تشكّل الأمكنة وفضاءاتها نصّاً بصرياً تفاعليّاً تخزن تفاصيله في الذاكرة والوجدان، ولهذا عند مشاهدة صورة التُقطت في الماضي لمكانٍ ما، يبدأ تيار الوعي في داخل الإنسان بتحليل
الفوارق بين تفاصيل ما تُظهره الصورة وبين ما يبدو عليه المكان نفسه راهناً.
من هذه الفكرة انطلق المصور الفوتوغرافي كِلفن باول، باشتغاله على استعادة العمران الاجتماعي والاقتصادي لحواضر عربية في بلاد ما بين النهرين والهلال الخصيب في الفترة 1900-1933، كما يكشف معرضه الذي يقام في دارة الياسمين بعمّان، مشتملاً على 28 صورة أرشيفية.
يجد زائر المعرض نفسَه متورطاً في عقد مقارنات بين فضاءات المدن (بغداد وحلب وحماة ودمشق وبيروت وغزة) في تلك الفترة، وبين ما هي عليه الآن؛ حيث تغيب سينوغرافيتها المعمارية التي راكمتها منذ الحضارات الأولى للبشرية، ويَظهر بدلاً من ذلك فضاءٌ خرب يوحّده ناظم واحد؛ هو حجم الدمار الذي حلّ بعمرانها البنائيّ الحجري من مساجد وبيوت وأماكن عامة، وأيضاً بعمرانها البشري، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
وقدمت صور المعرض الذي افتتحته وزيرة السياحة والآثار زاهية عناب، فضاءات وسمات متشابهة لجميع هذه المدن، ظهرت في عمارة المساجد بمآذنها وقبابها، والبنايات، والعربات الخاصة بالنقل، والسيارات الحديثة، إلى جانب الفضاءات الزراعية والاجتماعية؛ والأزياء الخاصة بالرجل والمرأة على حد سواء.
ويعود التشابه في الفضاءات المكانية لاشتمال جميع تلك المدن على المعطيات البصرية نفسها للحضارة العربية الإسلامية.
«الحياة» سألت الفنان باول عن سبب عدم إقامته المعرض في إحدى المدن الغربية، لتعريف الناس هناك بما يحدث في منطقتنا، وليطّلعوا على حجم الدمار الذي يتسيد المشهد، فقال: «عرضتُ صوري هنا لأني أعيش في الشرق الأوسط منذ 15 عاماً، 10 منها في صحراء سيناء، و5 في الأردن».
وأضاف باول: «السبب في إقامتي هنا هو رغبتي في التعرف من قرب الى منطقتَي الهلال الخصيب وما بين النهرين، اللتين تشكلان مهد الحضارة الإنسانية».
وحول معايير انتقاء الصور في المعرض الذي يستمر حتى نهاية سبتمبر (أيلول) المقبل، قال: «أنا أركز على المناطق التي بدأت تفقد أهميتها عبر التاريخ»، موضحاً أن ما تُظهره الصور يمثل خلاصة ما استهواه هو وصديقه الفنان الراحل سامي هيفن، ويعكس رؤيتهما المشتركة التي برزت في معرض سابق لهما، ثم تبلورت في هذا المعرض الذي شاركهما فيه الرؤية أصدقاء آخرون بشكل شخصي، لتقديم ما يريانه من أشياء «جميلة وممتعة».
وبيّن باول أن رسالة هذا المعرض تكمن في «تعزيز صلة المجتمعات التي تعيش في بلاد الهلال الخصيب وما بين النهرين، بإرثها الحضاري، ولفت النظر لمحاولات الغرب الساعية لإضعافها وفصلها عن ماضيها العريق».
وعن سبب عرض عدد من الصور لمشاهد خارج منطقتَي الهلال الخصيب وما بين النهرين، مثل معبد بابليون في القاهرة، أوضح باول: «تعريف الهلال الخصيب ما زال أمراً جدلياً، حيث يُعتقد أنه كان يضم دلتا النيل أيضاً».
ويتوقف الفنان عند صورة للتصميم الفسيفسائي للسقف الداخلي لقبة الصخرة المشرفة، تَظهر فيها تفاصيل النقوش والخطوط الكثيرة، لافتاً إلى أنه بذل جهداً لإنشاء صورة واضحة ومفصّلة وعالية الجودة للتصميم الداخلي لسقف القبة، من خلال تجميع تسع صور ممسوحة رقمياً من صور سالبة، التُقطت بين عامي 1900 و1920 من جانب مصورين أميركيين في القدس».
وأكد أنه حاول في هذه العملية، «توضيح كيف تم عمل ذلك، باستخدام أحدث التقنيات، بطرق لم تكن متوافرة للمصورين الأصليين».
وبيّن باول أنه قام في معرضه السابق «ضفّتا النهر» بترميم نسخة من الجزء المركزي لفسيفساء السقف، اعتماداً على أفضل المواد الموجودة في صورتين أصليتين تم استخراجهما من شريحة مجسّمة، ثم قام بطباعة نسخة من الصورة بحجم 1×1.4م لرجل من نيويورك، أظهرت جميع التفاصيل بوضوح ودقة.
لكنه يستدرك قائلاً: «ما أثار حزني، أن الصورة الفوتوغرافية لم تغطِّ جميع زخرفة السقف لأنها مستطيلة الشكل بطبيعتها».
وتـــابع في هذا السياق: «كنت سعيداً للغاية هذا العام، عندما اكتشفت أن الأجزاء المفــقودة من الزخرفة الكاملة للجزء الداخلي للسقــف، تَظهر في ثماني صور مختــلفة التُقــطت لجدران المبنى، على رغم اختـــلاف زوايا التـــصويـــر عن الجــــزء المركزي الذي قمت بالعمل عليـــه من قبل».
وبناء على ذلك، قام باول باستخلاص أفضل المواد من اللوحات المجسمة، ثم جمعها ضمن لوحة بانورامية تُظهر كل الزخارف على الجدران، ضمن زاوية 360 درجة على شريط طويل، ثم «تمت محاذاتها وتحويلها إلى حلقة مكتملة».
وكشف أنه أنشأ القسم الدائري الداخلي، من طريق دمج الصور الأصلية مع أجزائها، بعد لفّ نسخة منها بزاوية 90 درجة، وأن كل ذلك جاء بعد تعديلات كبيرة.
ورأى باول أن الصور المعروضة تؤكد أن التصميم الداخلي لفسيفساء سقف قبة الصخرة متأثر بفنون مختلفة، منها البيزنطي والسيرياني والفارسي واليوناني والروماني.