في رواية «العمى» للكاتب والأديب البرتغالي جوزيه سارماجوا (16 نوفمبر 1922 – 18 يونيو 2010) يحكى عن قصة وباء غريب انتشر فجأة في أحد البلاد، وباء يصيب الناس
بعمى حليبي معدي، تضطر على أثره حكومة هذه الدولة إلى اتخاذ بعض إجراءات الحجر الصحي لمحاصرة هذا الوباء الفريد من نوعه، فتقرر حجز المصابين والمشكوك في حملهم للعدوى في مشفى مهجور كان مخصصًا لمعالجة الأمراض العقلية.
بمرور الوقت يزدحم المبنى بالمصابين، فيتم توزيعهم على عنابر. أحد هذه العنابر تجمع فيها مجموعة من الرجال المسلحين وصفهم الكاتب بالسفاحين، ونتيجة لسطوتهم قرروا الاستيلاء على حصص الطعام التي ترسلها الحكومة للمحتجزين بواسطة قوات من الجيش تحاصر المبنى لمنع خروج أي محتجز مهما كانت الأسباب، ومن يخالف ذلك يتم تصفيته في الحال. وطبقًا للتعليمات فالمحتجزون مسئولون عن تنظيم أنفسهم داخل المشفى، ولن يتدخل أحد لمساعدتهم أو إنقاذهم من أي طارئ مهما حدث، فيبدأ السفاحون في فرض سطوتهم على المكان.
في البداية، قرروا عدم توزيع حصص الطعام على باقي العنابر قبل الاستيلاء على كل متعلقاتهم، ومن يرفض ذلك فعليه أن يواجه الموت جوعًا. ثم بعد أن تأكدوا من الاستيلاء على كل شيء جاء الدور على مصادرة النساء. هنا، يحتج بشدة الرجال، ولاسيما الأزواج، لكنهم بعد نقاش طويل يرضخون لمطالب السفاحين. لكن قبل أن تذهب النساء، حدث أمر غاية في الغرابة، تقرر النساء مواقعة رجال العنبر الذي يتقاسمونه قبل الذهاب مرغمين للسفاحين. هذا الفعل الذي لم يحتج عليه أحد من الأزواج الذين استنكروا في البداية ذهاب زوجاتهم لمواقعة السفاحين في العنبر المقابل. وهنا يلح السؤال: لماذا ظهرت الغيرة والنخوة من الرجال عندما كان الاعتداء من شخص غريب، لكنها اختفت تمامًا لمجرد أن من يقوم بنفس الفعل شخص لديه قواسم مشتركة؟!
لطالما طالعتنا مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار تتحدث عن القتل والتنكيل بالمسلمين في دولة ميانمار، التي تعرف أيضًا باسم بورما، ورغم أنها مرفقة بصور مجهولة المصدر وكثير منها مشكوك في صحتها، فإنها تثير حفيظة الكثيرين وتسمع دائمًا عبارات على غرار: «أين نحن وإخوتنا المسلمون يقتلهم البوذيون في بورما؟»، رغم أننا لا نملك سوى الصراخ، لكنك تكاد لا تسمع صوتًا يتحدث عن ضحايا الشعب اليمني الذي يعاني بين مطرقة الحرب وسندان الكوليرا، كأن ما يثير حفيظتهم ليس قتل المسلم، وإنما هوية قاتله، فإن كان بوذيًّا أو يهوديًّا يستشاط غضبًا أم إن كان مسلمًا سنيًّا فإنه لم يبرر، فأقصى ما يقول إنها فتنة ولا شأن لنا بها.
أشار تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة مطلع الشهر الحالي أن عدد الوفيات بسبب تفشي مرض الكوليرا في اليمن ارتفع إلى 1500 حالة، فيما وصل عدد الحالات المشتبه في إصابتها بالمرض إلى 246 ألف شخص. هذا الشعب المسكين كان عليه أن يموت على يد البوذيين أو السيخ حتى يشعر بهم المدّعون حماة الدين أصحاب النخوة والضمير «المزيف»، هنا تحضرني بعض الأبيات للشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي»:
قَصَبٌ هياكلنا،وعروشنا قَصَبُ،في كُلِّ مئذَنةٍ،حاوٍ، ومغتصبُ،يدعو لأندلس،إن حُوصرتْ حَلَبُ.ليس الشعب اليمني فقط من يعاني التجاهل والتهميش لمعاناته بالطبع، ولا أقلل من الانتهاكات الممنهجة ضد الأقليات المسلمة في دول شرق آسيا، ولكنه مجرد مثال للتعامل الفج بانتقائية في التعاطف وتأييد القضايا الإنسانية، والمخزي في الأمر أن كل ما نملكه هو التعاطف، والأكثر خزيًا أن هناك من ينتقي لمن يتعاطف!
هذا العالم مليء بالتناقضات وأصبح نادرًا أن ترى من يرفض الجُرم لذاته، فمنذ سنوات قليلة تصدرت فرنسا دول أوروبا في السعي للاعتراف بجرائم إبادة وقعت على الأرمن منذ مائة عامة على يد الأتراك، وتناست جرائمها في الجزائر، والأغرب أن ذلك يتزامن مع جرائم حرب تقع يوميًا في سوريا (وغيرها) ولا يوقفها أحد.
في مطلع التسعينيات تحشد عشرات الدول جيوشها لكبح جماح صدام حسين ووقف تغوله على آبار النفط في الدول المجاورة، بينما يباد أكثر من 800 ألف شخص في رواندا خلال أشهر قليلة في واحدة من أفظع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث ولا يحرك أحد ساكنًا، بل يأتي اليوم الذي ينعى فيه من وصلوا لسدة الحكم على ظهور الدبابات الضحايا بكلمات مستهلكة لا يعون قيمتها.
فياله من عالم بغيض ذلك الذي قال عنه وصدق غسان كنفاني إنه «يسحق العدل بحقارة كل يوم».
اضاءات
هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع