بدأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 25 يوليو/ تموز الماضي، أوسع سياسة خارجية لرئاسته الوليدة، بعقد اجتماع بين الفرقاء الليبيين، فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي
لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، وخليفة حفتر، قائد القوات التابعة لمجلس نواب طبرق (شرق)، والمنبثقة عنه الحكومة المؤقتة.
دور الوساطة المتوقع للرئيس الفرنسي (تولى السلطة في 14 مايو/ أيار الماضي) بشأن محاولات إحلال السلام والاستقرار في ليبيا التي مزقتها الحرب، اصطدم بملف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
(ويبدو أن) تنامي عدد المهاجرين واللاجئين عبر البحر المتوسط باتجاه أوروبا، دون سياسة إدارية متماسكة، أشْعرت أوروبا بخروج الوضع عن السيطرة، وهو ما اتضح في ظاهرة انعدام الأمن في عدد من الدول الأوروبية.
هذه الظاهرة (انعدام الأمن) استفادت منها الأحزاب اليمينية الأوروبية في حربها ضد مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجبهة الوطنية الفرنسية.
سياسة تمييز
بعد يومين من اجتماعه مع السراج وحفتر، وخلال فعالية متعلقة بمباديء المواطنة أُقيمت في مدينة أورليان وسط فرنسا، يوم 27 يوليو الماضي، فاجأ ماكرون نظرائه الأوروبيين بإعلان مبادرة جديدة تتعلق بالهجرة، لكنه لم يوضح أيّ من بنودها.
المبادرة هذه، ورغم شُح تفاصيلها، أزاحت الستار عن فكرة إنشاء “نقاط ساخنة آمنة”، وتدور حول إقامة مراكز في ليبيا (بلد عبور للمهاجرين واللاجئين)، لدراسة طلبات لجوء الأشخاص العازمين على عبور البحر إلى أوروبا، بهدف “تجنب خوض غمار مخاطر كبيرة”، وفق ماكرون.
وتمثل سياسة هذه المبادرة توسعًا في المواقف السابقة، حيث يسعى الرئيس الفرنسي إلى التمييز بين لاجئي الحرب والمهاجرين هربا من أوضاع اقتصادية متردية.
وعلى نطاق أوسع، يمكن النظر إليها على أنها استكمال لمحاولات فرنسا أحادية الجانب، لعزل نفسها عن الأزمة.
ووفقا لخطة الاتحاد الأوروبي سنة 2015، الخاصة بإعادة توطين اللاجئين، ما تزال فرنسا بعيدة كل البعد عن الوفاء بحصتها من استقبال المهاجرين.
وعلاوة على ذلك، ترفض باريس السماح لطالبي اللجوء، الذين يتم إنقاذهم في البحر المتوسط، بالتوجه إلى الموانئ الفرنسية، وأعادت في الآونة الأخيرة 200 مهاجر عبروا إلى موانئها بعد نجاحهم في عبور المتوسط.
ويأتي موقف فرنسا الأحدث في سبيل إحلال السلام في ليبيا، استمرارا لسياسات ضحلة ومزدحمة بالشعبوية تزيد من تفاقم معاناة اللاجئين والمهاجرين أكثر من كونها أساسا للحل.
ليبيا المثقلة بالأعباء
خطاب ماكرون في أورليان يوضح أن سياسته مبنية على عاملين مشتركين خاطئين، الأول هو أن عصابات تهريب الأشخاص في ليبيا تتكون أساسا من السائقين، والثاني يتعلق بـ”النقاط الساخنة الآمنة” ودورها في منع المهاجرين من الدفع بأنفسهم لعبور المتوسط.
في الواقع هذا الطرح يتجاهل حقيقة أن المهاجرين واللاجئين بدأوا بالسفر من ليبيا إلى أوروبا قبل ثورات الربيع العربي (بدأت أواخر عام 2010)، التي أوجدت حالة من الفوضى في دولة شمالي إفريقيا (ليبيا).
وتجنب هذا النوع من الهجرة كان أحد الأجندات السياسية المفضلة لدى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي (1969-2011) عند تعامله مع أوروبا.
ومن الصعب أن تنجح سياسة ماكرون؛ فالدافع وراء هذه النوعية من الهجرة ليس عمل المهربين فحسب، وإنما في السعي البشري نحو حياة كريمة تدفع المهاجرين إلى المخاطرة بحياتهم في عرض البحر.
وإن كان الغرض من هذه “النقاط الساخنة” إحلال السلام في ليبيا وتأسيس حكومة مستقرة تقوم على متانة المؤسسات الأمنية، إلا أنها لن تمحي – في حال تنفيذها – أي حوافز طويلة الأمد بشأن الهجرة.
وغير صحيح أن غالبية اللاجئين عبر البحر المتوسط هم من فئة المهاجرين فرارا من أوضاع اقتصادية متردية الذين لا يتمتعون بحق اللجوء، لكن يمكن معالجة قضيتهم بالهجرة إلى أرض إفريقية، دون أن يتعرضوا لخطر العبور إلى أوروبا.
ورغم أن الأغلبية لا يفرون بالطبع من أهوال الحرب، إلا أنهم يحتفظون بأسباب أخرى، مثل الفرار من الاضطهاد أو لكونهم أحد ضحايا الإتجار بالبشر، في سعي للحصول على حماية دولية.
كما يتجاهل ذلك بصورة غير مشروعة مبادئ القانون الدولي المتعلّقة بالإعادة القسرية، الأمر الذي قد يعيد الأشخاص إلى أماكن يتعرضون فيها للتعذيب أو إساءة المعاملة.
وهذا مبدأ تم تأكيده في قرار أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد إيطاليا سنة 2012، عندما أعادت مهاجرين إلى ليبيا.
وبالنظر إلى أسس السياسة الخاطئة، فإن الاحتمال الوحيد لنجاح النقاط الفرنسية، قد يحدث في حال جرى نقل الأزمة إلى الأوساط التي تعاني من ثقل الأعباء، بدلا من وضع حلول دائمة وشاملة.
وتظل السياسات الضحلة ومحاولات الحلول قصيرة الأجل التي تقدم بها ماكرون من جانب واحد غير قادرة على السيطرة على الأزمة المتفاقمة، ولن تؤدي سوى إلى زيادة الضغط العام على قضية اللاجئين.
وللخروج من هذه القضية، يتعين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي ليس لديها وسائل لحل الأزمة، أن تعمل معا على وضع سياسة منسقة.
وفي الوقت الذي يعجز فيه القادة الأوروبيون الآخرون عن تقييد استقلال ماكرون العنيد بتطوير سياساته، فإن قدرة أوروبا على إدارة أزمة اللاجئين ستستمر في التدهور.
وكالات