في نوفمبر/تشرين الثاني 1992 دفعت عائلة الرقيب أول في الجيش اللبناني طوني الهبر مبلغ ألفي دولار لأشخاص سوريين، وتمكن الوالد بعد ذلك من رؤية ابنه في أحد السجون السورية،
وفق ما تقوله العائلة دون الخوض في تفاصيل أكثر.
غير أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي يرى أحد أفراد العائلة ابنهم.. ذهب الوالد بعد فترة إلى سوريا لكنه جوبه بالرفض، فقد ارتكب خطأ وهو أنه أخبر الأصدقاء والمقربين بأنه التقى ابنه في أحد السجون السورية، مخالفاً شرط مسؤول السجن الذي اشترط عليه كتمان الموضوع، وتقول الوالدة إن زوجها أخبر الناس من فرحته.
25 عاماً مرت ولا تعرف العائلة أي أمر عن مصير طوني.. يريدون أن يعرفوا ليرتاح بالهم: هل توفي طوني، أم لا يزال على قيد الحياة في قبو مظلم؟
ذكريات ليلة
تتذكر شقيقة طوني كيف زارها في منزلها قبل ليلة من اختفائه، وتناول الطعام ونام عندها، ترجته ألا يعود إلى الثكنة العسكرية حيث يعمل لأن الأوضاع الأمنية متوترة، لكنه أكد لها أنه سيكون بخير. كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 1990، ولم يروه منذ وقتها.. لو كان على قيد الحياة لكان يبلغ الثامنة والأربعين هذا العام.. تدمع عينا والدته وهي تتذكر زوجها الذي توفي منذ بضع سنوات والحسرة على مصير ابنه تملأ قلبه.
هي الحسرة عند جميع أهالي المفقودين والمخطوفين والمختفين قسراً تتجدد كل سنة في هذا الوقت، إذ تحل ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية ومعها حزن الآلاف ممن فقدوا أحباءهم ولا يعرفون عنهم شيئاً.
تشهد البلاد ككل عام سلسلة احتفالات ومعارض تزيد وجع القلوب عند الأهالي.. هذا العام كان معرض “كراسٍ فارغة.. عائلات تنتظر” الذي يضم 27 كرسياً تخبر قصص 27 مفقوداً في لبنان.
أقيم المعرض بالشراكة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في “بيت بيروت”، وهو متحف لذاكرة المدينة.. طُبعت على كل كرسي صورة مفقود أو مخطوف، وقربها وضعت قصته.. هذا الذي خطف أثناء عودته من المدرسة وهو مراهق، وتلك التي خرجت لتشتري الطعام لعائلتها ليفقدها أطفالها الأربعة.
جبل صعوبات
رغم الحسرة والحزن تقول رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين وداد حلواني للجزيرة نت إن علينا الاعتراف بحصول تقدم في هذا الموضوع رغم وجود ما تسميه “جبل صعوبات”.
التقدم هو انتزاع قرار قضائي بحق المعرفة اضطرت السلطات اللبنانية على أثره تسليم ملف التحقيق للجنة، وقد تبيّن أنه فارغ وليس فيه معلومات حتى الساعة.
تعتبر حلواني أنه يجب ترجمة هذا الاعتراف بحل عملي وهو جمع عينات الحمض النووي لفحص الجثث والتعرف على الهويات، وهو أمر بدأ من دون مقارنة الحمض النووي من العائلات بأي جثة حتى الساعة.
الحل الثاني برأيها هو في مجلس النواب حيث يقبع مشروع قانون منذ ثلاث سنوات بانتظار الإقرار لإنشاء هيئة وطنية مستقلة لديها صلاحيات تخولها التحقيق والتقصي والكشف عن مصير المفقودين، وهذا أمر يوافقها عليه مقرر لجنة حقوق الإنسان في البرلمان غسان مخيبر.
يؤكد مخيبر أن قضية المفقودين أولوية من أولويات عمله، مضيفا أنّ الأمر بالطبع محرج لعدد من النواب الذين شاركوا -لسوء الحظ- في الحرب الأهلية، ويلفت إلى أن التحدي هو الوصول إلى توافق على إنشاء الهيئة الوطنية، لكنه متفائل بتحقيق ذلك قريباً.
42 عاماً إذن مرت على بدء الحرب اللبنانية، و27 عاما على انتهائها، ولا يزال أهالي المفقودين ينتظرون أي خبر عن أبنائهم حتى لو كان خريطة إلى قبورهم كي يستطيعوا إقفال الملف والاستمرار في حياتهم.
الجزيرة