السياسة المصرية تجاه أفريقيا ليست حديثًا واحدًا خلال السبعين عامًا الماضية؛فمن التصدِّي للاستعمار ودعم حركات التحرر الوطني إلى دعم الدكتاتوريات ثم التلويح باستخدام الحلّ
العسكري ضد الدول التي تطالب ببناء سدود على نهر النيل، لذلك فالعلاقات بعد عبد الناصر كانت مُتوّجة دائمًا بالتجاهل وبتكوين العداوات، ولطالما اتُهمت القاهرة بسرقة ماء النيل، وتهديد دول حوض النيل باستخدام القوة أمام أيّة مشاريع..
لكنّ الأدوار تغيرت تمامًا منذ عام 2010؛ فاتفاقية عنتيبي التي ستحرم مصر من نصيبها الأكبر في النهر تنتظر توقيع دولة واحدة حتى تُصبح سارية المفعول بقوة القانون الدولي، كما أنّ مشروع سدّ إثيوبيا سيقوم بتصدير الجفاف شمالًا من أجل النهضة جنوبًا، وهو حُلم أفريقيا الذي لم تشارك فيه مصر.
في هذا التقرير نسير معك في رحلة تاريخية تعودُ إلى الخلف تدريجيًا، نروي لك كيف تخلّت مصر عن حُلم عبد الناصر في أفريقيا.
4- السيسي.. مصر تخوض حربًا خاسرة في الجنوب
الاتحاد الأفريقي لن ينحاز إلى مصر في أي نزاع حدودي أو مائي قادم مع إثيوبيا أو السودانعقب أحداث 30 يونيو (حزيران) 2013، قام الاتحاد الأفريقي بتجميد عضوية مصر، وكان الدافع وراء ذلك هو تهديد القاهرة منذ عهد الرئيس المعزول محمد مرسي باستخدام الحل العسكري في مشروع سدّ النهضة، إضافة إلى حركة الجيش في 3 يوليو (حزيران) من العام نفسه، وطبقًا لمواثيق الاتحاد الأفريقي فإنه «يُحظر استخدام القوة أو التهديد بها، كما أنه من غير المقبول الاستيلاء على الحُكم بشكل غير دستوري»، ولم تُفلح جهود الخارجية المصرية في إعادة العلاقات إلا بعد عامٍ كامل؛ وبالرغم من أن النظام المصري أعلن حرصه على استعادة أفريقيا، إلا أن مواقف السيسي نفسها في الجنوب أثارت غضبًا أفريقيًا مكتومًا تجاه مصر، وهو ما يُفسر ظهور الرئيس المصري في الصفوف الأخيرة دائمًا خلال القمم الأفريقية الثلاث الماضية الـ «26 و27 و28»، والتي كان آخرها في يناير (كانون الثاني) من العام الجاري.
تخوض مصر أربعة حروب أفريقية على وشك خسارتها بسبب سياساتها الخارجية؛ تتمثل أولها في خطر سريان اتفاقية عنتيبي التي تنص على الاستخدام المُنصف والعادل لجميع دول حوض النيل ما يعني إلغاء حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب، وكذلك حصة السودان البالغة 18.5 مليار متر مكعب، وبدلًا من أن تتفاوض مصر أعلنت تجميد عضويتها لسبع سنوات كاملة قبل أن تعود مُجددًا في نهاية (مارس) آذار الماضي، وتتخوف القاهرة من تفعيل الاتفاقية بعد توقيع خمس دول من أصل 11 دولة وهم «إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا»، وبموجب القانون الدولي فمن الممكن أن تدخل اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ في حال «مصادقة ثلثي دول حوض النيل، أي سبعة دول من أصل إحدى عشرة دولة»؛ وبالرغم أن بوروندي وافقت على الاتفاقية، إلا أنها لم تُصادق عليها، مما يعني أن النصاب القانوني سيكتمل بتوقيع دولة واحدة.
المثير في السطور القادمة هو أن السودان التي رافقت مصر في الرفض طيلة سبع سنوات قد تتجه للتوقيع؛ فقد نقلت صحيفة البيان الإماراتية عن مصادر سودانية قولها إنّ «السودان تسعى للانضمام لعنتيبي»، كما نقلت أيضًا قناة الجزيرة القطرية تصريحات خبراء سودانيين في ملف النيل، أكدوا أن بلادهم تدرس الانضمام للاتفاقية، نظرًا لأنّ تحفظات الخرطوم عليها ليست كثيرة ويمكن تجاوزها؛ والرئيس السوداني قد يستغلّ علاقاته القوية بدول حوض النيل لوضع شروط مسبقة لانضمام بلاده، والغريب في الأمر أن مصر تعلم أن الدول الموقعة على «عنتيبي» في حاجة إلى انضمام السودان؛ حتى تصبح الاتفاقية سارية التنفيذ على كل دول حوض النيل، وهو ما أكده وزير الريّ الأسبق محمود أبوزيد في تصريحات سابقة لـ«ساسة بوست» أنّ مصر تعلم أن السودان غير متمسكة بالرفض؛ وفي حال التوقيع، فإن الدول ستمتلك الحق في بناء سدود مائية بدون إذن مُسبق من مصر بخلاف ما ينص عليه أول اتفاق وقعته بريطانيا لتنظيم مياه النيل عام 1929.
اقرأ أيضًا: «إخوة أم أعداء؟»: التفاصيل شبه الكاملة للصراع المحتدم بين مصر والسودان
مصر أيضًا خسرت جبهة ثانية في أقصى الجنوب؛ فبينما كشف وزير الكهرباء المصري إمكانية خروج السد العالي من الخدمة خلال سنوات، فشلت مصر في إيقاف مشروع سد النهضة الإثيوبي، وطبقًا للمادة 36 من ميثاق الأمم المتحدة، فإنه «لا يجوز لأي دولة أن تلجأ إلى المحكمة الدولية للأمم المتحدة لعرض أي نزاع ينشأ بينها وبين أي دولة أخرى إلا بموافقة الدولة الخصم»؛ وقد سبق أن رفضت إثيوبيا التحكيم في قضية سد النهضة، إلا أنّ المشكلة الكبرى التي وقعت فيها مصر هي بتوقيع الرئيس السيسي على «وثيقة السد»، مع نظيره السوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي، وتتلخص الاتفاقية بسماح الدول الثلاث ببناء السدود على نهر النيل؛ لتوليد الكهرباء، وإثيوبيا تنوي بناء خمسة سدود، إضافة إلى أن السودان تقوم حاليًا ببناء سبعة آخرين.
مصر لن تكون قادرة على الذهاب للتحكيم الدولي في قضية سد النهضةوالمثير في الاتفاقية أن إثيوبيا فرضت في الاتفاقية كلمة «يحترم» بدلًا من كلمة «مُلزم» حول تقرير المكتب الاستشاري لبناء السد، وهذا يعني أن اعتراض مصر سيكون لا قيمة له قانونيًا؛ ولقراءة النص الكامل للوثيقة اضغط هنا.
الأغرب من تلك الملاحظة، أن مصر وفقًا لتسريبات ويكيليس في عهد مبارك والسيسي أظهرت رغبة في التحرُّك العسكري نحو السد، وبالرغم من أنها وقعت على اتفاقية السد، إلا أنها عقدت صفقة مع فرنسا، من خلال شراء طائرات الرافال القتالية المزودة بالذخائر النووية، وهي نوع من المقاتلات قادرة على تأدية المهام على بعد مسافات تتجاوز 1500 كيلومتر، وهو ما أثار حفيظة إثيوبيا التي قامت بشراء الصواريخ المضادة للطائرات الرافال ونشرتها في محيط سد النهضة.
وتجدر الإشارة إلى أن السودان وقعت اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا، أي أن مصر لن تستطيع أن تتخذها قاعدة عسكرية، وفي المقابل فإن البشير حصل على امتيازات تفسر تأييد بلاده لمشروع السد، وأهمها أن السد الذي يقع على بُعد 30 كيلو مترًا فقط، سيقوم بحجب الفياضانات المدمرة، إضافة إلى أن إثيوبيا وعدته بشق بحيرة السد إلى ولاية النيل الأزرق، وهذا من شأنه أن يحافظ على انسيابية النيل طوال العام، ويمنعه من الجفاف، مما سيحافظ على استقراره بالتوسع في الزراعة، إلى جانب الحصول على الكهرباء بأسعار رخيصة.
المشكلة الأكبر في أزمتي سد النهضة واتفاقية عنتيبي هو أنّ الاتحاد الأفريقي لن ينحاز إلى القاهرة في أيّ صدامٍ قادم، فالأزمة الحدودية الناشبة بين مصر والسودان، حول مثلث «حلايب وشلاتين» هي أزمة ثالثة؛ فالسودان يعتمدُ على خرائط الاتحاد الذي يعتبرها سودانية، وربما هذه هي إحدى الأسباب التي لن تجعل مصر توافق على التحكيم الدولي، وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد انحاز إلى الخرطوم أثناء الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة عليه حتى الآن منذ 2009، كما أن مصر مُتهمة بالتخابر لصالح المعارضة السودانية التي تستضيفها على أراضيها، إضافة لدعم جنوب السودان بالسلاح والذخيرة، بحسب تصريحات البشير؛ إلا أن الاتهام أصبح أكثر جدلًا بعدما صادر الجيش السوداني معدات عسكرية مصرية حصل عليها المتمردون في هجومهم على دارفور.
الجدير بالذكر أن دور مصر «المشبوه» لم يقتصر على جنوب السودان ودارفور؛ إذ اتهمت إثيوبيا مصر بدعم أوغندا التي استهدفت مشروع سد النهضة بعملية «إرهابية» فاشلة، وخلال زيارة السيسي الأخيرة إلى أوغندا، علقت أديس أبابا أن الزيارة تدخل ضمن مساعي القاهرة لتكوين صداقات مع أعدائها، وهو ما سيكون مبررًا قويًا لعدم انحياز الاتحاد الأفريقي لمصر في أي نزاع مائي أو حدودي قادم مع إثيوبيا والسودان، خاصة أنّ مقر الاتحاد يقع في أديس أبابا الدولة الفاعلة فيه، ولا يجب أن ننسى أن التدخل العسكري لمصر في ليبيا يُقلق الاتحاد الأفريقي الذي انضم لقرار مجلس الأمن بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، إلا أن مصر قامت بخرق القرار وقامت بتزويد جبهة حفتر بالسلاح إضافة إلى الغارات الجوية على الأراضي الليبية، وهو ما يجعل الاتحاد الأفريقي ينتظر الفرصة المناسبة لتطبيق عقوبات على القاهرة، كما أنه أيضًا يجعل حُكم الرئيس السيسي امتدادًا لفترة الرئيسيين الأسبقين مبارك والسادات في دعم الدكتاتوريات الأفريقية، وباستثاء الرئيس المعزول مرسي الذي لم يحكم سوى سنة واحدة فقط.. هل أنت مُستعدٌ لقراءة القصة القادمة؟
اقرأ أيضًا: كيف ستتضرر مصر من نهضة السودان؟ 5 أسباب تشرح لك
3- مبارك.. التاريخُ الذي لن يُحكَ
مبارك ترك أفريقيا بدون قواعد عسكرية مصرية، وكان سببًا في الغزو الإثيوبيي للصوماليحمل كتاب «شهادتي» لأحمد أبو الغيط، آخر وزير خارجية في عهد مبارك قبل الثورة فصلين كاملين عن أفريقيا وأزمة مصر مع دول حوض النيل؛ وأرجع الوزير السابق الذي أمضى سبع سنوات في منصبه خلال شهادته مشكلة مصر مع أفريقيا إلى عدة أسباب، أهمها عدم حرص مبارك وقتها على التقرب إلى أفريقيا في مقابل التوجه إلى كل ما هو عربي في تلك الفترة التي تزامنت معها أحداث خاصة مثل (القضية الفلسطينية وحرب تحرير الكويت وحرب العراق)، إضافة إلى تجاهل مشاكل الجفاف التي لحقت بدول حوض النيل، إذ صرَّح بأن مصر كانت عاجزة عن تقديم الدعم المالي المطلوب مقارنة بالتواجد الصيني والإسرائيلي، إضافة إلى وجود الفساد الذي منع أي تعاون اقتصادي مع أفريقيا، ولم ينس الكاتب في شهادته أن سياسة مبارك تجاه الجنوب تأثرت كُليًا بعد حادثة الاغتيال التي نجا منها في أديس أبابا عام 1995، لكنّ الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل يُكمل الشهادة المنقوصة قائلًا: «مصر طالبت بحقوقها في النيل دون مراعاة مصالح الآخرين الذين كانوا يموتون جوعًا في بلادهم من الجفاف والفقر، وما يحدث الآن هو نتاج طبيعي لما سبق».
ولأنّ مصر وقتها كانت حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، فليس غريبًا أن يتوجه مبارك إلى واشنطن 23 مرة خلال سنوات حكمه، فيما توقف فترة كبيرة عن المشاركة في النشاطات الأفريقية بعد حادثة الاغتيال التي اتهم السودان وقتها بتدبير الحادث، واقتصر حضور مبارك بعدها على زيارات عاجلة للظهور الإعلامي فقط؛ وبحسب ما نقله الصُحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، فإن أحد رجال مبارك توعد رئيس الوزراء الإثيوبي وقتها بالانتقام، وحاول النظام المصري اغتيال «زيناوي» ثلاث مرات، ولكن المحاولات كانت فاشلة.
محطة أخرى بارزة في علاقة مبارك بالقارة؛ ففي الوقت الذي كانت ترعى فيه القاهرة القضية الفلسطينية، كانت التقارير الأمنية تحذر مبارك من السفر لأي دولة أفريقية لعدة أسباب أمنية، أهمها ضيق الطرق والانفلات الأمني، لكن تلك النقطة الأخيرة كانت فرصة استثنائية لإسرائيل للتواجد جنوبًا؛ إذ ركزت إسرائيل على تدعيم الدكتاتوريات الأفريقية باعتباره طريقًا للوصول إلى علاقات دائمة؛ فقامت بتدريب الحرس الرئاسي لزائير والكاميرون، إضافة إلى نقل الخبرات الفنية لمعظم الدول التي لا ترتبط بها بعلاقات مباشرة.
وفيما كان مبارك ينصب الرئيس الليبي معمر القذافي ملك ملوك أفريقيا، كانت الإحصاءات التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية تشيرُ إلى أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997 وصل إلى نحو 742 متدربًا، إضافة إلى نحو 24 ألف أفريقي تلقوا تدريبهم من قبل في مراكز التدريب الإسرائيلية خلال الأربعين سنة الماضية، بينما يتحدث أحمد أبو الغيط في «شهادتي» في الصفحة 316 قائلًا: «وكنا حتى عام 2010 قد أنشأنا ثلاثة مراكز طبية، وأوفدنا 37 طبيبًا مقيمًا»؛ ثم يعود في الصفحات السابقة ليعلن أن مصر أرسلت سبعة آلاف خبير مصري خلال الفترة من 1981 إلى 2004، ثم يعترفُ بأن مصر لم تستطع حل مشاكل الجفاف التي لحقت بدول حوض النيل لا على المستوى السياسي ولا على الاقتصادي، فالقاهرة في عام 2006 حين قررت صدرف 30 مليون دولار من ميزانيتها لدعم أفريقيا، كانت الصين قد قررت دعم القارة بخمسة مليارات؛ ونتيجة لحصاد تلك السياسات، فمن المقرر أن يحضر رئيس الوزراء الإسرائيلي القمة «الإسرائيلية الأفريقية» في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري.
مصر التي غابت أيضًا عن الحضور الاقتصادي، غابت أيضًا عن الحضور السياسي إلا في المواقف المشبوهة؛ فمبارك الذي امتنع عن حضور اللقاءات الأفريقية، ووقع في أزمة دبلوماسية مع الجزائر بسبب مباراة كرة قدم، أو هكذا أريد لها. أيضًا في عام 2010 قام مبارك بتحسين علاقاته مع السودان، ولكنها جاءت هذه المرة لغرض آخر، كشفته تسريبات ويكيليكس؛ وبحسب الوثيقة، فإن مبارك اتفق مع الرئيس السوداني عمر البشير على إنشاء قاعدة عسكرية في الخرطوم تستخدمها قوات الكوماندوز المصرية في حال أصرت إثيوبيا على إنشاء أية سدود مائية، وهو نفسه الذي أكده الرئيس المعزول بعد ذلك في تسجيل مسرب حديث أكد فيه نيته استخدام الحل العسكري وسيلةً للتفاوض، ولكنه في كل الأحوال فشل في إقامة أية قواعد عسكرية في البلدان التي لها عداء مع إثيوبيا، ومنهم الصومال وأوغاندا وإريتريا.
الغريبُ في الأمر، أن إثيوبيا في عام 2006، حين أقدمت على غزو الصومال، أرسلت وزير خارجيتها إلى مصر لإطلاعه على نوايا أديس أبابا، وكان الرد المصري جاء «نتفهم التدخل الإثيوبي في الصومال»، وكان سبب الحرب هو التخلص من المحاكم الإسلامية المعروفة باسم الجهاد المقدس، ومنعها من قيام دولة إسلامية، وربما كان الدافع الوحيد وراء سماح مبارك لإثيوبيا بغزو الصومال، هو الرغبة الأمريكية في ذلك الوقت في محاربة الجماعات الإسلامية؛ الشيء الأهم الذي سنذكره في السطور القادمة، هو أن مبارك كان يسير على نهج السادات في دعم دكتاتوريات في أفريقيا، وذلك حديث السطور القادمة.
2- السادات.. محارب الشيوعية وصديق الطغاة
أفريقيا قطعت علاقاتها مع إسرائيل في حرب أكتوبر ثم فوجئت باتفاقية السلام 1979تولّى الرئيس السادات الحكم، وكانت القاهرة تحظى بنفوذٍ كبير في القارة الأفريقية، لذلك اتخذت أغلبية الدول الأفريقية ممثلة في منظمة الوحدة الأفريقية قرارها بقطع العلاقات مع إسرائيل عقب حرب أكتوبر 1973، وكانت أسبابها واضحة، فسيناء أرضٌ لدولة أفريقية احتُلتْ دون حق، لكن الرئيس المصري آنذاك لم يحاول الحفاظ على إرث عبد الناصر، واتجه نحو سياسته الجديدة التي لم تعرفها مصر من قبل وهي أن «99% من أوراق لعبة الشرق الأوسط تقع في يد الولايات المتحدة الأمريكية»، ومنها جاء الدور الجديد للقاهرة نحو أفريقيا.
لم تكد تمرّ ثلاث سنوات على الحرب، حتى زار مصر وفد إثيوبي، وكانت المفاجأة أن السادات رفض استقباله، وتجدر الإشارة إلى أن إثيوبيا دولة فاعلة في السياسة الأفريقية، حيث يتمركز فيها مقر الاتحاد الأفريقي إضافة إلى منظمة الوحدة، والسادات لم يقم بزيارة واحدة إلى أديس أبابا أثناء فترة حكمه؛ لذلك عادت مشكلة المياه مرة أخرى إلى الواجهة خاصة بعد موجة الجفاف التي ضربتها عام 1973، في المقابل كانت مصر تدعم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا من أجل انفصالها عن إثيوبيا، لكنّ قيام مصر بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، جعل الرئيس الإثيوبي «منجستو هيلا مريام» يقوم بتحطيم زجاجة مليئة بالدم مُعلنًا أن مصر انضمت لصالح «الإمبريالية» الغربية، وأنها أصبحت تتآمر على بلاده.
أمرٌ آخر لا يجب إغفاله؛ ففي الوقت الذي كانت دول حوض النيل تلتزم باتفاقية 1929، التي أقرتها بريطانيا لتنظيم توزيع مياه النيل، والتي تجعل لمصر النصيب الأكبر (55 ألف متر مكعب من أصل 1600)، كانت دول المصب تعاني من الجفاف والفقر وانقطاع الكهرباء؛ وكانت مصر تردد دومًا أن الماء بالكاد يكفيها، ومع الطعنة التي تلقتها الدول الأفريقية بتوقيع النظام المصري اتفاقية السلام، إضافة لإعلان السادات عن مشروع تحويل جزء من مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، وكانت الرغبة الأساسية لهذا المشروع أن الرئيس المصري وعد الإسرائيليين بتزويدهم بمياه النيل، لتعلن إثيوبيا أن هذا المشروع ضد مصالحها، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية في ذلك الوقت تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل، وكان ذلك مبررًا أخلاقيًا لأديس أبابا جعلها تعيد مشروعها القومي ببناء السد، ليأتي الرد المصري وقتها عام 1979 «المسألة الوحيدة التي يمكن أن تأخذ مصر للحرب مرة أخرى هي المياه».
وبعيدًا عن الأزمات السياسية، يأتي دورٌ آخر لم يُعلن عنه إلا بعد اكتشاف الوثائق السرية بعد الثورة الإيرانية عام 1979، فالتحالف الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل، جعل القاهرة مضطرة للتخلي عن دورها التاريخي من دعم حركات التحرر إلى محاربة الشيوعية ومقاومة الأعمال الثورية التي يقف وراءها «الاتحاد السوفيتي»، والسماح للصديق الإسرائيلي بالتوغل في القارة دون اعتراض، ونتيجة للوظيفة الجديدة انضمت مصر إلى ما عُرف تاريخيًا باسم «نادي السفاري»، وكان عبارة عن تحالف سري بين خمس دول (فرنسا – المغرب – إيران – مصر – السعودية)، وتكون وظيفتهم التصدى لخطر المد الشيوعي في القارة، وتأمين خطوط النفط العالمية التي تمر من البلاد الأفريقية المتحالفة مع «موسكو»، وكانت مصر والمغرب مسئولتان عن الجناح العسكري في ذلك الاتفاق السري.
السادات لم يكن محاربًا للشيوعية فقط، بل كان صديقًا مقربًا من الطغاة الأفارقة الذين حصلوا على الدعم المباشر من الولايات المتحدة؛ فعلى سبيل المثال، التمرد الذي شهدته الكونغو عام 1977 على الدكتاتور موبوتو في إقليم «كاتنجا»، أدى إلى تخوف الدول الغربية على شركات التعدين إذا ما وقعت تحت أيدي الثوار؛ لذا أرسلت كلا من مصر والمغرب قوات عسكرية مدعومة بالطائرات من أجل حماية صديق الولايات المتحدة؛ ولم تكن هذه هي العملية الوحيدة لنادي السفاري، مبارك أيضًا كان خليفة السادات في النادي؛ ففي عهده دعمت مصر الدكتاتور التشادي حسين حبري، حليف الولايات المتحدة في أفريقيا، والمسئول الأول عن محاربة الشيوعية في القارة.1- عبد الناصر.. زعيم حركات التحرر في أفريقيا
شارك عبد الناصر في تحرير الكثير من الدول الأفريقية، وكانت القاهرة المقر الدائم لزعماء حركات التحررفي كتابه «فلسفة الثورة»، يشرح جمال عبد الناصر بوضوح توجه السياسة المصرية في ذلك الوقت، فالقومية التي أطلقها ناصر، والتي كانت السبب الأول في عداء السعودية له، كانت تهدف إلى الرغبة في الزعامة العربية، وانضمام لمصر لجبهة عدم الانحياز في مؤتمر باندونج عام 1955 التي كان هدفها الأول السعي لتكوين زعامة بعيدة عن الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن؛ بينما كانت أفريقيا هي الضلع الثالث والأخطر باعتبارها الفناء الخلفي الذي يجب الاستحواذ عليه.
سارت أولى سياسات ناصر في المنطقة بتزعُّم حركات الاستقلال؛ فشاركت مصر عسكريًا لأول مرة ضمن بعثة تابعة للأمم المتحدة لتحرير الكونغو، وأرسلت كتيبة بقيادة الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي أصبح فيما بعد رئيس أركان حرب أكتوبر 1973، وكانت مصر تدعم وقتها 38 حركة تحررية بالمال والسلاح والدعم السياسي، بما فيهم تونس والجزائر، ولعبت الجمعية الأفريقية التي ما زالت موجودة في القاهرة دورًا كبيرًا في استقبال رموز الزعامات الأفريقية لبث الدعاية المناهضة للاستعمار من القاهرة.
امتد الدور المصري شمالًا ليشمل ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وفي شرق القارة كانت مصر تدعم الصومال وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وتوغلت في القلب لتساند غانا وغينيا ونيجريا والكونغو (زائير)، كما قاوم جمال عبد الناصر حركات الانفصال بعد الاستقلال خصوصًا فى نيجيريا، كما وقف ضد الاحتلال البريطاني الذي كان يسعى لفصل جنوب السودان، وبالعودة إلى التاريخ القريب فإن مبارك سمح لإثيوبيا بغزو الصومال، كما لم تتحرك مصر بقوة لوقف انفصال جنوب السودن.
وبعدما لعبت مصر دورًا في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، كانت القاهرة قد استعدَّت للدور الجديد؛ فأنشأ عبد الناصر عدة شركات مصرية في الجنوب الأفريقي أشهرها «شركة النصر للتعدين» و«شركة النصر للاستيراد» وشركة «مصر للاستيراد والتصدير»، وكانت مهمتهم الترويج للمنتجات المصرية ضمن أكثر من 52 مكتبًا، وفي حقبة الستينيات كان النشاط الإسرائيلي متزايدًا في القارة، خاصة في شرق أفريقيا، لذلك حرصت مصر على إرسال البعثات الدينية والتعليمية، إضافة إلى قيام المهندسين المصريين بالشروع في بناء السدود والمشاريع التي تحمي دول حوض النيل من الجفاف، بما لا يتعارض مع المصالح المصرية، وحين قررت مصر بناء السد العالي، واجهت اعتراضًا إثيوبيًّا، لكنَّ أديس أبابا فشلت في حشد الدول الأفريقية ضد القاهرة لما كانت تحظى به من نفوذ في ذلك الوقت.
المفارقة المثيرة أن إثيوبيا أيضًا أرادت بناء مشروع سد لتوليد الكهرباء، لكنّ عبد الناصر استغل تأثير الكنيسة المصرية على الكنيسة الإثيوبية التي كانت تابعة لها في ذلك الوقت قبل الانفصال، ونجحت مصر في إلغاء المشروع؛ وكانت مصر في ذلك الوقت تمثل دور الزعامة السياسية والثقافية في القارة؛ فالرئيس كان دائم الحضور في كل الفاعليات، كما أنه طالب بالإفراج عن الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، وفي خطوة مفاجئة قرر إعطاء السودان حقّ تقرير المصير، والذي نتج عنه انفصالها عن مصر.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه آخر وزير خارجية في عهد مبارك عن النشاط الضعيف للشركات المصرية ذات الدور المحدود في أفريقيا، مبررًا أن التوجه العام وقتها كان الاستثمار في أوروبا وليس في أفريقيا، والذي كان سببًا لاتهام القاهرة بتجاهل آلام القارة، وعدم حرصها على مصالح دول حوض النيل، يأتي حقيقة النظام المصري في مذكرات ناصر عن ضرورة وحتمية الاهتمام بالقارة قائلًا: «نحن الذين نحرس الباب الشمالي للقارة ولن نستطيع بحال من الأحوال أن تتخلى عن مسئولياتنا في المعاونة ولن نستطيع بحال من الأحوال أن نقف أمام الذى يجري في أفريقيا ونتصور أنه لا يمسنا أو يعنينا، وهذا التحديد للتوجه السياسي المصري الجديد تجاه أفريقيا يعنى أساسًا دورًا مصريًا ملتزمًا بقضايا التحرر الوطني الأفريقي ومساندًا لنضال القارة ضد الاستعمار والعنصرية».
يأتي السؤال الذي يسبق مشروع افتتاح سد النهضة، وتفعيل اتفاقية عنتيي: هل يستطيع النظام المصري تبني سياسة جديدة بحثًا عن النفوذ في القارة السمراء، أم أن الوقت فات على ذلك؟
ساسة بوست