كيف يمكن تنظيم العلاقة بين ثلاثية الدين والدولة والسياسة بحيث تحقق التوافق بين مكونات المجتمع، وتحقق الاستقرار اللازم للتنمية والتقدم؟ ما هو دور الاسلام في الحياة السياسية؟
وبشكل أوسع، ما هو دور الاسلام في الدولة، بما في ذلك نظامها السياسي؟ وما حدود الدور الذي يمكن أن تقوم به الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية في اطار النظام السياسي للدولة؟
لازالت كل هذه الأسئلة تثير نقاشا لا يتوقف في المجتمعات العربية، خاصة بعد ما يعرف بالربيع العربي الذي أسفر عن مشاركة أحزاب ذات مرجعية اسلامية في الحكم في بعض الدول العربية، مثل مشاركة حركة النهضة في الحكم في تونس، أو تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم في المغرب، أو وصول الاخوان المسلمين للحكم في مصر لفترة محدودة. وهي تجارب تفاوتت فيما حققته من نجاح أو فشل، لكنها أثارت جدلا واسعا عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية في العمل السياسي.
و في هذا السياق، تبدو أهمية اعلان حركة النهضة في مؤتمرها الأخير فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي، وهي ممارسة ألتزمت بها الحركة منذ قيام الثورة في تونس في مطلع عام 2011 كما يقول الدكتور عبد الفتاح مورو نائب رئيس مجلس نواب الشعب في تونس، ونائب رئيس حركة النهضة، ويضيف: “كنا حركة دعوية منذ 40 عاما، لكن رأينا ضرورة الفصل بين الجانب الدعوي والجانب السياسي بعد الثورة، ثم تم التأكيد على هذا التوجه واعلانه في مؤتمر الحزب الأخير لأنه لم تعد هناك حاجة لحركة شاملة تقوم بكل شيء، بل الأفضل التخصص في العمل لأنه أمر أساسي للانجاز”.
عبد الفتاح مورو
عبد الفتاح مورو: حرصنا على فصل الدعوي عن السياسي
وعن الاتهامات بتوظيف الدين لأغراض سياسية يقول مورو “ندعو الناس لأن يصوتوا على برامجنا، وليس للتصويت على انتماء ديني. نحن لا نقول للناس إن مشاريعنا هي الدين، ومن يعارضنا يعارض الدين، بل نقول إن هذه هي مشاريعنا للتعامل مع مشكلات المجتمع. أما مرجعيتنا فهي لنا ولمن يتبعنا”.
ويرى أيمن الصياد رئيس تحرير مجلة “وجهات نظر”، والمستشار السابق للرئيس المصري المعزول محمد مرسي، أن من حق الاحزاب ذات المرجعية الاسلامية أن تشارك في العمل السياسي ولكن بشروط، من بينها احترام دستور الدولة، واحترام حقوق المواطنة لجميع مكونات المجتمع، والحذر من ديكتاتورية الأغلبية لأنها من أسوأ أنواع الديكتاتوريات، وذلك لأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق الأقتراع، بل تقوم الديمقراطية في جوهرها على مفهوم وجود الآخر، وقبول أن له نفس الحقوق، حتى لو كان هذا الآخر ينتمي الى الأقلية.
ويضيف الصياد أنه لا مشكلة في أن يكون هناك حزب أو تنظيم سياسي يقوم على أساس أفكار ذات طابع ديني أو علماني أو يساري، ولا يجب أن يكون هناك دور محدد سلفا للأحزاب السياسية. من حق كل صاحب رأي أن يدعو لأفكاره، بما في ذلك الاسلاميون، ولكن ليس من حق أحد أن يفرض اختياراته على الآخرين، اذ أن الناس هم أصحاب الحق الحصري في الاختيار.
وعن تجربة الأخوان في الحكم في مصر يقول الصياد: الأخوان يتحدثون عن مؤامرة عليهم، وربما يكون هذا صحيحا، ولكن لا يصلح لأن يكون عذرا للفشل. من الطبيعي عندما تقوم ثورة تطالب بإسقاط النظام أن يسعى هذا النظام، المتمثل في الدولة العميقة، للتآمر على الثورة واجهاضها. وبالتالي لابد لاستكمال التحول الديمقراطي من توافق كل أصحاب المصلحة في هذا التحول، واذا فشل الفصيل الرئيسي في تحقيق التوافق ستكون النتيجة هي الفشل. الاخوان فشلوا في تحقيق هذا التوافق، وظنوا أنهم وحدهم قادرون على الحكم”.
أيمن الصياد:
أيمن الصياد: من حق كل صاحب رأي الدعوة لرأيه لكن ليس من حقه فرضه على الآخرين
عدم التدخل في الحريات الفردية
“دور الأحزاب السياسية أن تقدم سياسات تفيد الشعب، وليس دورها هو فرض قيم معينة على المجتمع، وهذا ما تميز به حزب العدالة والتنمية في المغرب”. هذا ما تقوله الدكتورة بثينة القروري، عضو مجلس النواب المغربي ورئيسة لجنة السياسات العمومية في حزب العدالة والتنمية، وتضيف “أننا في الحزب نعتمد على فقه القاصد، وهو أن مفهوم إقامة الشريعة الاسلامية هو إقامة العدل والرخاء، اما الجزء المتعلق بالحدود فنسبته قليلة بالنسبة لأجمالي أهداف المجتمع، وبالتالي لا يجب أن تضيع الاهداف والمقاصد الكبرى، وهي الحرية والعدالة ومحاربة الفقر، من أجل أهداف جزئية”. ولهذا، حسبما تقول، أكتسح الحزب الانتخابات البلدية في المدن الكبرى مثل فاس والدار البيضاء. كان هناك تخويف من أن الحزب سيفرض قيما معينة على الناس، لكن عبد الاله بن كيران، الأمين العام للحزب، قال للجميع أنه لاعلاقة لنا بالحريات الفردية، وطالب المنتمين للحزب بتقديم انجازات تدبيرية محلية مثل مشروعات التعليم والعلاج والإنارة. ولهذا أكتسح الحزب انتخابات المجالس البلدية في المدن الكبرى.
وترجع بثينة القروري أسباب اختلاف تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب عن تجارب أحزاب اسلامية أخرى في المشرق العربي الى عدة عوامل: أولا أن الفقه الاسلامي كان متطورا في المغرب مقارنة بالمشرق، وطغى عليه فقه النوازل وفقه المقاصد الذي يركز على الاهداف الكبرى للشريعة الاسلامية. ثانيا أن النظام الملكي في المغرب يعتبر المشروعية الدينية أحد أسس مشروعيته، وذلك بخلاف أنظمة سياسة أخرى، وبالتالي فالحركة الاسلامية لا تنازع الملك السلطة السياسية. ثالثا أن الحزب أعتبر نفسه امتدادا للحركة الوطنية، اذ أن الكثير من رواد التحرير كانوا فقهاء، مثل علال الفاسي. ومن ثم، كما تقول القروري “أعتبرنا أنفسنا حزبا وطنيا ذات مرجعية اسلامية. لم يأت الحزب لأسلمة المجتمع أو هداية الناس، ولكن للمساهمة في النضال الديمقراطي في المغرب”.
بثينة قروري: لا نفرض قيما بعينها على الناس
وتتفق الدكتورة منى فياض أستاذة علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية على أن الاوضاع تختلف بشكل واضح بين مصر وتونس والمغرب. في تونس مثلا بدأت الثورة من الريف وساندتها حركة نقابية عريضة، حسبما ترى، والمجتمع الذي أسسه بورقيبة أكثر انفتاحا من مصر، وكل هذا فرض على حركة النهضة سلوكا معتدلا، وكان ذكاء الحركة هو التكيف مع ظروف المجتمع. اما في مصر فقد حاول الأخوان المسلمون فرض اختياراتهم على نحو 50% من المصريين الذين لم يصوتوا لهم، ولهذا فشلت تجربة الاخوان في مصر.
وتضيف منى فياض “أثبتت التجارب التاريخية أن الدولة الدينية لم تنجح، ولهذا أنا مع دولة محايدة تجاه الأديان. أنا مع حرية المعتقد بالمطلق للمؤمن وغير المؤمن، وضد تدخل مؤسسات دينية في السلطة، ولكن أنا مع الدين كفاعل اجتماعي. وتبقى مشكلة الاحزاب الدينية في بلادنا أنها تخلط الدين بالسياسة وتستخدم الدين طريقا للوصول للسلطة، وبعدها تسعى لأسلمة المجتمع”.
ويرى الدكتور أحمد عبد ربه أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في القاهرة في كتابات له عن علاقة الدين بالدولة أنه لا يمكن ادعاء “أن الاسلام هو الحل” لأن هذا الادعاء فشل عند تطبيقه في عدة دول، فلم يكن الاسلام هو الحل في أفغانستان تحت حكم طالبان او أيران تحت حكم آيات الله. كما لا يمكن ادعاء “أن العلمانية هي الحل” لأن علمانية الأسد في سوريا أو صدام في العراق او حكم الشاه في ايران لم تأت سوى بأسوأ الممارسات القمعية.
ويضيف عبد ربه أن “معيار الفصل الجامد بين الدين والسياسة كما هو التصور المثالى عن العلمانية، لم يكن أبدا محددا من محددات الديمقراطية، ولكن قدرة الدولة على ضبط العلاقة بين الدين والدولة”.
ويبقى أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات العربية هو الوصول الى تنظيم العلاقة بين الدين والدولة بحيث لا تكون مصدرا للصراعات والانقسامات، بل مصدرا لتحقيق مصالح الشعوب وتحسين مستوى معيشتها.
بي بي سي