رغم مستواه التعليمي المتواضع الذي لم يتجاوز الرابع ابتدائي، تمكن عبد الحي بنيس الموظف الحكومي البسيط لسنوات طويلة في البرلمان المغربي، من تأليف عشرين كتابا تعد
-حسب الباحثين- مرجعا “لكل من أراد الاشتغال على تاريخ البرلمان وأسراره”.
احتشدت كلمات كثيرة في حلق بنيس، كأنما ينتزعها من أعماق فؤاده، وهو يقول “كنت دائما مجرد (بواب)، مكاني بالمقاعد الخلفية في قاعات الندوات والاحتفالات”، “أما اليوم فأنا جد مسرور بتحقيق حلم حياتي الذي عملت على تحقيقه، بنشر مؤلفات توثق لمسار البرلمان”.
تحرك بنيس بخفة ونشاط في أرجاء غرفة تتدثر في هندستها وتفاصيل بنائها وزخرفة جدرانها بلمسات فنية تأسر عيون الزائرين، وهو يتفقد ما تصل إليه يداه من نسخ منشوراته المرتبة بعناية فائقة على رفوف خشبية، ليقدمها ويوافي الجزيرة نت بشروحات حولها.
وكشف أنه فكر في إصدارها بنفسه لما ساءه تجاهل ذكر اسمه في كتب نشرها مجلس النواب، رغم مساهماته في إعدادها.
في حياته المهنية على مدى 35 عاما، تولى بنيس من المهمات “ما لا يتسع له عمله كبواب”، متجاوزا الهامش الضيق الذي تسمح به هذه الوظيفة ضمن “مهام استلام وإرسال الوثائق والمراسلات والطرود البريدية”.
وعمل بمبادرة ذاتية على جمع المقالات الصحفية وتصنيفها، وقال “كانت مجرد فضول أضحى انشغالا يوميا ومواكبة دائمة لكل ما ينشر في الجرائد”.
ذاكرة البرلمان
ومأخوذا بشغف التوثيق، صار بنيس -المنحدر من مدينة فاس- يحتفظ بأي وثيقة تقع بين يديه، ويتابع نقاشات اللجان البرلمانية، ويوثق بالصور، ويأخذ نسخة من كل مشروع قانون أو محضر اجتماع.
كما مكنته “سرعة البديهة والذكاء اللذان كانا يتصف بهما من استيعاب كل ما يثار في مجلس النواب من نقاشات”، بحسب رأي موظف البرلمان السابق حسن عجول الذي تولى مراجعة كتابات بنيس قبل نشرها.
ومع توالي السنوات، سعى بنيس -أو “ذاكرة البرلمان” كما يناديه البعض- إلى توثيق كل هذا التراث الذي يحمل حكايات منسية من حياة البرلمان، تضيء مراحل مهمة من تاريخ المغرب السياسي.
فهو حسب عبد الغني القاسمي مدير ديوان سابق لرئيس البرلمان، “كان لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا واطلع عليها ووثقها وصنفها ضمن مشروعه البعيد المدى المتمثل في حفظ الذاكرة البرلمانية”، بينما قال بنيس “إن مبادرته جاءت بعد غياب التوثيق داخل مؤسسة البرلمان، ولما رأى بعض موظفي الأرشيف يطهون الشاي باستعمال هذه الوثائق”.
لكنه تحدث بمرارة عن المعاناة التي واجهها في تجربته، والنظرات القاسية التي تعتبره مجرد “بواب” وصانع أحذية سابق.
وبعناده وصلابته، يقول الأمين العام السابق للبرلمان رشيد الإدريسي القيطوني إنه “حول بعض السخريات التافهة في الردهات والمكاتب المغلقة للبرلمان، إلى طاقة وإصرار جعلاه عنوانا بمرجعيته ومنتوجه وذاكرته، للطلبة والباحثين والسياسيين”.
ورغم سنوات عمره التي تقترب من الخامسة والستين عاما، فإن همة بنيس لا تفتر، إذ يمضي -حسب زوجته مريم- “ساعات في حجرة منعزلة بالطابق الأول لمنزله في الحي العتيق لمدينة الرباط، يقلب الأوراق ويجرد الوثائق وينتقي منها ما يفيد كتاباته”. وتضيف أنه “يغادر فراشه في كثير من الأحيان بعد منتصف الليل للعمل على حاسوبه الشخصي في لحظات نشوة الكتابة”.
حكايات وطرائف
عندما يتحدث بنيس عن زمن السياسة الجميل، يحنّ إلى زمن الثمانينيات، وهو متسلح بحقائق مثيرة عن النقاش القوي داخل قبة البرلمان، وعن حوادث وطرائف بقيت عالقة في ذاكرته.
ويسترجع منها طرفة صفع رئيس البرلمان من طرف نائب، وكيف وجد نائب آخر نفسه حافي القدمين حين جاء دوره في تناول الكلمة بالمنصة، بعدما أخفى صديقه حذاءه الذي تعوّد وضعه جانبا وهو يجلس على الكرسي داخل قاعة البرلمان. وطرفة نائب وضع أمام زميله -في غفلة منه- ملفا فارغا بنفس اللون عوضا عن ملفه، وحين همّ بإلقاء كلمته وجد نفسه أمام ملف فارغ.
ويعترف بنيس -صاحب أول موسوعة لتاريخ البرلمان في المغرب- أن ثمة شيئا جميلا ومحمسا في إرساء مسار البرلمان، الذي لم يجرأ أحد على النبش في تاريخه، خاصة في كواليسه الصاخبة.
لكنه رغم حماسه في العمل ودوره الكبير في توثيق “أحداث البرلمان”، يتأسف لغياب الاعتراف بما قام ويقوم به في هذا المجال.