي نشأت في ظلِّ حكمِ السادات، وسُمِحَ له بالعمل في إطارِ حدودٍ صارمة مثل غيره من المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي. ولثلاثين عامًا، عمل التجمُّع، كما تقول مها عبد الرحمن، كـ”يسارٍ حكومي” (35). عارَضَ الحزبُ المعارضة الجماهيرية للنظام، بما في ذلك انتفاضة 1977 احتجاجًا ضد التدابير الاقتصادية التي فَرَضَها صندوق النقد الدولي، مُصِرًّا على أن: “نضالنا الرئيسي مُنصبٌ على تشكيلِ أوسع جبهة للقوى الوطنية والتقدُّمية” (36). ومحور هذه الجبهة هو الدولة نفسها، لذا حين جاء مبارك كرئيسٍ للبلاد بعد السادات، صار هو أيضًا مركزًا للطموحات الشيوعية، على أملٍ من التجمُّع في دورٍ في الحكومة. لم يُكافئ الحزبُ قط، لكنه استمر في دعمِ مبارك في مواجهةِ حركةٍ متناميةٍ من أسفل. عارَضَ الحزب الاحتجاجات الشعبية التي افتتحت ثورة 2011، ولم يضطلعِ بدورٍ نشط في الحركة التي تلتها.
خلال النضالات المصنعية في السبعينيات، جنَّدَ حزب التجمُّع الآلاف من النشطاء العماليين، والمعارضين المستقلين للنظام، وأعضاءً من مجموعاتٍ شيوعيةٍ سرية (37)، وتمكَّنَ كذلك من جذبِ قوميين سيطَرَ عليهم الاغترابُ من رفضِ السادات للأجندة الناصرية. يقول بينين إن بحلول التسعينيات، فقدت أحزاب المعارضة العلمانية (اليسار والناصريون والليبراليون) “كل فاعليةٍ ومصداقية” (38). لم يكن لأيٍ من هذه الفصائل إلا القليل لتقدُّمه كبديلٍ عن الحزب الوطني الحاكم. لكن التجمُّع كانت له استراتيجيةٌ متمايزة، إذ دَعَمَ الحزبُ النظام على أملِ أن يخلق مساحةً “للمناورة على هامشِ هيكلٍ سياسيٍ استبدادي” (39). تأثَّر الكثيرُ من النشطاء الذين مروا بحزبِ التجمُّع، بما يشمل ناصريين وليبراليين ظهروا لاحقًا في تياراتٍ سياسية مستقلة، بعمقٍ، بهذا النهج. وحين انهار الاتحاد السوفييتي وأنظمته الحليفة في أواخر الثمانينيات، لم تعد الشيوعية الرسمية تتمتَّع بنفوذها القديم. لكن الستالينية ظلت تيارًا أيديولوجيًا قوَّضَ رؤى أولئك الذين وقعوا تحت تأثيره. كان للستالينية حياةً أطول استمرت فيها في خنقِ مبادرات اليسار المستقلة.
“انتحار سياسي”
سرعان ما تلى انقلابَ يوليو 2013 عنفٌ ممتدٌ من جانبِ الدولة ضد الإخوان المسلمين. واعتَبَر أحد المُعيَّنين الجدد في حكومة السيسي، محمد البرادعي من حزب الدستور، إراقةَ الدمِ أمرًا غير مقبول، فاستقال احتجاجًا على “القتل الجماعي” (40). لكن زملاءه، من دونِ استثناء، ظلوا في مناصبهم. كان وزير القوى العاملة هو كمال أبو عيطة، وهو ناصري ومُعاونٌ قريبٌ من صباحي. وقبل ذلك بعام، كان صباحي، الذي أسَّسَ بعدها التيار الشعبي، قد قاد حملةً نشطة في الانتخابات الرئاسية باعتبار أنه – كما قال – مرشحُ الثورة: “أؤمن بأن مهمتنا تردَّدت في ميدان التحرير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. هذه هي الشعارات التي تُرشِد برنامجي” (41).
احتل صباحي المركز الثالث في الانتخابات، مُحقِّقًا انتصارًا في القاهرة وفي كل المدن الصناعية الكبرى، وهو ما كان مؤشرًا مهمًا على المزاج الشعبي ودافعًا للنشطاء الجذريين. لكنه في العام 2013 أيَّد تدخُّل السيسي، وكذلك أيَّد الدور الذي تولَّاه أبو عيطة في الحكومة. وكما قال، لم تكن أحداث يوليو تُمثِّل انقلابًا، بل “ثورةً شعبية” من شأنها أن تؤسِّس لدولةٍ ديمقراطية، مضيفًا أن “الجيش والشرطة مؤسسات وطنية. إنهم في حربٍ ضد الإرهاب” (42).
لطالما كان أبو عيطة شخصيةً بارزةً في الحركة العمالية، إذ كان ناشطًا محلَّ ثقةٍ على نحوٍ واسع نتيجةً لشجاعته الشخصية وقدراته التنظيمية. وكقائدٍ لاتحادِ النقاباتِ المستقلة، كان مشاركًا في كتابةِ بيانٍ مشترك لمجموعةٍ من النشطاء القياديين، “مطالب العمال في الثورة”، ذلك البيان الذي أعلن التزامه بـ”الثورة، والحرية، والعدالة الاجتماعية” (43).
لكنه، كوزيرٍ في حكومةِ ما بعد الانقلاب، انحازَ إلى صفِ الدولة والثورة المضادة، معلنًا أن “العمال الذين كانوا أبطالًا في الإضرابات في ظل الأنظمة السابقة لابد أن يكونوا اليوم أبطالًا في الإنتاج” (44). وبينما نُقِلَ مرسي من القصر الرئاسي إلى زنزانته في السجن، انتقل أبو عيطة من ساحات الإضرابات والاعتصامات إلى مكتبه الوزاري – من صيادٍ إلى حارسٍ للطرائد.
وفي وقتِ تعيينه وزيرًا، علَّق أبو عيطة قائلًا: “قد يكون هذا انتحارًا سياسيًا بالنسبةِ لي” (45). وفي غضونِ ستة أشهر، لُفِظَ أبو عيطة من منصبه الحكومي مع أغلب مَن عُيِّنوا من الأحزاب الليبرالية واليسار. حلَّ المشير السيسي، الذي حصل على ترقيةٍ من فريق أول إلى مشيرٍ من قِبَلِ رئيسٍ هو نفسه جاء مُعيَّنًا من الجيش، الحكومة، ونصَّب مكانها مجموعةً من التكنوقراط كان من الممكن قولبتها بالكامل بحسب رغبته. أُزيحَ الليبراليون والاشتراكيون الديمقراطيون والناصريون، الذين تمكَّن السيسي من استمالتهم من قبل، جانبًا، بعد أن أدوا دورهم في تشتيتِ ما كان ممكنًا من معارضةٍ للانقلاب، وفي إمداد النظام بمشروعٍ أيديولوجي جديد من خلال الترويج لفكرةِ أن “الثورة” يمكن أن تستمر في ظل الحكم العسكري.
لم يكن الانقلاب إلا جزءًا واحدًا من استراتيجيةٍ مُعقَّدةٍ لشنِّ الثورة المضادة، التي تضمَّنَت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وحملة “تمرُّد” ضد محمد مرسي، وأحزاب جبهة الإنقاذ (46). خلق مرسي بالفعل حالةً من الاغتراب لدى ملايين من المصريين الذين رفعوه إلى رئاسة الجمهورية، بتخاذله عن تحقيق أهداف الحركة. يقول سامح نجيب، القيادي في حركة الاشتراكيين الثوريين:
“مرسي حمى بالفعل النظام القديم. مرسي حمى قيادة الجيش. مرسي نفَّذَ نفس السياسات النيوليبرالية لمبارك. مرسي لم يُنفِّذ مطلبًا واحدًا ولم يُحقِّق هدفًا واحدًا للثورة. مرسي لم يُنفِّذ أيًا من وعوده، ناهيكم عن مطالب الثورة” (47).
ويرى نجيب أن الحركة الشعبية ضد مرسي كانت حتمية، لكن صاحبَتها تعبئةٌ من الثورة المضادة نظَّمتها رموزٌ من النظام القديم ورؤساء أجهزة المخابرات (48). وكانت جبهة الإنقاذ، بالأخص جناحها الراديكالي، مُدمَجة في هذا المشروع. ومع انقلاب 2013، تكشَّف أن قادة الجبهة كانوا منخرطين لشهورٍ في مناقشاتٍ مع الجيش. ما الذي طمحوا إلى تحقيقه؟ لماذا انحازوا إلى صفِ الدولة؟ وماذا كانت النتائج؟
“التكتل الديمقراطي الثوري”
تختلف خبراتُ تشيلي 1973 عن خبراتِ مصر بعده بأربعين عامًا في أبعادٍ كثيرةٍ هامة، لكن في الوقت نفسه هناك الكثير من أوجه الشبه البارزة. بعد أن استولى السيسي على السلطة في 2013، قال نجيب إن بينوشيه قد شنَّ هجومه على النشطاء الثوريين “ليبعث برسالةٍ إلى الشعب التشيلي… انتهى الأمر، تظنون أن بإمكانكم تنظيم الإضرابات متى أردتم؟ تظنون أن بإمكانكم المطالبة بأي شيء تريدونه؟ كلا” (49). وطَرَحَ نجيب أن غرض السيسي من ارتكابِ مذبحةٍ بحق المتظاهرين الإسلاميين كان “رسالةً إلى الثوريين في مصر، إلى الشعب المصري ككل بأن انتهى الأمر، وهذا هو الثمن الذي ستدفعونه إذا استمررتم في ذلك”. وحتى مؤيِّدو السيسي في مصر لاحظوا أوجه التشابه مع الديكتاتور التشيلي. وهكذا كان منير فخري عبد النور، القيادي بحزب الوفد والوزير في حكومة السيسي، كان قد أقرَّ بأن الجنرال المصري يُعيد إلى الأذهان “صورةَ بينوشيه لا جورج واشنطن… ديكتاتور لا مُصلِح” (50).
ارتبطت الثورة المضادة في مصر، كما في تشيلي، بتأييدِ أحزاب اليسار لقيادة القوات المسلحة. وتشارَكَت تنظيمات اليسار الليبرالي، التي ظهرت على الساحة الديمقراطية التي خلقتها انتفاضة 2011، الكثيرَ مع الشيوعيين الرسميين في مصر. وكان حزب التحالف الشعبي الاشتراكي أكثر الأحزاب الجديدة راديكاليةً، دامجًا الكثير من النشطاء المستقلين مع مجموعةٍ كبيرةٍ مِمَّن انشقوا عن حزب التجمُّع. وفي مسيرته الأولى في سبتمبر 2011، تضمَّنت الشعارات: “التحالف طالع من الشوارع والمصانع”، و”يسقط حكم العسكر”، و”نطالب بالعدالة الاجتماعية (51). لكن في 2012، انضم حزب التحالف إلى جبهة الإنقاذ، وظلَّ فيها رغم الانتقادات المتزايدة من جانبِ أعضائه الشباب. ومثل نشطاء حزب الدستور والتيار الشعبي، هاجَمَ هؤلاء قياداتهم الحزبية لحفاظهم على العلاقاتِ مع فلول نظام مبارك، ولتخاذلهم عن دعم المُحتَجين الذين تهاجمهم قوات الأمن. قالوا إن جبهة الإنقاذ “عارٌ على الثورة”: “نرفض أن نرى قادة حزبنا يقفون جنبًا إلى جنبٍ مع فلول النظام السابق في جبهة الإنقاذ… إن عناصر النظام السابق أعداءٌ لنا وأعداءٌ للثورة” (52).
لكن، وفقًا لعضوٍ قيادي في التحالف، فلقد كان الحزبُ ملتزمًا بتأسيسِ “تكتل ديمقراطي ثوري” (53). و”تكتل” 2013 هذا، مثل جبهات الشيوعيين في حقبةٍ سابقة، تضمَّن رجالَ أعمالٍ، وتحالَفَ مع النظام القديم وقيادات مؤسسات الدولة.
أُنشئ التيار الشعبي في العام 2012 على يد حمدين صباحي، الذي أعلن أن هدفه هو تحقيق “الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية”، وقال في إصرارٍ في مسيرته التأسيسية: “لن نساوِم على هدفٍ واحدٍ من أهداف الثورة” (54). انضم عددٌ كبيرٌ من نشطاء الثورة إلى التيار، لكن كثيرًا منهم غضبوا من دور قائدهم في تأسيس جبهة الإنقاذ الوطني. يرى خالد السيد، القيادي الجذري في التيار، أن: “أغلب أعضاء التيار الشعبي رفضوا فكرة تشكيل تحالفٍ مع منظماتٍ تقودها عناصر من نظام مبارك. كان هذا ضد ما نادت به الثورة” (55).
كانت المبادئ المُرشِدة لصباحي هي نفسها مبادئ الحركة الناصرية، وبالنسبة لناصر كانت الدولة مرادفةً للأمة أو الشعب – والجيش، في القلبِ من هذه الدولة، يحتل موضع القيادة الوطنية. ورأى ناصر أن على كل المصريين أن يعترفوا بسلطة الدولة، أما أولئك الذين يتحدون قيادة الضباط فهم يُدمِّرون بذلك الوحدة الوطنية بتخريبِ مشروعٍ وطني (56). زَرَعَ الحُكم القمعي لناصر الاغتراب لدى الكثير من المصريين، وفي الوقت نفسه حظى بتأييدٍ واسعٍ لإطاحته بالملكية والإنجليز، ولتدشينِ إصلاحٍ زراعي، وتأميمِ قطاعات واسعة من الصناعة، والتحكُّم في الإيجارات، وإتاحةِ الاقتراع العام، وتوفيرِ التعليم، واتخاذِ تدابيرِ رفاهةٍ تتضمَّن دعمًا على الغذاء والدواء والسلع الأساسية. كان من شأن هذه التغييرات، جنبًا إلى جنبٍ مع نجاحه في مواجهة العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي في حربِ القناة – 1956، أن تُشكِّل سمعته كأيقونةٍ للوطنية المصرية الحديثة. وعلاوة على ذلك، مَنَحَ كل ذلك المؤسسة العسكرية شرعيةً إضافية، ولطالما كانت تُعرَّف القوات المسلحة بالاستقلال الوطني والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. وبعد أربعين عامًا، استمر صباحي في وصف الجيش باعتباره “قوة وطنية أصيلة” (57).
شركة عسكرية
ترقَّبَ قادة اليسار أن يتخلَّص الجيش من مرسي ويُجهِّز لانتخاباتٍ حرة جديدة يقف فيها إلى جانبِ حكومةٍ مدنية. كانت نظرتهم عن القوات المسلحة مُتأثِّرةً بقوة بالحنينِ إلى العهد الناصري. ولطالما مجَّدَ التاريخ الرسمي ناصر باعتباره قائدَ جيشٍ وطنياً ناجحًا. وتمادى اليسار إلى ما هو أبعد من ذلك، فصوَّرَه على أنه اشتراكيٌ، و”ثوريٌ” حتى – وهي أفكارٌ مُقتَبَسةٌ من الدعاية الرسمية في الخمسينيات والستينيات، وامتدت بتصوُّراتٍ خاطئة عن مبادئ ناصر وممارساته. كان دور القوميين الراديكاليين، مثل صباحي ووزير السيسي للقوى العاملة كمال أبو عيطة، مهمًا بصورةٍ خاصة. وفقًا لحمدين صباحي، كان ناصر هو “الأكثر إخلاصًا لأمته في التاريخ المعاصر… وإذا كان حيًا في عصرنا، لتحدَّثَ عن الديمقراطية، والتعدُّدية، والحريات والحقوق المدنية والسياسية، والنظام مُتعدِّد الأحزاب، والانتخابات الحرة” (58). في العام 2011، كان صباحي معاديًا للمجلس العسكري ولتصرُّفات القوات المسلحة قي مواجهة الحركة الجماهيرية، بينما صار في العام 2013 في تحالفٍ مع السيسي في ما بدا أنه – صباحي – يُطبِّق رؤيته لناصر ولمؤسسات من عهدٍ سابق على الجيش وعلى السيسي كقائدٍ للقوات المسلحة.
تشكَّلَت دولة ناصر الرأسمالية بالظروفِ التي سادت فترة ما بعد الاستعمار. في الخمسينيات، كانت الحكومات المستقلة في دولِ جنوبِ العالم تحت ضغوطٍ كبيرة من الحركات الجماهيرية التي أصرَّت على التغيير، وفي مصر كانت إصلاحات الضباط الأحرار هي أدنى ما يمكن منحه ممَّا يتوقَّعه الشعب. وخلال مناوراته بين القوى العظمى المتنافِسة، حَصَلَ ناصر على الأموال والخبرات اللازمة للتنمية الاقتصادية بينما كان يعمل على توطيد مؤسسات الدولة، على الصعيدين المدني والعسكري على حدٍّ سواء. ولقد كانت للسادات من بعده، ومن ثُم مبارك، أجندةٌ مختلفة، وكان “انفتاح” السادات في منتصف السبعينيات بمثابةِ محاولةٍ لفرض السياسات النيوليبرالية، مُجبِرًا الدولة على التراجع كلاعبٍ اقتصادي لصالح رأس المال الخاص. بدأ الانفتاح بعد وقتٍ قصيرٍ من انقلاب بينوشيه، وتضمَّن نهجًا شبيهًا بما اتَّبَعه الديكتاتور التشيلي ودشَّنه “فتيان شيكاغو” بإلهامٍ من ميلتون فريدمان. في ظلِّ مبارك، تقدَّمَ مشروع مصر النيوليبرالي في التسعينيات حتى جُرِّف القطاع العام الذي بُنِيَ في فترةِ ناصر وبيعَ للرأسماليين المصريين، وكذلك – وهو الأمر الأهم – لحكومات ومستثمري منطقة الخليج على السواء.
وفي خطوةٍ رمزية، ألغى مبارك إصلاحات ناصر الزراعية، وهي التي كانت بمثابة الجوهرة في تاجِ الفترةِ القومية. وبموجب القانون 96 لسنة 1992، طالَبَ ملَّاك الأراضي من العهد الاستعماري بـ”تحرير” أراضيهم التي أُعيدَت إلى الملكية الخاصة، وهكذا فَقَدَ آلاف الفلاحين الأراضي التي انتفعوا بها من خلال الإصلاحات السابقة. وكما استنتج الناشط المستقل خالد علي، فإن “الخصخصة سرقت مصر من شعبها” (60).
وبحلولِ منتصف التسعينيات، صار أنصار الليبرالية الجديدة على مستوى العالم يرون مصر كنموذجٍ للتغيير في دولِ الجنوب العالمي. أيَّدَت الحكومات في أوروبا وأمريكا الشمالية أجندة مبارك الذي أثنَت عليه المؤسسات المالية الدولية. وسرعان ما أصبحت مصر “الطفل المُدلَّل لصندوق النقد الدولي” (61)، وفي العام 2006 أعلن البنك الدولي أن النظام المصري “بطلُ النمو” على مستوى العالم. طالَبَت المؤسسات المالية الدولية بالمزيد، واستجاب مبارك لذلك طواعيةً، وسار مُتقدِّمًا في هذا الاتجاه بينما كان الاقتصادي الاستراتيجي الرئيسي في حزبه الوطني الديمقراطي هو ابنه جمال، الذي كان يتباهى بأنه يستمد إلهامه من مارجريت تاتشر، المُتعصِّبة لليبرالية الجديدة (62). أُطيحَ بإصلاحات دولة الرفاهة التي طُبِّقَت إبان الحقبة الناصرية، وقُلِّصَ الدعم على الوقود والمواد الغذائية الأساسية أو أُلغِيَ. وكان الثمن الذي تكبَّدَته جماهير المصريين باهظًا، بينما صارت البطالة، والإحساسُ بانعدام الأمان، وانتزاع الأراضي منهم، بالإضافةِ إلى الإفقار المستمر عوامل رئيسية حفَّزَت في النهاية اندلاع انتفاضة 2011. أما المنتفعين من هذه السياسات فكانوا المستثمرين من دولِ الخليج، الذين وجدوا لأنفسهم مكانًا في كل قطاعٍ رئيسي في الاقتصاد، فبين عاميّ 2000 و2008 عَقَدَ هؤلاء صفقاتٍ تصل إلى 40% من القيمة الإجمالية لكلِ عملياتِ الخصخصة في مصر (63)، ليصبحوا بذلك لاعبين كبار جدد في الاقتصاد الإقليمي. أصبحت شركة القلعة القابضة، التي تأسَّسَت في العام 2004 لتعبئةِ الاستثمارات الخليجية في مصر، في غضونِ عقدٍ واحد، أكبر شركة مساهمة خاصة في أفريقيا، وواحدةً من أكبرِ عشر شركات في دول الجنوب العالمي (64). وخلال عقد التسعينيات، كانت سلطات الدولة، مُتمثِّلةً في كبار رجال الجيش والبيروقراطيين، قد كفَّت من زمنٍ طويل عن أن تكون وكيلةً للتنمية الاقتصادية الوطنية. وكان الغرض من حكومات مبارك – بالأخص وزارة “فريق الأحلام” التي بدأت عملها عام 2004، والتي عُيِّنَت لإجراء “عمليات الخصخصة بشكلٍ جدي” (65) – هو تصفية الأصول العامة. صدَّقَت هذه الحكومات على صفقاتِ فسادٍ عديدة بيعَت فيها الموارد العامة في مضارباتٍ جرت عبر الحزب الوطني، الذي صار موطنًا لرجالِ أعمالٍ مُنظَّمين في شبكاتِ محسوبيةٍ حول العائلة الحاكمة، فيما كانت مؤسسات الدولة جزءًا لا يتجزَّأ من هذه العملية. أما الجيش والشرطة ووكالات المخابرات، فقد حافَظَت على النظام القمعي، إذ هاجَمَت الفلاحين الذين عارضوا الاستيلاء على أراضيهم، والعمال المشاركين في التحرُّكات في مواقع العمال، والحركة الديمقراطية التي أخذت في التوسُّع. وفي الوقتِ نفسه، كان للضباط الكبار نصيبٌ من غنائم الخصخصة، إذ شارَكوا في تجريفِ القطاع العام في صفقاتٍ جمعتهم بمستثمرين من الخارج.
قيَّدَت الطبقة الحاكمة في عهدِ ناصر رأسَ المالِ الخاص، وفي الوقتِ نفسه ظلَّت معتمدةً على الاستثمار الخاص في قطاعاتٍ أساسية في النشاط الاقتصادي. وفي الواقع، أرسى ناصرُ أسسَ التعايش بين عناصر مختلفة – الجيش والبيروقراطية من ناحية والعناصر الخاصة من ناحيةٍ أخرى – داخل الرأسمالية المصرية. وطَّدَ السادات هذا التعايش، معطيًا الأولوية لمصالح الاستثمار الخاص بصورةٍ ثابتة. وحين أسرَعَ مبارك من هذه العملية، كانت النتيجة هي إثراء، لا تهميش، نخبة الضباط. وكما كَتَبَ روبرت سبرينجبورج، فقد كان هناك “عقدٌ غير مكتوب في ظلِّ حكم مبارك بأن يعتلي الجنرالات والضباط من الرتب المتوسِّطة مناصبٍ رفيعة في الشركات الخاصة” (66). وحين أُطيحَ بمبارك في النهاية، كانت القوات المسلحة تحوز بالفعل أصولاً في مجموعةٍ واسعةٍ من الاستثمارات، من البناء إلى النقل إلى التصنيع (67). صارت قيادة الجيش “شركة عسكرية” (68)، بحيازاتٍ مُشتَرَكة أحيانًا مع كبار المستثمرين من الخليج ومن مناطق أخرى في العالم. يقول يزيد صايغ في كتابه “جمهورية الضباط”: “الآلاف من الضباط الكبار المتقاعدين الذين أُدمِجوا في وزاراتٍ حكوميةٍ، وسلطات، وأجهزةٍ حكوميةٍ محلية، وشركاتٍ قابضة كبيرة للغاية مملوكة للدولة، وغيرها من الشركات التابعة… صار لهم مصالح خاصة كبرى” (69). وتمامًا على غرارِ الرأسماليين، أمسوا جزءًا من شبكات رأس المال الإقليمي، وعلى مستوى السوق العالمية أيضًا (70).
أوهامٌ حول الدولة
وحتى في ظلِّ السرية التي اكتنفت القطاع العسكري، كان هناك الكثير من النشطاء المعارضين إبان عهدِ مبارك على درايةٍ كبيرةٍ بالمصالح الاقتصادية للجيش، ليس أقلها أن القوى العاملة في المشاريع الخاضعة لسيطرة الجيش غالبًا ما كانت تتألَّف من شبابٍ جُنِّدوا في القوات المسلحة. وكانت لدى القادة السياسيين الذين برزوا على الساحة بعد إسقاط مبارك معرفةٌ أكثر تفصيلًا عن ذلك. كان حازم الببلاوي، الذي شَغَلَ منصب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في ظلِّ المجلس العسكري ومن ثُم رئيس الوزراء تحت حكم السيسي، اقتصاديًا ترأسَ مجلس إدارة البنك المصري لتنمية الصادرات وكان رئيسه التنفيذي. أما زياد بهاء الدين، وهو عضوٌ مؤسِّس في الحزب الديمقراطي الاجتماعي مثل الببلاوي، فكان رئيسًا لهيئة الاستثمار المصرية، ثم لاحقًا رئيسًا للهيئة العامة للرقابة المالية. ونبيل فهمي، عضو حزب الدستور الذي تولَّى وزارة الخارجية في ظلِّ حكمِ السيسي، كان يعمل ديبلوماسيًا ولديه معرفةٌ وثيقةٌ بالدوائر الحاكمة في عهدِ مبارك. وكان كمال أبو عيطة، وزير القوى العاملة في حكومة السيسي، قد أمضى حياته سابقًا كناشطٍ نقابي ينخرط في الكثير من المعارضة ضد هيئات الدولة. وفي المجمل، كانت قيادات الأحزاب الليبرالية واليسارية التي شاركت الجيش في 2013، بلا شك، على درايةٍ بمصالحه التي تُعد جزءًا لا يتجزَّأ من هيكل الرأسمالية المصرية، وكذلك دوره في دفعِ التغيير النيوليبرالي. كانت النخبة العسكرية جزءًا من طبقةٍ رأسماليةٍ عدوانية تخلَّت من زمنٍ بعيد عن الأجندة الإصلاحية للعهدِ الناصري.
لا يمكن أن يجهل قادة اليسار تاريخ مؤسسات الدولة خلال فترات النضالِ الجماهيري. لعقودٍ من الزمن، كانت القوات المسلحة في دولِ الشرقِ الأوسط تتدخَّل ضد الحركات الساعية للتغيير. في العراق، استخدَمَ حزب البعث شبكاتٍ عسكرية لشنِّ هجمةٍ قاتلة على اليسار خلال الثورة التي اندلعت في مطلع الستينيات. وفي الجزائر، وضعت القوات المسلحة حدًا نهائيًا لـ”انتفاضة شمال أفريقيا” في عام 1992، والتي كانت تُمثِّل الحركة الجماهيرية الأهم منذ حرب الاستقلال قبلها بثلاثين عامًا. والأهم من كل ذلك أن عبَّأ آية الله الخوميني في إيران مؤسسات دولة بهلوي للهجومِ على الحركة الجماهيرية التي أسقطت الشاه في 1979. ومع الإطاحة بشاه إيران، لم تكن نتيجة الثورة، كما يصف أستاذ الاجتماع والباحث الإيراني آصف بيات، مُحدَّدة: “لم تستطع البروليتاريا ولا البرجوازية فرض هيمنتها السياسية” (71)، بينما استمالت شبكات الملالي المُلتفَّة حول الخوميني المؤسسات الرئيسية المتبقية من النظام القديم، بالأخص الضباط والإدارات المدنية، لتأسيسِ نظامٍ “إسلامي”. وساعدتهم في ذلك أغلب فصائل اليسار، بما فيهم الشيوعيون والاشتراكيون الديمقراطيون والإسلاميون الليبراليون ومنظمات حرب العصابات، تلك الفصائل التي تحالَفَت مع الخوميني والمؤسَّسة الدينية ثم سرعان ما صاروا أهدافًا لثورةٍ مضادةٍ وحشيةٍ دشَّنَتها كلٌ من الميليشيات الإسلامية ومؤسسات الدولة على السواء.
لكن الحالة التشيلية كانت أكثر أهمية، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة التدخُّل العسكري في 1973، بل أيضًا بسبب نتائجه اللاحقة، التي تُقدِّم أوجهَ شبهٍ هامة مع التطوُّراتِ في مصر. كانت حكومة الجبهة الشعبية بزعامة آيندي – وهي تحالفٌ تألَّفَ من شيوعيين واشتراكيين ونشطاء مستقلين – بتأييدٍ قوي في الحركة الجماهيرية. وعلى خلفية سعي آيندي لبناء تحالفاتٍ مع الهياكل القيادية في الدولة التشيلية، عيَّنَ الرئيس ضباطًا كبار في مناصبٍ بالحكومة، وحتى بعد محاولةِ انقلابٍ فاشلة في يونيو 1973، عُرِفَت بـ”انقلاب الدبابات”، نصَّبَ بينوشيه، وهو جنرال آخر قضى زمنًا طويلًا في الجيش، قائدًا عامًا للقوات المسلحة. وفي الحقيقة، حاولت الجبهة الشعبية تقاسُّم السلطة مع مسئولي الدولة الكبار. وكان هؤلاء الضباط، بقيادة بينوشيه، هم من استشرسوا على الحركة الجماهيرية، وألحقوا بها هزيمةً لها عواقب تاريخية على تشيلي والمنطقة بأسرها. جَمَعَ نظام بينوشيه الحكم العسكري بسياساتٍ اقتصادية منقولة من الكتب الأولى للمدرسة النيوليبرالية. وحين زَعَمَ مُنظِّري العولمة لاحقًا أن التغيير الذي تدفع السوق تجاه من شأنه أن يُضعِف سلطة الدولة على المستوى العالمي، برزت تشيلي كمثالٍ على تطوُّرٍ مختلف وطَّدَت فيه الدولة وظائفها القسرية بينما تراجَعَت عن مسئولياتها الاقتصادية والاجتماعية من أجلِ نقلِ الموارد العامة إلى أيدي الاستثمار الخاص. تطوَّرَت الرأسمالية المصرية على خطوطٍ مشابهة – تكاد تكون موازية – فيما كانت القوات المسلحة جزءًا من طبقةٍ حاكمة لا تشبع ومُلتزِمة بالمزيدِ من التغيير النيوليبرالي. ما الذي يمكن أن تُقدِّمه مثل هذه الدولة للثورة المصرية؟
“هل هدَّدَ لتوُّه بانقلاب؟”
في يناير 2013، وجَّهَ السيسي خطابًا لطلاب الكلية الحربية مُحذِّرًا من المخاطر على الدولة، فقال إن الاستمرار في الصراع يُمثِّل “تهديدًا حقيقيًا على أمن مصر وتماسك الدولة المصرية”، مضيفًا أن الجيش كان “ركيزة من ركائز الدولة” (72). نُشِرَ الخطاب على صفحة القوات المسلحة على موقع فيس بوك، وقُرِئ على نطاقٍ واسعٍ كتحذيرٍ عام بأن السيسي مستعدٌ للانقلابِ على الحُكم. وفي الولايات المتحدة، طَرَحَت صحيفة “إنفستور بيزنس دايلي” للأعمال أن “الانقلاب قد يكون الطريق الوحيد لوضعِ البلادِ على طريقٍ يؤدي إلى حريةٍ حقيقية”:
“هناك بعض الأمور التي لا يمكن للحكومة الأمريكية أن تُعلِن عنها، مثل “نود أن نرى هذه الحكومة يُطاح بها بواسطة الجيش”. لكن حتى باراك أوباما ربما يريد الآن، في السر، أن يُلاطِف الجيش المصري…
ومن ناحية الجنرال عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع وقائد الجيش في مصر… لا يتسلزم الأمرُ الكثيرَ من التخيُّل لإدراك التهديد هنا: إما أن يُشكِّل المدنيون حكومةً فعَّالة، أو أن طرفًا آخر سيفعل ذلك لهم… هل هدَّدَ لتوُّه بانقلاب؟” (73).
وعلى خلفية المباحثات التي دارت بين قيادات جبهة الإنقاذ من جهة والسيسي وكبار المسئولين من جهةٍ أخرى، لم يكن هناك من شكٍ في أن تدخُّل الجيش كان أولويةً في الأجندة. وفي غضون شهور، استولى الجيش على السلطة. وسرعان ما بات واضحًا أن السيسي لن يفرض فقط قمعًا أعنف من أسوأ انتهاكات النظام القديم، بل أيضًا سيُطبِّق سياساتٍ اقتصادية منقولة من أجندة جمال مبارك. وفي 2014، دشَّنَ السيسي مباحثاتٍ مع صندوق النقد الدولي من أجل قرضٍ كبير، راضخًا لمطالبه بزيادة تكاليف الكهرباء والوقود. إذا كان مبارك ومن حوله قد جعلوا من مصر “بطلًا” للرأسمالية، فالسيسي قد طالَبَ من جديدٍ بالكأس.
ومع ذلك، كان حلفاؤه من الأغنياء وذوي النفوذ مُتردِّدين. أرادَ السيسي سيطرةً كاملةً على المجتمع المصري. وبعد أن أغلَقَ المساحة الديمقراطية التي فتحتها الثورة، قلَّصَ نطاق التعبير السياسي لقطاعاتٍ هامة من رأس المال الخاص، خاصةً أولئك المندمجين بشكلٍ وثيقٍ في الشبكات العالمية. واعتادت وكالاته المخابراتية التدخُّل على الدوامِ في المنظمات البرجوازية، مثل حزب المصريين الأحرار الذي أسَّسَه الملياردير نجيب ساويرس في 2011، وفي حزب الوفد المصري – وكما أفاد أحد التقارير، فقد تعرَّضَ الحزبان للشلل إثر “فضائح فساد وصراعاتٍ داخليةٍ على القيادة بإيعازٍ من الدولة” (74). في حالة “المصريين الأحرار”، زُعِمَ أن معارضين برعايةٍ من الدولة (يبدو أن الأمرَ لم يكن على سبيل السخرية) دبَّروا “انقلابًا” ضد ساويرس، و”اختطفوا” الحزب، بسببِ انتقاداته زعيمه للحكومة (75). وحدَّدَ منتدى البدائل العربي للدراسات استخدام هذا النمط باعتباره مألوفًا لدى النظام – أي استخدام عملاءٍ يتسلَّلون داخل المنظمات بغية زرع الانقسامات فيها. ووفقًا لمحمد العجاتي، مدير المنتدى، ففي ظلِّ حكم السيسي، كَشَفَ هذا النمطُ عن رغبةٍ في “طاعةٍ عمياء” للنظام خانقًا حرية التعبير السياسي (76). وفي 2016، سلَّطَت مجلة الإيكونوميست البريطانية، الرائدة في الدفاعِ عن التغيير النيوليبرالي، الأضواءَ على القلق في مصر، وفي الخارج، من الأزمة العميقة التي يشهدها الاقتصاد والنظام السياسي. وطَرَحَت المجلة أن مصر كانت أشبه بـ”برميلِ بارودٍ”، إذ كان من شأنِ القمع وعجز النظام أن “يؤجِّجا الانتفاضةَ التالية”، مضيفةً أن:
“السيسي أثبَتَ أنه أكثر قمعًا من مبارك، الذي أُطيحَ به في الربيع العربي، وهو في نفسِ عجزِ محمد مرسي، الرئيس الإسلامي المُنتَخَب الذي عَزَله السيسي… لن يقدر السيسي على تحقيقِ استقرارٍ يدوم. النظام السياسي في مصر في حاجةٍ لأن يُعاد فتحه” (77).
ردَّ السيسي على ذلك بشراسةٍ، مكتويًا على ما يبدو بما قيل عنه من أحكامٍ قد تؤثِّر في الدوائر الدولية التي رغب أن يكون جزءًا منها (78).
ومع إسكاتِ الكثير من نشطاء الشارع بالقمع والترهيب، استمرت المقاومة في مواقع العمل بالكثير من المعارك المحلية. لم تُعمَّم أغلب هذه المعارك، إذ كان للإضرابات تأثيرٌ محدود في ظلِّ تعزيز النظام للنقابات التي تديرها الدولة، وتعبئة قوات الأمن في مواقع العمل. لكن الاحتجاجات في مواقع العمل قد زادت في العدد على الفورِ بعد الانقلاب، كما في موجاتٍ لاحقة من النضال في عاميّ 2014 و2015. وأشارت مؤسَّسة كارنيجي للسلام إلى أن: “على الرغم من القمع غير المسبوق والرقابة على الإعلام، يواجه السيسي موجةً مستمرةً من الاحتجاجات. في مصر، ربما تُخبِرنا البيانات الكبيرة بأكثر مِمَّا يشير إليه خواءُ ميدانٍ احتلَّته الجماهير قبلًا (التحرير)” (79). هوجِمَت الحركة الجماهيرية 2011 – 2013 وجرى احتواؤها، لكن العمال لم يُهزَموا بصورةٍ حاسمةٍ بعد – وهو اختلافٌ بارزٌ بين حالة تشيلي في 1973 والحالة المصرية في 2013، وكذلك مشكلةٌ رئيسيةٌ لنظامٍ عازمٍ على فرض سياساتٍ مُصمَّمَة لتلبية مطالب صندوق النقد ودائنيه في دولِ الخليج.
“الدولة العميقة”
كانت ثورة التحرير شاهدةً على قوة الجماهير المصرية وطاقاتها الخلَّاقة. لكنَّها أماطت اللثام عن الفقر السياسي في أوساط التيارات الليبرالية والإصلاحية المستعدة للتضحية بالحركة مقابل وهم الحصول على نصيبٍ من السلطة. وفي محاولتهم لتنحية المسئولية عن قصورهم وعجزهم، يُسلِّطون الضوء على دور “الدولة العميقة” – وهي شبكةٌ داخل الحكومة والجيش يُقال إنها تُدبِّر الأمورَ سرًا للتحكُّم في السياسات. في 2012، ظهرت تحليلاتٌ من ليبراليين ويساريين تُعرِّف المجلس العسكري بأنه هو “الدولة العميقة”، راسمين أوجه الشبه بينه والجيش التركي. على سبيل المثال، ذَكَرَ الصحفي إيساندر العمراني أن هناك “إشاراتٍ للدولة العميقة” في هيئةِ جهودِ المجلس العسكري لتأمين “هيمنةٍ في يد الجيش من وراء الكواليس” (80). لكن القوات المسلحة لم تكن واقفةً “وراء الكواليس”، بل كانت جزءًا من الطبقة الحاكمة المصرية التي تشارَكَت السلطة مع رأس المال الخاص وكان لها مصلحةً في قمع الثورة.
كانت قيادة الجيش شريكةً في التغيير النيوليبرالي على مدار العقود الثلاثة الماضية على الأقل؛ شريكةً في العملية التي انتقلت فيها الموارد من الهيئات والمؤسسات العامة إلى أيادٍ خاصة. ومنذ زمنٍ طويل، صارت الإصلاحات الاجتماعية للحقبة الناصرية في عدادِ الذكريات. أخَذَت القوات المسلحة تُنفِّذ مهامها القسرية التقليدية، بينما تمتَّعت بنصيبها من غنائم الخصخصة والاندماج أكثر فأكثر في شبكات رأس المال الدولية. في يونيو 2012، حذَّرَت الدكتورة هانيا الشلقامي، الأستاذ المساعد بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، من الأخطار التي تُهدِّد بها مؤسسات الدولة، قائلةً:
“تتألَّف الدولة العميقة من الأجهزة الأمنية والإدارية، ومن مُجمَل المصالح والقيم التي يمثلونها ويدعمونها، والتي بدأت تُشكِّل خطرًا مستمرًا على مستقبل مصر الجديدة… إن النخب السياسية الجديدة في مصر، سواء تلك التي نُصِّبَت في البرلمان، أو أولئك الذين يُبرِزهم الإعلام ويحظون باحترامِ الجمهور، صارت راضيةً بصورةٍ ساذجة عن هذه الدولة العميقة” (81).
تمكَّنَت الثورة، كما جادَلَت الشلقامي، من إزاحةِ جزءٍ من الدولة، لكنها “لا يمكن أن تفعل الأمرَ نفسه مع الهيكل ككل” (82). ووسيلة معالجة هذه المشكلة إنما هي الانخراط مع الدولة. وعليه، وجَّهَت الشلقامي نداءً جاء كالتالي:
“أتمنى هذه المرة أن دروس الماضي تجد من يتعلَّمها، وأن ينخرط السياسيون والمحتجون مع الدولة المصرية ويصنعوا سلامًا معها، حتى تتخلَّص الدولة من شياطينها وتُخلِّص البلادَ من العناصر التي تسعى لإبقائها غارقةً في الفوضى واليأس (التشديد السابق من وضعنا)” (83).
إذا كانت “الدولة العميقة” تتألَّف من الأجهزة الأمنية والإدارية، كما طَرَحَت الشلقامي، فهذا الاستنتاج ضارٌ وخطير، إذ يُقدِّم لنا التاريخ قدرًا وفيرًا من الأدلة على أن الحركة الثورية لا يمكن أن تتوقَّع تطهير الدولة من “شياطينها” من أجل خدمة المصالح المجتمعية. تتواجَد مؤسسات القسرِ والقمع بالأساس للحفاظ على الحكم الطبقي، ومحاولات “صنع السلام” مع الدولة أضعَفَت الحركة وفتحت الطريق أمام الثورة المضادة.
لم يكن من الممكن تجريد الدولة من عناصرها الفاسدة في موجة “التطهير”. ومع أن الحركة الثورية استطاعت بالفعل الإطاحة بالكثير من الأفرادِ والمجموعاتِ المرتبطة بالنظامِ القديم، ظلَّت الدولة كما هي، كمجموعةٍ من المؤسسات والهيئات، عمادًا تأسيسيًا للمجتمع الطبقي: لا يمكن تطهيرها أو تنقيتها ومن ثم تسييرها في خدمة مصالح الجماهير.
وبعد ذلك بعامٍ واحد، قدَّم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي تنتمي إليه الشلقامي، رموزًا بارزةً لمناصبٍ رفيعة في حكومة السيسي. ويبدو أن هؤلاء لم يتعلَّموا إلا القليل من خبراتهم هم بالذات. في العام 2017، تحسَّرَ زياد بهاء الدين، وهو عضوٌ مؤسِّسٌ بالحزب ونائب رئيس الوزراء سابقًا في حكومة السيسي، على تخاذل الحكومة عن اتباع سياساتٍ اجتماعيةٍ عادلة، قائلًا:
“تتقدَّم البلدان وتنمو حين تكون قادرةً على تنظيم مصالح الطبقة المُتنافِسة والمصالح الاجتماعية بطريقةٍ متوازِنةٍ وديمقراطية، حيث تكون المجالس المحلية، والبرلمان، والإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات العمالية، وجمعيات رجال الأعمال قويةً ومستقلةً ومُعبِّرةً حقًا عن مصالح أعضائها، وحيث تكون القنوات مفتوحةً للمفاوضة الاجتماعية الجماعية المتواصلة” (84).
لكن الحكومة التي انضم لها بهاء الدين في 2013 أوقفت العمل بالدستور، وحلَّت البرلمان، وشنَّت حملةً عنيفةً على الإعلام المستقل ومنظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية، فيما عزَّزَت مصالح المستثمرين ورأس المال الأجنبي. لم تُنظِّم المصالح “بطريقةٍ متوازِنةٍ وديمقراطية”، كما اقتراح بهاء الدين، إذ صبَّت القوات المسلحة جمَّ تركيزها على سحقِ الحركة من أسفل.
وَقَعَ الحزب الديمقراطي الاجتماعي في أزمةٍ عميقةٍ مذاك الحين، شأنه في ذلك شأن حزب الدستور وغيرهما من التيارات الليبرالية والإصلاحية والقومية الراديكالية. أما أحزاب اليسار، فقد هُمِّشَت في البرلمان بعدما أفسَدَ السيسي النظام الانتخابي من خلال إعادة نظام القوائم الذي استُخدِمَ في حقبةِ مبارك. وعلاوة على ذلك، دُمِّرَت هذه التيارات بفعلِ النزاعات، ولم يكن ذلك بتدبيرٍ مخابراتي بقدرِ ما كان نتاجًا للاضطراب الداخلي، والأكثر أهميةً بسببِ فشلِ المُنظِّرين القياديين في التشديد على الاستقلالية عن القوات المسلحة، وتوجُّههم نحو الدولة.
تأثَّرَت كلٌ من هذه الأحزاب بموجاتٍ من الاستقالات الجماعية. وفي 2017، قال عضوٌ سابق بحزبِ الدستور، كان قد انضم إليه كناشطٍ طلابي: “ما يحدث في الحزبِ يجري في كل مكان… ما مِن مشاريع أو أفكارٍ مُلهِمة، لذا من الطبيعي أن نرى انقسامات وصراعات واستقالات. أزمة حزب الدستور هي أزمة الثورة والشباب” (85).
دروسٌ من مصر
لابد أن تحتل دروس الأزمات الثورية في الماضي موضعًا مركزيًا في النقاشاتِ حول العدالة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين. في مصر، يمكن اعتبار “الانتحار السياسي” لكمال أبو عيطة تدميرًا ذاتيًا قام به الليبراليون والإصلاحيون والشيوعيون على حدٍّ سواء – بينما فصيلٌ يساريٌ واحد هو من انشقَّ عن هذا التوجُّه (86). وفي اتساقٍ مع النهجِ المُتَّبَع في ظلِّ أنظمة ناصر والسادات ومبارك، عَكَسَ اليسار عجزًا مُزمِنًا عن التعلُّمِ من التاريخ المصري أو من أزمات اليسار على المستوى العالمي. خلال العام 2013، قضى قادة أحزاب المعارضة المصرية شهورًا في اجتماعاتٍ سريةٍ مع الجيش وأجهزة الأمن، وكما ذَكَرَ الماركسي اللبناني جلبير الأشقر، ففي الحقيقة “طالَبَ التقدميون المصريون الجيشَ بإزاحة الرئيس (مرسي)”، عارضين الفرصة أمام القيادة العسكرية للاستيلاء على السلطة لنفسها (87). وهكذا تخلوا عن حركةٍ نشطةٍ ومُنظَّمة من جانبِ طبقةٍ عاملة كانت الآفاق مفتوحةً أمامها لدفع تنظيماتها في مواقع العمل وللتحرُّكِ كطبقةٍ لذاتها.
حلَّ التوجُّه إلى الدولة محلَّ الفعل السياسي المستقل، وبعد استنفاذ مشاريعهم الضيقة للتغيير، وَضَعَ اليسار والليبراليون طموحهم في “منقذٍ” بنفس الطريقةِ التي لجأ بها شيوعيو الخمسينيات إلى ناصر والضباط الأحرار. وفي سعيهم للتوافق مع الدولة، اكتشفوا أن الساحة السياسية التي نموا من قبلِ فيها، والتي خلقتها الحركة من أسفل، قد أُغلِقَت. وبدلًا من ناصر جديد، كوفِئَ هؤلاء بالسيسي وبنظامٍ عسكري يُكرِّس تركيزه على اقتصادات السوق، والتقشُّف، والمزيد من إثرائه الذاتي.
إلى أي مدى يمكن تعميم الخبرات الأخيرة في مصر حول النيوليبرالية والدولة والثورة؟ للأجندة النيوليبرالية تأثيراتٌ مختلفةٌ على الصعيد العالمي. في دول جنوب العامل، تتنوَّع تأثيراتها وفقًا لطبيعة الحكم الاستعماري ودولة ما بعد الحقبة الاستعمارية، ومصالح رأس المال العالمي في السياق المحلي، واستعداد الحكومات للرضوخ لمطالب الشركات الكبرى والمؤسسات المالية الدولية. وحيثما تتولَّى دولةٌ مستقلةٌ مهام التنمية الاقتصادية الوطنية، تبدو على الأرجح، في ضوءِ الحنين إلى الماضي، كأداةٍ لتعزيز التقدُّم المجتمعي. كان لعقودٍ من التغيير النيوليبرالي تأثيرٌ على مثل هذه الدول التي تُكرِّس المؤسسات الرئيسية فيها جهودها لمهام القمع. لكن كثيرًا من فصائل اليسار، رغم ذلك، ظلَّت باقيةً على التوجُّه نحو الدولة كشريكٍ مُتخيَّلٍ في تمهيد الطريق للتغيير. ولطالما كان تصوُّر الدولة في القلب من تحالفٍ “تقدمي” خاطئًا. واليوم صار هذا التصوُّر خطرًا على نحوٍ متزايد، مع تشابك مؤسسات القمع مع رأس المال الخاص واستعدادها، كما في الحالة المصرية، لمهاجمة الحركات المنادية بالتغيير بشراسةٍ أكبر مما فعلت الأنظمة القومية مثل نظام ناصر.
بعد أربعة أعوام من الانقلاب، لا تزال الأجواءُ في مصر مُتقلِّبةً، ولا تزال الاحتمالات كبيرةً ومفتوحة أمام المزيد من النضالات الاجتماعية، في ظلِّ الضغط غير المسبوق الواقع على عشرات الملايين من الناس. ومن شأنِ تنظيمٍ اشتراكي مستقل عن الدولة، بعيدٍ عن أوهام “السلام” الإصلاحي مع الرأسمالية، أن يضطلع بدورٍ حاسمٍ في هذه النضالات – ما سيكون له أثرٌ على النشطاء الثوريين على مستوى العالم.
بالأحمر