ولناخذ مثالا معروفا ففي دير الزور تم دحر داعش من قبل الكتائب في المنطقة، مما ادى لهروب داعش وخرجوها من الدير ولكن بعد عدة ايام دخلت داعش الى الموصل بمسرحية هزلية وحصلت على معدات واسلحة واموال تقدر بالمليارات ثم عادت للدير لتقضي على تلك الكتائب التي لا تمتلك الا سلاح بسيط جدا. هذه الحقائق هي التي ادت لسيطرة دعش على تلك المنطقة وليس انجذاب الناس لها، وليس الاوهام التي يذكرها المقال؟
وبنفس المنطق، لم يقدر الأخف إسلامية من النصرة على الصمود ضدها في أي حرب، وعندما صعدت مجموعة أكثر تطرفًا من النصرة في إدلب في الشمال، أي جند الأقصى، وقررت هذه المجموعة الصغيرة جدًا مواجهة القاعدة وحلفائها ولكن من موقع أكثر إسلامية منها، لم تتمكن النصرة من الصمود ضدها، وانتصرت جند الأقصى على كل خصومها من الجهاديين، وأجبرتهم أخيرًا على أن يفتحوا الطريق لها لتنضم إلى قوات داعش في الرقة.
هذا لا يعني أنه ليست هناك اختلافات بين الإسلاميين بتنوعاتهم، بل يعني تحديدًا أنه لو تركت هذه التيارات في صراع داخلي بدون مؤثرات خارجية فإن الغلبة الفكرية والمادية ستكون دومًا من نصيب الأكثر تطرفًا، حتى لو كان هذا الأكثر تطرفًا يكفرهم هم أنفسهم ويقتلهم بدون أي تردد فإن أيديهم ستظل مرتعشة في مواجهته.
إنه شيء مذهل مشاهدة أعضاء القاعدة التكفيريين الذين يقتلون خصومهم دون أدنى إحساس بالذنب، ويفجرون أنفسهم في كل مكان، وهم يستسلمون للدواعش خوفًا من أن يقعوا في “الفتنة”، ثم مشاهدة الجهاديين الآخرين الذين بنوا أمجادهم على خلفية تشددهم في مواجهة الثوار السوريين، وهم يستسلمون بنفس الطريقة للنصرة، وهكذا.
دائمًا ما يشعر الإسلامي الأقل تطرفًا، بما يشبه الخيانة وهو يشاهد نسخة أكثر تشددًا منه، ويتحرج من الوقوف ضده، يشعر أن هذا المتطرف قد تمكن من الصمود ومواجهة العالم بشكل كان عليه هو أن يقوم به، وبما أنه قد عجز عن ذلك، فلا أقل من الاستسلام له في حالة حدوث قتال داخلي، أو الترحم عليه وتمجيده في حال مقتله على أيدي الآخرين.
من الصعب بالتأكيد الجزم بمركز الثقل الروحي للإسلاميين، إلا أنه يمكن القول أن هذا المركز شديد القرب من القدرة على مواجهة العالم كله بروح عدمية تريد تحكيم الشريعة فيه ولو على أطلاله، وكلما كانت هذه الروح أكثر أصالة في جماعة ما، كلما كانت قدرة الجماعات الأخرى على مواجهتها شديدة الضعف.
ولذلك كلما كانت أي جماعة إسلامية أكثر تصالحًا مع العالم، كلما فقدت جاذبيتها الأيديولوجية، ومن هنا كلما رأى الإسلاميون شخصًا يكفر مجموعات أكثر تنوعًا، كلما أحسوا أنه أكثر أصالة ورسوخًا وقدرة على التضحية منهم، وبالتالي عجزوا تمامًا، عن الصمود فيه وجهه، حتى لو كانت كل الحسابات السياسية والعقلانية تدعوهم لذلك، إنه أمر لا يتعلق بالشجاعة بل بالإحساس والأصالة.
لقد كانت المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية قطعًا أكثر شجاعة وثباتًا وقدرة على الإنجاز في مواجهة الأسد، وهي التي قامت بتحرير جل المناطق التي تخضع الآن لحكم القاعدة بنسختيها (داعش والنصرة)، ولكن بعد عملية أسلمة الحرب السورية، كانت هذه المجموعات نفسها، التي انتصرت في عشرات المعارك، تتراجع بشكل مخزٍ ومثير للشفقة أمام أعدائها الأكثر إسلامية منها، واحتاجت إلى أن تقتل داعش منها الآلاف بدم بارد لكي تبدأ في تكوين عقيدة قتالية ضدها.
كان الثقل الروحي لهذه الجماعات في القضاء على حكم الأسد والوقوف ضد بطشه، ولهذا امتلكت قدرة هائلة للوقوف في وجهه، ولكنها عندما دخلت في حرب جديدة، ذات ثقل روحي جديد، وهو الادعاء بتحكيم الشريعة، انهزمت بمنتهى السهولة.
إن أمرًا شبيهًا، خاضته جماعة الإخوان بالنسبة لموقفها من الثورة، لقد كانت هذه الجماعة الكبيرة التي شاركت في الثورة، غير قادرة على تعبئة أعضائها للمشاركة في الحراك الثوري بعد سقوط مبارك، وقررت الدخول في حلف مع الجيش الذي سيطيح بها بعد حين، ولكنها فعلت ذلك بسهولة، عندما امتلكت اعتصامها الخاص الشبيه بها، ورفعت شعارات إسلامية جذرية، وعندها تحولت الجماعة الإصلاحية المهادنة، إلى جماعة مجنونة تقاوم بدون أي أمل حكم عسكري مدعوم شعبيًا دون أن ينقص انعدام الأمل هذا حماسة أعضائها للاحتراق في سبيل ما لن يتحقق أبدَا.
كذلك كانت الجماعات الثورية بعد سقوط مبارك في مصر، والتي كان ثقلها الروحي في مواجهة العسكر، غير قادرة على لجم نفسها من الدخول في مواجهات عبثية مع الشرطة بدون أي هدف، وغير قادرة على فض اعتصامات مطولة كان الجميع متشكك أن من يتحكم فيها مندسون تابعون للأمن، وهذا لأن هذه المجموعات لم تكن قادرة على الابتعاد عن هذا المغناطيس، وكلما ادعى أحدهم امتلاكه كانت تعدو خلفه، وربما هذا يفسر قدرة إسلامي مثل حازم أبوإسماعيل على اجتذاب الكثير من مؤيدي الثورة، لأنه كان الإسلامي الوحيد القريب من هذا الثقل (مواجهة العسكر).
بينما لم يقدر كل الإسلاميين على أن يفعلوا مثله، وبنفس المنطق، وبتطور الأحداث، عندما انتقل الثقل الروحي من مواجهة العسكر إلى مواجهة الإسلاميين المتحالفين معهم، لم يتمكن الثوريون المدركون لخطورة عودة الجيش للحكم مرة أخرى، من جذب الآخرين نحوهم، بينما توجه الكثيرون لهذا المغناطيس تاركين خلفهم أي شعارات ديمقراطية أو ثورية سبق أن رفعوها، وحتى عندما بدأ البعض منهم يدرك الخطورة، كان الثقل الروحي له معاداة الإسلاميين، والذي امتلكه النظام بشكل كامل، يعيده مرة أخرى لتأييد النظام ولو بتبريرات سطحية عن ضرورته المرحلية.
كل هذا لا يعني بالضرورة أنه لا سبيل لمقاومة المغناطيس الأيديولوجي، ولكن أن ذلك يحتاج عادة لتغيير الثقل الروحي للتيارات التي تقع في تلك المشكلة، وهذا التغيير عادة ما يحتاج لسنوات طويلة، تجعل ذاكرة الملاحم القديمة، التي يستمد منها هذا الثقل معناه، تخفت وتحل مكانها أساطير جديدة بأثقال روحية أخرى، كما أنه يحدث أحيانًا أن يخرج من هذه التيارات شخصيات استثنائية تكون قادرة على جعل نفسها ثقلًا روحيًا جديدًا، وبهذا تكون قادرة على تغيير أفكار ومعتقدات، لم يكن ممكنًا التخلي عنها فيما سبق، ولكن هذا أمر لا يمكن التعويل عليه أبدًا”.