في مسار موازٍ للأحداث التي كانت تجري في العراق ودول الخليج العرب، بفعل انتقال تأثيرات الثورة الإسلامية إلى جوارها الإقليمي المباشر، في الأوساط الشيعية العربية تحديدًا، كان
هناك كذلك بعض التحولات الهامة التي تجري في الفضاء السني الفكري والحركي خلال مطلع ثمانينات القرن الماضي أيضًا، وتحديدًا في مدينة «بيشاور» الباكستانية المتاخمة للحدود الأفغانية،نستعرض هنا بعضها من وحي كتاب «لورانس رايت،البروج المشيدة..القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر».
الظواهري يحذر ابن لادنانتقل لتلك المدينة أثناء فترة ما عُرفَ بـ «الجهاد الأفغاني» العديد من عناصر تنظيم الجهاد المصري من أصحاب العلاقات التاريخية مع مكتب دائرة حركات التحرر في الحرس الثوري الإيراني، حيث توثقت في تلك الآونة عرى الروابط والصداقة بين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ورفاقه من تنظيم الجهاد المصري، إذ وجد أيمن الظواهري في تلك الأثناء في ابن لادن راعيًا ثريًا يسهل التأثير عليه، ووجد ابن لادن من جهة أخرى في الظواهري مرشدًا سياسيًا يحدد له الاتجاهات.[1]
و كما يروي الصحفي الأمريكي لورانس رايت في كتابه «البروج المشيدة»، فقد حذر الظواهري ابن لادن في تلك الفترة وللمفارقة من مهاجمة الولايات المتحدة، بعد أن بدأ الأخير في الدعوة إلى مقاطعة منتجاتها كوسيلة لدعم القضية الفلسطينية في محاضرة له بمستشفى الهلال الأحمر الكويتي بمدينة بيشاور، التي كان يعمل بها أيمن الظواهري خلال تلك الأثناء.
حيث أوعز الظواهري لابن لادن بأن مهاجمته للسياسة الأمريكية تعني الدخول في منطقة الخطر، وقال له «من الآن يجب أن تغير طريقة حراستك، وأن تغير نظام أمنك بالكامل». ولكي يدعم الظواهري اقتراحه بشكل عملي -كما يذكر رايت- قدم إلى ابن لادن مجموعة شديدة التنظيم من الجهاديين المصريين، تختلف عن باقي الشباب المراهقين الذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من الأفغان العرب، حيث كان مجندو الظواهري بشكل أساسي من الأطباء والمهندسين ومن العناصر الأمنية والعسكرية سابقًا، الذين كانوا معتادين على العمل السري من الأساس.[2]
«عبد الله عزام» في مرمى نيران المصريين و قد جاءت تلك العلاقة بين الظواهري وابن لادن في تلك المرحلة على حساب علاقة الأخير بالشيخ عبد الله عزام، حيث سعى الظواهري في تلك الأثناء للحد من تأثير الشيخ على أسامة بن لادن. وقد لاحظ عزام ذلك واشتكى آنذاك إلى زوج ابنته عبد الله أنس قائلاً: «لا أدري ما يفعله البعض هنا في بيشاور، من الذين يتحدثون بالسوء عن المجاهدين، وليس لديهم هدف سوى إشعال الفتنة بيني وبين المتطوعين»، وسمى عزام أيمن الظواهري من ضمن هؤلاء الذين يقصدهم بحديثه هنا.[3]
و قد كان أساس الخلاف بين عبد الله عزام وبين أيمن الظواهري، ومجموعة تنظيم الجهاد المصري في صميمه بعيدًا عن الملاسنات الفقهية والكلامية، هو مصير العمل الجهادي المسلح بعد الحرب، وإمكانية انتقال وجهته إلى الداخل العربي والإسلامي، كما كان يرغب أيمن الظواهري ومن معه من المصريين الآخرين.
في معسكر «صدى» للمجاهدين العرب، ألزم عبد الله عزام المتدربين بالقسم علي المصحف أﻻ يستخدموا التقنيات التي سيتعلمونها في أي بلد عربي أو إسلاميوقد كان هذا الخيار يلقى معارضة قوية من عزام، الذي أصدر في هذا الإطار فتوى تحرم تدريب المتطوعين بالأموال التي جمعت لمساندة المقاومة الأفغانية لغايات أخرى غير قضية الجهاد الأفغاني.[4]
و يذكر حذيفة عبد الله عزام في هذا الإطار، على سبيل المثال، «أن والده كان قد ألزم المتدربين في معسكر «صدى» للمجاهدين العرب على القسم على المصحف بألا يستخدم التقنيات التي سيتعلمونها في التدريبات ضد مسلم أو في أي بلد عربي أو إسلامي.[5]
و لذلك اصطدمت رؤية عزام في الأخير مع نوايا الظواهري لإشعال ثورة إسلامية في العالم العربي، حيث كان عزام برمزيته وحجم تأثيره في ذلك الوقت عقبة كبيرة أمام أولئك المصريين الذين استحوذوا على عقل أسامة بن لادن، فلم يكن من السهل على الإطلاق تخطي الرجل، في قضية مصيرية كقضية تحويل دفة العمل الجهادي بعد انتهاء الحرب.
ولذلك ما فتئ هؤلاء، في محاولة لتجاوز هيمنة عزام الأدبية والروحية على الجهاد الأفغاني، بالبدء في تشويهه، حيث وجهت بالفعل الاتهامات إلى عزام في تلك الأثناء بالسرقة والفساد وسوء إدارة مكتب خدمات المجاهدين.
من الحوادث المعروفة في هذا الإطار، اتهام أحد رجال الظواهري، ويُدعى أبو عبد الرحمن، وهو كندي من أصل مصري، كان يرأس مشروعًا طبيًا وتعليميًا في أفغانستان، للشيخ عبد الله عزام ورجاله، بانتزاع المشروع الذي كان يديره عن طريق مصادرة النقود المخصصة لتمويله.[6]
و قد أثارت تلك الاتهامات آنذاك بحسب ما ينقل لورانس رايت في الكتاب المشار إليه آنفًا ضجة كبيرة في بيشاور، حيث وزعت الإعلانات وعلقت الملصقات على الحوائط تطالب بمحاكمة عزام، كما اندلعت الخلافات في المساجد بين معسكرات المؤيدين المختلفة، وقد كان الأطباء في مستشفى «الهلال الأحمر الكويتي» التي كان يعمل بها الظواهري في ذلك الوقت هم من يقفون بالأساس وراء الاتهامات الموجهة في ذلك الوقت إلى عزام، وقد كانوا بالفعل تخلصوا من الرجل من موقعه السابق كإمام لمسجد المستشفى.
و ينقل رايت هنا في هذا الإطار عن الدكتور أحمد الود، جزائري الجنسية، قوله تعليقًا على الاتهام المشار إليه سابقًا:
«قريبًا سنرى يد عبد الله عزام تقطع في بيشاور».[7]ويروي رايت عن ابن لادن قوله لأحد أصدقائه السعوديين وهو المدعو «وائل جليدان» في منتصف ليل اليوم الثاني للمحاكمة التي عقدت من أجل البت في قضية عزام، وقبل أن تنطق الأخيرة بحكمها النهائي.
«لا يمكننا أن نثق بالمصريين، وأقسم بالله أنه لو تسنت لهم الفرصة لإصدار حكم ضد عبد الله عزام ليقتلنه».[8]من قتل عبد الله عزّام؟وقد أخذ بن لادن وقتذاك جليدان، رغم معاناة الأخير من الحمى بسبب إصابته بمرض الملاريا، للاجتماع بالأطراف المسئولة عن محاكمة عزام، وحكمت المحكمة في الأخير برد الأموال فقط إلى المدعو أبو عبد الرحمن، بعد أن تدخل ابن لادن لصالح عزام.
وترجي أسامة بن لادن بعد ذلك عبد الله عزام أن يبقى بعيدًا عن بيشاور التي أصبحت تمثل خطرًا شديدًا عليه، وقبل أن يغادر ابن لادن بيشاور بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية بسبب الحرب الأهلية التي نشبت بين أحزاب المجاهدين الأفغانية، عاد الأخير ليودع عبد الله عزام، وعانقه طويلاً وبكى، وبكى الأخير معه وكأنهما يعرفان أن ذلك هو لقاءهما الأخير.[9]
في اليوم ذاته، الذي جرى فيه اغتيال عزام، كانت تُتداول اتهامات في أنحاء مدينة بيشاور أطلقها الظواهري، تتهم عزام بالعمالة والخيانة.وسرعان ما تبدت المخاطر المحدقة بعزام بعد ذلك، حيث تم اكتشاف لغم مضاد للدبابات وضع كقنبلة بالمسجد الذي يخطب فيه عزام، خلال أحد أيام الجمعة قبيل الصلاة، في أسفل المنبر، كان يمكن أن يقتل العشرات مع المصلين مع عزام، لولا أن تم اكتشافه.
وبلغ القدح والاتهام للرجل أشده آنذاك على يد أيمن الظواهري ومجموعته، حيث وصل الأمر في بعض الأحيان، حسب ما يذكر ابنه حذيفة عبد الله عزام إلى درجة سبه من أعلى المنابر في خطب الجمعة، بل وبلغت الاتهامات حد تكفير الرجل والنهي عن الصلاة خلفه، أُرسلت آنذاك إلى عزام تهديدات لا تحصى بالقتل، وفضلاً عن محاولة الاغتيال السابقة التي أشرنا إليها، كان هناك أربع عمليات فاشلة أخرى على الأقل في هذا الإطار.
وأخيرًا في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1982، وبينما كان عزام في سيارته بجانب اثنين من أولاده، انفجرت قنبلة على جانب الطريق تزن عشرين كيلو جرامًا من مادة التي إن تي، وكانت تلك القنبلة من القوة بحيث نسفت السيارة تمامًا لتطير أشلاؤها وأشلاء راكبيها على الأشجار وأسلاك الكهرباء وواجهات المحال، إلا أن جثة الشيخ عبد الله عزام وجدت كما يروي الشهود ترقد بسلام إلى جانب أحد الحوائط القريبة لم يمسها ضرر ولم تصبها تشوهات، فقط قليل من الدم كان يخرج فمه.[10]
واللافت هنا أنه في وقت مبكر من اليوم ذاته، الذي جرى فيه اغتيال الشيخ عبد الله عزام، كانت تُتداول اتهامات في أنحاء مدينة بيشاور أطلقها أيمن الظواهري، تتهم عزام بالعمالة والخيانة وتدعي أنه يعمل سرًا لحساب الأمريكيين.[11]
ولا يخفى هنا في الأخير أن تلك اللحظة التي اغتيل فيها عبد الله عزام، كانت إيذانًا بنهاية المطاف بسيطرة إيران على مفاصل العمل التنظيمي الجهادي، من خلال إحاطة الأخيرة أسامة بن لان بمجموعة مرتبطة بها من المصريين من أعضاء تنظيم الجهاد إحاطة السوار بالمعصم.
اضاءات