بدت مدينة القيارة، جنوب الموصل، بعد تحريرها من «داعش» بمدة قصيرة وكأنها منطقة أسطورية مغلفة بطبقة سميكة من الرماد والسخام. وعلى مسافة قليلة منها، بدا مشهد صراع
رجال الإطفاء لإخماد النيران المشتعلة في آبار نفطها «خرافياً» يشبه الى حد كبير المشاهد السينمائية المتخيلة لنهاية العالم. لَهب النيران يتسع على رغم اندفاع كميات الماء الكبيرة من الخراطيم، وغيوم الدخان الأسود ترتفع عالياً لتحجب ضوء القمر فيما يحاول الإطفائيون – وبكل ما أوتوا من قوة – خنق التنين العملاق.
هكذا بدا مشهد آبار نفط القيارة المشتعلة لحظة تصوير فريق عمل التلفزيون الألماني برنامجه «العراق: حرب الحرائق». والى جوارهم وقف حسين سلطان، مدير هيئة الحقول التابعة لنفط الشمال وهو يشرح لهم جانباً من عمله قائلاً: «منذ عام 2012، وداعش يقوم بإشعال كل آبار النفط التي يُطرد منها، انتقاماً. إخماد النيران يتم بجهود عراقية خالصة والمعدات أيضاً عراقية تابعة لقطاع النفط، للأسف لم يقدم لنا أحد مساعدات في هذا المجال سوى الكويت التي زودتنا ببعض أجهزة الإطفاء».
يتولى حماية آبار النفط المُخمَدة رجال الشرطة ووحدات خاصة من الجيش. ووفق أحد الضباط، فإنّ «داعش» كان يعتبرها من أهم مصادره المالية. يستخرج النفط الخام منها وينقله بصهاريج لبيعه خارج البلاد وبالتحديد الى سورية وتركيا وعددها كما يقدره الضابط أكثر من 1500 صهريج يومياً، لكن قادته كانوا يتعمدون تفجيرها ما أن تبدأ عمليات تحريرها من دون اكتراث لما تلحقه من دمار بالسكان والبيئة.
تسمم المياه وتلوث الجو بالمواد الكيماوية المتصاعدة مع الدخان الأسود الكثيف يتسببان في أمراض عدة، كما يقول الطبيب علي عجيلي في مستوصف القيارة. «التسريبات سممت مياه دجلة والأبخرة أدت الى انتشار أمراض صدرية مثل؛ الربو والتهاب الرئة واللوزتين وبشكل خاص عند الأطفال». عدم كفاءة المستشفى المحلي وقلة الأدوية دفعت الطبيب الى طلب المساعدة العاجلة من بغداد. فالأعداد كبيرة ومعاناة السكان تزداد أكثر خلال فترة الصيف لأن أجهزة التبريد تسحب الهواء الملوث من الخارج فتسوء حالة المصابين بالربو وضيق التنفس، وعليه يضطر الناس لإغلاقها في قيظ الصيف اللاهب.
في القرى البعيدة نسبياً، يلتقي البرنامج التلفزيوني مزارعين ورعاة ماتت ماشيتهم بسبب التلوث والحوامل منها أسقطت ما في بطونها فيما الأرض تيبست وغطت سطوحها طبقة من الزيوت الكثيفة ولم تعد صالحة للزراعة.
معظم من التقاهم البرنامج من سكان القيارة وبقية المناطق المنكوبة بحرائق «داعش» شكوا ضعف مساعي الحكومة للتخفيف من معاناتهم واعتبروا وجود النفط في أراضيهم نقمة عليهم، فيما يحاول آخرون تجاوز محنة ما بعد «داعش» بالعمل على تمتين الروح الوطنية ونبذ الطائفية فأعلنوا عن تأسيس «جمعية ضحايا الإرهاب في جنوب الموصل»، ومن أهدافها تقديم العون لعوائل الشهداء والتعاون مع إدارة المدينة لإزالة آثار «حرب الحرائق» التي أشعلها التنظيم وخلّف وراءه الدمار.
لا يترك البرنامج المعروض على قناة «آرتي» العاملين على إطفائها فيلتقي شاباً يدعى هشام صباح تخرج في كلية الحقوق ولعدم توافر فرص عمل في اختصاصه اشتغل كإطفائي حقول نفط. «قبلت بهذا العمل لعدم توافر فرص أخرى. إنه عمل شاق جداً وخطير بسبب طبيعة المادة المشتعلة: النفط الخام، فهو سريع الاشتعال ولا تخمد نيرانه بسهولة ومنه تنبعث أبخرة استنشاقها يتلف الرئة والمجاري التنفسية». يتجول البرنامج بعد إتمام لقاءاته بين آبار النفط المشتعلة ويصور حياة الناس القريبين منها وقلة خياراتهم بين الابتعاد منها أو التعايش مع سمومها!