ما العدو؟ هل هو معطى سياسي أم اجتماعي أم ثقافي؟ مَنْ يحدّدُه؟ وما الدور الاجتماعي والسياسي الذي يؤدّيه في المجتمعات المعاصرة؟ هل يجب على الهُوية أن تُبنى بالضرورة ضدّ
“الآخر”؟
في كتابه الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، بترجمة نبيل عجان، يوضّح الباحث والأكاديمي والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا أنه لا يهدف إلى تحديد طريقة مقبولة أو غير مقبولة للقتل، لكنه يرنو إلى تحليل كيفية نشوء علاقة العداوة، وكيف يُبنى الـمُتخيَّل قبل الذهاب إلى الحرب.
استـهلَّ كونيسا (وهو أستاذ في معهد العلوم السياسية) كتابه بكلام للشاعر الفرنسي هنري ميشو: “إنّ تحديد الأعداء والأصدقاء والتحقّق منهم، يشكّل آلية ضرورية قبل شنّ الحرب. ومن المنطقي أنْ نحاول فهم العجرفة الحربية التي تدفع الناس إلى أن يقتل بعضهم بعضًا بطريقة شرعية. فالحرب قبل كلّ شيء ترخيصٌ ممنوح شرعيًّا لقتل أناس لا نعرفهم، وأحياناً نعرفهم كما في الحروب الأهلية، لكنهم يتحوّلون فجأةً إلى طرائد يجب تعقّبها والقضاء عليها”. ثم يستشهد كونيسا بمقولة شهيرة لـ ألسكندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لـ ميخائيل غورباتشوف: “سنقدّم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكُم من العدو”. ويضيف أن صناعة العدو هي وظيفة السياسي بعينها، فالعدو هو الآخر، الشر، التهديد، ولا يمكن فصله عن الحياة. وهو يقدّم خدمات كثيرة ويعمل مهدّئًا، خصوصًا عبر المسؤولية التي يمثّلها في قلقنا الاجتماعي. ويمكن لصناعة العدو أنْ ترسّخ الأواصر الجمعية، ويمكنها أنْ تكون مخرَجًا بالنسبة إلى سلطةٍ تواجه مصاعب على الصعيد الداخلي.
يشير الباحث إلى أنه، ومنذ الثورة الفرنسية، لم يعد الملِكُ هو من يحدّد العدو، بل ينبغي تحشيد الرأي العام من أجل ذلك، وتفترِضُ صناعةُ العدوّ مراحل شتى: أيديولوجيا استراتيجية محدَّدة، خطابًا، صنّاعَ رأي نسمّيهم المحدِّدين، وأخيرًا آليات صعود نحو العنف. ويختتم بمقولة لـ نيتشه: “إنّ من يحيا على محاربة عدوّه، من مصلحته أنْ يدعه يعيش”.
بعد المقدمة، يدخل كونيسا في مباحث الكتاب (الواقع في 318 صفحة) الثلاثة: أولًا؛ ما العدو؟، ثانيًا؛ وجوه العدو، ثالثًا؛ تفكيك العدو.
أولًا؛ ما العدو؟
في هذا المبحث يقلّب كونيسا الرؤى والتصوّرات والأفكار بحثًا عن مقاربة معقولة لماهيّة العدو وطبيعته، وللعوامل التي تساهم في نشوئه وتشكُّله وتبلْوُره. فتراهُ يستشهد بآراء لمفكّرين وفلاسفة من جهة، ويذكّر بحوادث وحروب وقعت في القرن العشرين من جهة ثانية، ثم يلقي الضوء على أهمية وجود العدو ودوره في المجتمعات المعاصرة، وبعدها يتحدّث عمَّن سمّاهم “مُحدِّدي العدو”.
في الفصل المعنون بـ “العدو موضوع سياسي”، يعرض الباحث تفسيرين لنشوء ظاهرة العداوة، الأول لـ هوبز الذي يفترض أنّ الناس يتصرّفون بصورةٍ عنيفة، وأنّ التنظيم المشترك وحدَهُ يكبحهم. ويرى أنّ الإنسان قد يكون اجتماعيًّا قسرًا وليس بطبعه، وأنّ العدو بالنسبة إليه مُعطىً طبيعي. وتخلُص هذه النظرية سريعًا إلى العبارة الشهيرة: “الإنسان ذئب الإنسان”، وتعتبر أن الحالة البدائية هي حالة “حرب الجميع ضد الجميع”، وفي هذه الحالة يكون الإنسان محكومًا بغريزة البقاء فحسب. وفي مقابل هوبز، يقف روسّو الذي رفضَ المنهج الذي يجعل من الحرب النظامَ الطبيعي للمجتمع البشري، ورأى أنّ الناس لا يكونون أعداءً إلا في الوضع الظَّرْفي للحرب بين الدول التي يشاركون فيها بوصفهم جنودًا، وليس في الحالة البدائية.
ويضيف الباحث (الذي كان مديرًا للجنة الشؤون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية) أنّ مفكريّ الاستراتيجيا المعاصرين؛ لم يسعوا كثيرًا لمعرفة كيف يحدّد مجتمع ما أعداءه، واكتفوا بتكرار عبارة كلاوزفيتز “الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى”.
في فصل “قانون الحرب: من الأفضل ارتداء بزة عسكرية”، يشير الباحث إلى أن الحرب الحديثة نزاع بين دولتين تملكان جيوشًا نظامية، ويندمج الجندي الذي يرتدي البزة العسكرية ضمن تسلسلٍ هرمي يتلقّى فيه الأوامر من أعلى، فيصبح بذلك غير مسؤولٍ جزائيًّا عن الجرائم التي يرتكبها. ويخضع الطرفان المتحاربان إلى اتفاقيات جنيف 1949 التي تحمي الجنود وأسرى الحرب، وبالتالي يكون وضعُهم مضمونًا لممارسة القتل دون مساءلة. أما المسلّح الذي لا يرتدي بزة عسكرية، فيمكن معاملته كـ “مجرم”. وهذا ما استغلَّهُ الحقوقيّون الأمريكيّون لتبرير انتهاكات السجن والتعذيب في أبو غريب وغوانتانامو، إذ قالوا: “بما أن الحرب على الإرهاب ليست حربًا على دولة، فإن الاتفاقيات لا تطبَّق على هؤلاء الناس الذين تمّ اعتقالهم في الطرف الثاني من العالم”. وهكذا ابتكروا فئة قانونية جديدة غير معروفة في القانون الدولي أسموها “المحارب غير الشرعي”، وهذه الفئة لا تشملها قوانين حماية الجنود، ولا قوانين حماية المدنيين.
ويخلُص الباحث إلى أنّ قانون الحرب يمثّل حتى الآن العدالة التي يطبّقها القويّ على الضعيف.
في فصل “العدو هو أنا آخر”، يرى الباحث أن العدو جزءٌ من متخيَّل جمعي خاصّ بكل جماعة، وأنه يلبّـي حاجاتٍ اجتماعية متعددة، منها الحاجة إلى الهُوية، أي تعريف “الذات” من خلال تعريف “الآخر”. والحاجة إلى توطيد الأواصر ضمن الجماعة، ويعطي مثالًا عن ذلك: ” لن تتوحّد باكستان التي تمزّقها الحروب الأهلية إلا عبر العدائية للهند”. وكذلك الحاجة إلى تهدئة حالات القلق الاجتماعي، مستشهدًا بقول دوركهايم: “حين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة إلى أنْ يجد أحدًا يمكنه أنْ يعزو إليه ألَـمَه، وينتقم منه لخيبات أمله”.
في “الحرب العادلة”، يضيف أنّ المجتمعات الغربية ترمي إلى شرعنة استخدام القوة تحت مبرّر “الحرب العادلة”، أي يجب على هؤلاء الذين نهاجمهم أن يكونوا قد استحقّوا الهجوم عليهم بسبب خطيئة ما. وهذا ما كان قد بيّنه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، مدّعيًا أن صدام حسين يملك صواريخ يمكن نشرها خلال 54 دقيقة. وهذه هي الحجّة التي اتّبعها المحافظون الجُدُد لابتكار مبدأ “الحرب الاستباقية”، فمن خلال هذا المبدأ يمكن للولايات المتحدة أنْ تتخذ قرارًا أُحاديًّا بشنّ الحرب حين تتوافر شروط “الحرب العادلة”، وهي المصلحة العامة والدولة المارقة.
في فصل “الاستراتيجيون: المجمع العسكري-الثقافي”، يشير الباحث إلى التوسُّع الكبير الذي شهدته مؤسّسات التفكير الاستراتيجي في الكمّ والأهميّة، ويرى ثلاثَ عِلَلٍ لوجودها: 1) توصيف تهديد ما وفهم آلياته. 2) تبرير نظام الدفاع وتشكيل الجيوش. 3) جعل استخدام القوة شرعيًّا. وبما أنّ الحصول على تأييد الرأي العام عاملٌ أساسيّ للتعبئة من أجل الحرب، برزَ دورُ الاستراتيجيين غير الرسميين، أو مَنْ سمّاهم “الميثولوجيين”، ومهمّة هؤلاء وضع تعريف لهوية الجماعة. قد يكون هؤلاء أشخاصًا أو مجموعات، ينسبُون إلى أنفسهم الهوية الجماعية، جاعلين من خيارهم خيارَ الجماعة. إنه بناءٌ أسطوري يختلط فيه الواقع مع المتخيَّل وفق صيغ مركّبة ومختلفة، فهُم يُعيدون تدوير مواضيع تاريخية قديمة، ويصنعون منها ميثولوجيا جديدة. يخترعون “حقوقًا تاريخية” وكأن التاريخ لا يُغيّـر المعطيات باستمرار.
ثانيًا؛ وجوه العدو:
وبما أنّ العدو بناء وصناعة، يحاول كونيسا في المبحث الثاني وضعَ تصنيف لأنواع مختلفة من حالات العداء. مع الإشارة إلى عدم وجود نوعٍ نقيّ من بينها، إذ غالبًا ما تختلط الأنواع المختلفة في صراع واحد:
1) “العدو القريب” والمقصود به نزاعات الحدود بين الدول المتجاورة. 2) “الخصم العالمي” وهو المنافس في خصومة قوتين تعطيان لنفسيهما نزعة عالمية، كما في حالة الحرب الباردة. 3) “العدو الحميم” أي الحرب الأهلية التي تبدأ عبر الكلمات وتنتهي بالقتل الاستباقي: أنْ نقتُلَ قبل أنْ نُقتَل. والحرب الأهلية هي صراع الـ “هُم” في مواجهة الـ “نحن” في فضاء مغلق، مع العلم أن الفريقين متشابهين. 4) “العدو البربريّ” وهو الشعب المستعمَر في نظر المستعمِر. 5) “العدو المحجوب” وهو ناتج عن الإيمان بنظرية المؤامرة، والاعتقاد بوجود قوى خفيّة تحرّك الشعوب وتحدّد مصيرها. 6) “حرب الخير ضد الشر” وهي لا تقتصر على النزاعات الدينية؛ إذ هي أيضًا حرب الأنظمة الشمولية العلمانية في القرن العشرين. فالأيديولوجيات قاتلة مثل الديانات، ويصبح فيها الآخر هو الشرّ المطلق، بل هو الشيطان. 7) “العدو الـمُتصَوَّر” وهو فعل إمبريالي للقوى العظمى حين لا تجد عدوًّا يُجاريها، فتُعلن الحرب الشاملة ضدّ مفاهيم معينة، مثل الحرب ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. 8) “العدو الإعلامي” وهو يشكّل الحالة الأحدث في الفراغ الأيديولوجي والاستراتيجي لما بعد الحرب الباردة، والتي يجتاحها الإعلام، إذ تتفوّق الصورة على النصّ.
ثالثًا؛ تفكيك العدوّ:
يرى الباحث أنّ العيش من دون عدوّ للدولة أمرٌ صعب، لكنه ممكن. وبما أن العدو بُنية، فمن الممكن تفكيكه. ولذلك يقترح آليات يمكن للدولة اتباعها لتفكيك عدوّها المصنوع، مثل تغيير الخطاب نحو التهدئة والدعوة إلى السلام، ومثل المصالحة التي تبدو صعبة وفعّالة في آن معًا، ومثل الخروج من حالة الخلافات الحدودية. وهنا يستشهد باتفاقية “شينغين” التي فتحت الحدود بين الدول الأوروبية، فمن خلالها زالت الخلافات الحدودية بين ألمانيا وفرنسا، إذ صارت حدود فرنسا اليوم هي مطار شارل ديغول.
أما في حالة الحروب الأهلية، فيمكن تفكيك العدو عن طريق النسيان والصفح والعدالة. بالنسبة إلى النسيان والصفح، فقد أثبتت التجارب السابقة عدم جدوى مثل هذه التدابير، لأنّ قوانين العفو العامّ تشلّ جهدَ البحث عن الحقيقة وتؤدّي إلى تناقض. إذ لا تُنسى أعمال العنف من جهة، ولا يُتّخذ أيُّ إجراء قضائي بحقّ مرتكبيها من جهة أخرى. أما بالنسبة إلى العدالة، فيعرض الكاتب نوعين من العدالة في مرحلة الخروج من الحروب الأهلية: 1) العدالة الترميمية: وهي اقتصاصية هدفها إقامة العدل، تركّز على المتّـهمين والمواجهة بين الدفاع والاتهام، تعالج هذه العدالة مسألة “العدو المذنب”، استنادًا إلى الضحايا والعلاقات فيما بينهم وبين مرتكبي الجرائم بحقهم. 2) العدالة التعويضية: وهي غير اقتصاصية، تقتصر مهمتها على الانتقال من الحرب إلى السلم، أو من نظام استبدادي إلى الديمقراطية.
وفي خاتمة الكتاب، يقول كونيسا: “سيكون صُنع العدو خلال العقود المقبلة قطاع إنتاج ضخم”. ويذكّر أن بناء العدو عملية اجتماعية سياسية، ولذلك فإنّ مسؤولية النخب السياسية والثقافية لا تقلّ عن مسؤولية الأنظمة.
تعقيب:
ما تجدر الإشارة إليه بعد قراءة كتاب “صنع العدو”، هو سِعَة ثقافة مؤلّفه وغزارة عِلْمه، ولا يقتصر ذلك على حقل من حقول المعرفة، بل يشمل التاريخ والفلسفة والسياسية والقانون والاقتصاد والإعلام. كما يلفتُ الكتابُ النظرَ إلى موضوعيّة كاتبه الشديدة وحياده، إذ انتقد الديمقراطيات الغربية أكثر مما انتقد الأنظمة الاستبدادية، ولم يرحم ممارسات الدول الاستعمارية (بما فيها بلده فرنسا) تجاه شعوب العالم الثالث.
وفي المقابل، كرّر الباحثُ بعضَ الأفكار في أكثر من موقع، وانتقل أحيانًا من موضوع إلى آخر بشكلٍ يعوزه الترتيب. كأنْ يأتي بمثالٍ من أجل توضيح فكرة ما، فيأخذهُ السردُ إلى فكرة أخرى غير التي طرح المثال من أجلها.
يُذكر أنّ لـ كونيسا كتابان آخران في الفكر الاستراتيجي، هما “دليل الجنة” 2004، و”آليات الفوضى2007”
بقلم:عبدالكريم بدرخان
المصدر: جدلية