ادّعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا في فيديو نشره على صفحته على الفيسبوك أن المطالبة الفلسطينية بتفكيك المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأرض
الفلسطينية المحتلة تمثِّل عملاً من أعمال “التطهير العرقي” ضد المستوطنين اليهود الإسرائيليين. 1 استُخدم مصطلح ” التطهير العرقي” في السابق كوصف ألطف لحقيقة الحملة الصربية ضد شعب البوسنة، ولكنه سرعان ما صار يشمل الممارسات العنيفة المتطرفة، والقتل الجماعي، والتهجير القسري إبان الصراعات والحروب، كما استخدمه باحثون كُثر واستُخدم في الخطاب العام للإشارة إلى الممارسات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني إبان النكبة وفي الفترة التي سبقتها. وتشمل هذه الممارسات تدميرَ ما يزيد على 500 قرية فلسطينية، وطرد ما يقرب من 730،000 فلسطيني من ديارهم. 2
حظي فيديو نتنياهو وإسقاطه المصطلح على المستوطنين الإسرائيليين بأكثر من مليون مشاهدة على صفحته على الفيسبوك، وتداوله ملايين آخرون عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وتسبب الفيديو بصدمة لدى محللين كثيرين، وأثار جدلًا مشحونًا في وسائل الإعلام الدولية، وإدانات من شخصيات من قبيل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون، الذي وصفه بأنه “غير مقبول وشائن”. غير أن هذا الخطاب، وإنْ كان يثير السخط أكثر من المعتاد، ما هو إلا أحدث الشواهد على استراتيجية إسرائيل المتمثلة في الاستيلاء على رواية الضحية من أجل حشد الدعم العام.
يتقفى هذا التعقيبُ تاريخَ الادعاء الإسرائيلي بامتلاك هذه الرواية منذ حملات الحركة الصهيونية الأولى في مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا. ويبين كيف استُخدمت هذه الاستراتيجية الخطابية لتبرير أفعال دولة إسرائيل الجائرة بحق الفلسطينيين. ويختتم بتوصيات للقادة والمفكرين والصحفيين والناشطين الفلسطينيين حول كيفية مواجهة استراتيجية الاستيلاء الإسرائيلية من أجل تعزيز مسعاهم في إعمال حق تقرير المصير وحقوق الإنسان الفلسطيني.
روايات الضحية في السياق
تلجأ الأطراف المعنية في أي صراع إلى إظهار نفسها كضحية لتبرير عدوانها وغزوها وحتى قتلها المدنيين. والغرض من هذا الخطاب إبراز ثنائية الخير مقابل الشر والضحية مقابل الجاني. وهذا يحشد المناصرين والمؤازرين في مواجهة “العدو”. وكما نرى في حالة إسرائيل وفي صراعات أخرى، تُستخدم رواية “أنا الضحية” من أجل إضفاء الشرعية على أعمال العنف المرتكبة ضد “العدو” والتي غالبًا ما تكون استباقية، الأمر الذي يستديم دوامة العنف ووصف الضحية إلى ما لا نهاية.
وعلى النقيض من ذلك، تستند روايات الضحية الفلسطينية إلى الظلم الذي لحق بهم من وعد بلفور الصادر في 1917، والذي بدأ تنفيذه إبان الانتداب البريطاني لعام 1923 والفترة التي سبقته، ومنذ قرار التقسيم الصادر في 1947. ولا تزال هذه المشاعر نابضةً حتى يومنا هذا، ويفاقُمها إحجام المجتمع الدولي والعالم العربي عن فرض القانون الدولي وإعمال حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا، لا يمكن مناقشة رواية الضحية الفلسطينية خارج هذا السياق وفي معزلٍ عن الإجراءات السياسية والعسكرية الإسرائيلية المستمرة بحق الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة. وهذا الوضع ينطوي على عدم تكافؤ القوة حيث إن إسرائيل هي سلطة الاحتلال الأقوى، وقد لقي عددٌ كبير من الفلسطينيين، كبارًا وصغارًا، حتفهم بسبب إجراءاتها وهجماتها وسيطرتها على الحيز المكاني وتحكمها بالموارد والتنقل.
ما فتئ تاريخ اليهود كضحايا ومضطهدين يُستخدم لتبرير تصرفات دولة إسرائيل؛ وفي حين لا ينبغي للتحليلات التي تتناول كيفية هذا الاستخدام أن تغفل عن حقائق هذا الاضطهاد الحقيقي وسياقه، فإن عليها أن تمحِّص في تعبئة هذه الرواية لفهم كيف يوصف اليهود الإسرائيليون بأنهم ضحية، ويُمنَع هذا الوصف عن الفلسطينيين، مما يدعم اختلال موازين القوى ويميل لمصلحة الحقوق اليهودية الإسرائيلية على حساب الحقوق الفلسطينية.
مِن ضحية إلى آلة تطهير عرقي
اضطهاد اليهود في أوروبا متجذرٌ في معاداة السامية وتأثيراتها العديدة في الجاليات اليهودية في مواقع مختلفة وفي أوقات مختلفة. أمّا رواية الاضطهاد، فتعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين استند ثيودور هرتزل، أبو الحركة الصهيونية، إلى تاريخ الاضطهاد اليهودي الطويل في أوروبا ليشرعن المشروع القومي لدولة إسرائيل وممارسات مستوطنيها الاستعمارية. وبعد الحرب العالمية الثانية، استُخدم تاريخ الاضطهاد الطويل كذريعة لتبرير إقامة دولة إسرائيل. بل إن وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل تدّعي أن:
المحرقة التي حلت بالشعب اليهودي… والتي ذُبح فيها الملايين من يهود أوروبا، قد عادت وأثبتت بالفعل ضرورة حل مشكلة الشعب اليهودي المحروم الوطن والاستقلال من خلال استئناف قيام الدولة اليهودية في أرض إسرائيل لتفتح باب الوطن على مصراعيه من أجل كل يهودي. 3
ما انفك الساسةُ الإسرائيليون منذ قيام دولة إسرائيل يستخدمون الروايات التاريخية التي تُعلي شأن الضحية اليهودية وتحطُّ من حياة الفلسطينيين وحقوقهم. فقد قالت رئيسة الوزراء جولدا مائير، مثلًا، إن اليهود يعانون “عقدة ماسادا” و”عقدة المذبحة” و”عقدة هتلر”. وأقام رئيس الوزراء الأسبق، مناحيم بيغن، أوجه شبه بين الفلسطينيين والنازيين. 4
يشير الباحثون إلى أن القادة الإسرائيليين والصهاينة استغلوا ذكرى الاضطهاد اليهودي، ولا سيما المحرقة، كأداة دبلوماسية في معاملتهم الفلسطينيين. يرى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، على سبيل المثال، في كتابه “فكرة إسرائيل”، أن هؤلاء القادة أرسوا شعورًا حيال الإسرائيليين كضحايا، وهي صورة رسموها لأنفسهم منعتهم من رؤية الواقع الفلسطيني. وهذا أعاق، بحسب قوله، التوصلَ إلى حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي. 5
ظهرت أدلة ودراسات جديدة في السنوات الأخيرة تشكك في المزاعم السائدة في الحركة الصهيونية. وأخذت حركة التضامن العالمية الداعمة للفلسطينيين تكبر في الوقت نفسه لأسباب عدة منها انتشار المنصات الرقمية التي تتيح للجماهير العالمية الاطلاعَ دون وسيط على القصص الفلسطينية والواقع الفلسطيني المعاش. وقد حدا هذا بالقادة ومديري العلاقات العامة والمتحدثين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية إلى التركيز على استراتيجيات متنوعة للحفاظ على سيطرتهم على الرأي العام الغربي. 6ومنها استراتيجية استخدام الخطاب – كخطاب التطهير العرقي الذي استخدمه نتنياهو – للإشارة إلى اليهود والمواطنين الإسرائيليين كضحايا الاضطهاد المستمر الذي يمارسه الفلسطينيون، مع العلم بأن لهذه المصطلحات معانٍ قانونيةً محددة، وتعدُّ وفقًا للقانون الدولي جرائمَ ضد الإنسانية. غير أن ما تثيره هذه المصطلحات من معانٍ عاطفية، ولا سيما إذا كان يُقصَد بها التذكير بالتاريخ الطويل لاضطهاد اليهود، هو ما يروِّج رواية الضحية اليهودية الإسرائيلية على حساب تجربة الفلسطينيين مع القمع. ولم يُستَخدم مصطلح التطهير العرقي حتى الآن في الغرب رسميًا لوصف ما جرى في النكبة، وهو ما يجعل هذا المصطلح عرضةً لإسرائيل كي تستولي عليه.
وفي الوقت الذي أدلى نتنياهو بتصريحه حول التطهير العرقي، أعادت وزارة الخارجية الإسرائيلية نشر مقطع فيديو من عام 2013 على صفحتها على موقع فيسبوك بعنوان “مرحبا بكم في وطن الشعب اليهودي” كنبذة عن تاريخ اليهود. وهو يتقفى معاناة زوجين يهوديين، يعقوب وراحيل، غزت موطنهما (“أرض إسرائيل”) مجموعات مختلفة، منها الآشوريون والبابليون والإغريق والعرب والصليبيون والإمبراطورية البريطانية – وآخرها – الفلسطينيون. وهكذا يقترح الفيديو بأن اليهود نجوا من سلسلة غزوات وحشية وغزاة لم يتبق منهم سوى الفلسطينيين، وأثار بذلك ردةَ فعل قوية من الناشطين الفلسطينيين والعاملين من أجل الحقوق الفلسطينية بسبب محاولته الواضحة لإعادة كتابة تاريخ الصراع، وتصوير اليهود الإسرائيليين كضحايا وليس الفلسطينيين، واستخدام لغة عنصرية وعنيفة عند تصوير الفلسطينيين.
فيديو نتنياهو حول التطهير العرقي هو الأحدث في سلسلة فيديوهات خطط لها ونفذها ديفيد كيز، المتحدث باسم حكومة نتنياهو لوسائل الإعلام الأجنبية، المعيَّن في آذار/مارس 2016. وكيز هو من الاستراتيجيين الرئيسيين المسؤولين عن الحملات المتنامية لترويج الموقف المؤيد لإسرائيل في وسائل الإعلام الاجتماعية. ونُشرت منذ تعيينه ثمانية فيديوهات مع نتنياهو تتناول مجموعة متنوعة من القضايا. وقد تلقاها أنصاره في إسرائيل والولايات المتحدة بحفاوة.
تستند الحجج الواردة في بيان نتنياهو إلى تلك المقترحة في وثيقة صادرة في 2009 من منظمة مشروع إسرائيل، المناصرة والمؤيدة لإسرائيل، وهي وثيقة تصلح كمسرد مصطلحات ودليل تخاطب أعدَّها مستشار سياسي أمريكي ينتمي إلى الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة يُدعى فرانك لونتز، 7وفيها يُفصِّل الأساليب والمصطلحات المختلفة والنصائح لشرعنة الخطاب وتسويقه، بموازاة إبراز القيم المشتركة مع الغرب، مثل “الديمقراطية” و”الحرية” و”الأمن”.
ومع كل هذا التركيز على الغرب، ليس من المستغرب أن يتواصل نتنياهو باللغة الإنجليزية في فيديو التطهير العرقي والفيديوهات الأخرى، والاكتفاء بكتابة الترجمة العبرية والعربية.
التصدي لاستراتيجية إسرائيل الخطابية
إن تاريخَ اضطهاد اليهود قضيةٌ مؤثرة بشدة بالنسبة إلى الإسرائيليين، وإلى المجتمع الدولي عمومًا، ولا سيما الأوروبيين. غير أن استخدامَ إسرائيلَ مصطلحاتٍ من قبيل التطهير العرقي – على يد الفلسطينيين – يصور إسرائيل زورًا كضحية والفلسطينيين باعتبارهم المعتدي. يتجلى هذا الخطاب في الممارسة الخطيرة المتمثلة في اعتبار أي انتقاد للإجراءات الإسرائيلية فعلًا معاديًا للسامية أو عدائيًا تجاه إسرائيل. وهذا يساعد في إحباط الجهود التي يبذلها الفلسطينيون وحركات التضامن لمحاسبة إسرائيل على أفعالها، مثل القتل خارج إطار القضاء وبناء المستوطنات غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة.
إن استخدام نتنياهو المحدد لخطاب الضحية لا يمكن تجاهله بالنظر إلى أن المعارك على الرواية باتت أكثر انتشارًا ووضوحًا في العصر الرقمي، وبالنظر إلى الطرق التي يمكن فيها استخدام لغة معينة لصرف الانتباه عن التطورات الحاصلة على أرض الواقع. إن من الأهمية الحاسمة بمكان أن نلتفت إلى هذا التطور في المرحلة الحالية، إذ تخطط إسرائيل لتوسيع المستوطنات، وربما ضم المزيد من الأرض المحتلة، ولأن الإرادة والقدرة الدولية على حل الصراع قد تراجعتا إلى درجةٍ غير مسبوقة. الاهتمام ضروري – واستراتيجي – أيضًا في هذا العام الذي يصادف مرور مائة عام على وعد بلفور، وخمسة عقود على اندلاع حرب 1967، وثلاثة عقود على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
إن استيلاء إسرائيل على خطاب الضحية القائم على الحقوق يقتضي مشاركةً ورداً أكثر فاعلية للمتحدثين الفلسطينيين والنخب السياسية والناشطين في المجال العام لفضح حقيقة الإجراءات الإسرائيلية، واستثارة الدعم الدولي لفلسطين والفلسطينيين. وهذا لا يعني الدخول في معركة عبثية على الأحقية في نيل وصف الضحية في الصراع، وإنما العمل لشن حملة منسقة لدحض المزاعم الإسرائيلية بالأدلة.
يتعين على هذه الحملة أن تطعن في الروايات الإسرائيلية مستعينةً بالصور ولغة حقوق الإنسان الدولية التي تروق للشعوب والقيادات الغربية. وعليها أن تستند دومًا إلى الأدلة والحقائق والسياق للتصدي لمحاولات التضليل وتمويه الأفعال. وعلى الحملة أيضًا أن تدرِّب النخبة السياسية وموظفي الدبلوماسية الفلسطينية على استخدام الخطاب السياسي محليًا وإقليميًا وعالميًا، وضمان أن الخطاب لا يشرعن الخطاب الصهيوني، كاستخدام لغةٍ مجازية معادية للسامية عن غير قصد مثلًا. ويجب على قادة الحملة الفلسطينيين ولجان التضامن الدولية أن يستخدموا تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي لإطلاع وسائل الإعلام السائدة على حقيقة الوضع في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولمخاطبة الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل واللاجئين والمنفيين، باستخدام لغة الحقوق والقانون الدولي.
وفي الختام، ينبغي للحملة أن تعمل مع محترفين في مجال الإعلام لتدريب الفلسطينيين وجماعات الدعوة والمناصرة على كيفية مواجهة الروايات والتصريحات الدعائية، وكيفية استخدام وسائل الإعلام الرقمية للوصول إلى الجمهور العالمي.
إن تأطير الاستراتيجية الإسرائيلية المتمثلة في الاستيلاء على الرواية الفلسطينية في سياقها، ومن ثم كشف حقيقتها كخطاب يهدف إلى التعمية على العنف الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، لن يكون ممكنًا إلا بتضافر الجهود.
المصدر: مجلة الشبكة