حول الفن والعمران وفرانك غيري

هيئة التحريرآخر تحديث :
حول الفن والعمران وفرانك غيري
تم نشر هذه المقالة أصلاً في مجلة ميتروبوليس Metropolis Magazine في قسم “مدونة وجهة نظر” على شكل مقالة قام بها إيمان الأنصاري مع إدوين تشان Edwin Chan شريك التصميم في مكتب فرانك غيري
لمدة 25 عاماً والذي انفصل فيما بعد ليشكل مكتبه الخاص تحت اسم EC3.
اليوم وبعد مرور عامٍ تقريباً على نشر هذه المقابلة باللغة الإنكليزية، قامت إيمان الأنصاري بترجمة هذا الحوار الهام إلى العربية، والذي يتحدث عن الفن والعمارة وما وراء التصميم في كثيرٍ من مشاريع فرانك غيري، ونظراً لكثافة معلوماته قررنا عرضه على شكل سلسلة نقدم لكم اليوم جزأها الأول:
إيمان الأنصاري: عندما ننظر إلى عمل فرانك غيري وتوم ماين كمعماريين في لوس أنجلس نجد أن هناك علاقة رمزية مع المدينة واضحة في أعمالهما: شخصية صناعية لهذه المباني والعناصر تعود لثقافة الطرقات السريعة أو السيارات تربط العمارة مع البنية العمرانية التحتية الأكبر، ومقياس المشاريع، إضافةً إلى استخدام المواد مثل المعدن أو الزجاج أو الإسمنت. لكن هذه المباني أيضاً كأجسام حرة مشابهة للآلة قابعة في قلب المدينة تجسد مُثلاً وقيماً معينة أمريكية بشكلٍ فريد مثل الفردانية وحرية التعبير. برأيك كيف يرتبط عمل فرانك غيري بلوس أنجلس أو الثقافة الأمريكية؟
إيدوين تشان: بكل تأكيد. أعتقد أن عمل فرانك حتماً يمتلك “جينات” لوس أنجلس كمدينة. نحن نتكلم عن فكرة مدينة ديموقراطية كثيراً وبالمصادفة أيضاً ذكرت هيلاري كلينتون في خطابها مؤخراً أننا “نحتاج عمارةً جديدة لهذا العالم الجديد تشبه عمارة فرانك غيري أكثر مما تشبه العمارة اليونانية الرسمية” لأنها تعبيرٌ عن الديموقراطية. بهذا المعنى يمكنك أن تفكر بالمباني بأنها تجسد نوعاً معيناً من القيم التي تتجلى معمارياً.
أشرت لهم كثيراً بالأصل حين ذكرت تنوع المواد والمقياس والتنوع وهذه ايضاً تمثل DNA المجتمع الذي نعيش فيه. ولكن بالنسبة لي شخصياً أعتقد أنه الإضافة إلى كل شيءٍ تحدث عنه هناك جانبان عمارنيان أساسيان يبرزان: الأول هو الضوء؛ فلوس أنجلس مدينةٌ تعلم تماماً أنها فريدة بأفقيتها. عندما تكون في المدينة ترى السماء بشكلٍ دائم وتكون السماء دائماً جزءاً من إطار رؤيتك العام_ على عكس مدينة نيويورك حيث تكون دوماً محاطاً بالمباني_ وبسبب ذلك تكون واعياً للضوء إلى حدٍ كبير لذلك فالعمارة ومواد العمارة يجب أن تكون دائماً حساسةً جداً مع مسألة الضوء. وأحياناً يكون ذلك جزءاً هاماً جداً من القرارت.
تم تبني هذه المقاربة أيضاً في مشاريع عملنا عليها عالمياً. على سبيل المثال، أحد أسباب استخدامنا للتيتانيوم في متحف غوغنهايم في بيلباو كان الطريقة التي تفاعلت بها هذه المادة مع الضوء في المدينة. لم يكن ذلك قراراً طرازياً بحد ذاته. كما تعلم بيلباو مدينة ذات صناعاتٍ ثقيلة وفولاذ؛ وعلمنا نحن منذ البداية أن المبنى سيكون من مادة معدنٍ ثقيل سيتكلم عن الشخصية الصناعية للمكان.
لذلك نظرنا إلى الفولاذ وغيره من المواد لمدةٍ طويلة ولكننا لم نحب الطريقة التي تجاوبت بها تلك المواد مع الضوء. تمطر السماء في شمال إسبانيا كثيراً وأردنا مادةً تشع نوعاً من الدفء وتجلب السماء إلى المبنى.
لذلك هذا هو سبب قرارانا باستخدام التيتانيوم في المبنى. في أماكن أخرى استخدمنا أنواعاً أخرى من المواد.فالأمرحقيقةً يعتمد على مكان المشروع. ولكن فكرة استخدام المواد وتجاوبها مع الضوء أمرٌ هام للغاية وأعتقد أننا طورنا حساسيتنا تجاه ذلك من لوس أنجلس.
الجانب الثاني هو خاصية قلة الإثارة في المدينة بمعنى آخر؛ عندما يزور الناس لوس أنجلس خاصةُ الأوروبيون يلاحظون نوعاً مختلفاً تماماً من المدن عن المدينة التقليدية؛ جزءٌ من خاصية “عدم الإثارة” هذه. ولكن في الوقت نفسه هناك جمال ٌفي “عدم الإثارة”، إذاً كيف يمكنك إلتقاط هذه الخاصية؟ وكيف تجلب ذلك إلى إدراك الناس؟ فالناس في أغلب الأحيان ينكرون هذا الواقع. يتحدث فرانك عن ذلك أيضاً، وهذه هي الطريقة التي توصلنا بها إلى السور ذي الشكل المشابه للسلسلة؛ إنها مادةٌ يستخدمها الناس في ساحاتهم الأمامية طوال الوقت ولكن عندما تستخدمها أنت كعمارة يبدأ الناس بمسآلتها. إذاً الأمر يتعلق بإظهار تلك الأنواع من القيم والتركيز عليها. بشكلٍ أو بآخر إنها مثلDuchamp، تعلم، لأنها جزء من نوعٍ من الحساسية القادمة من الفن الحديث: إعطاء قيمةٍ للأشياء الاعتيادية أو التأكيد على جمال الاعتيادية (أو عدم الإثارة).
إ.أ: بالنظر إلى منزل سبيلير في فينس، كاليفورنيا والذي هو أحد مشاريع فرانك المبكرة نرى أن الاهتمام باستخدام مواد اعتيادية كالمعدن المموج المقطع أو الخشب. ولكنني في ما وراء ذلك أعتقد أن الطريقة التي يتركب بها المنزل وكيف تتجانس فيه المواد تعبر أيضاً عن تلك الخاصية الاعتيادية. تبدو المواد خاماً للغاية، غير معالجة أو مطلية، ويمكنك بالفعل أن ترى المفاصل والوصلات التي تربط بينها.
إ.ت: هذا صحيح وجزءٌ من هذا له علاقة بثقافة الإنشاء في الساحل الغربي واستخدام أطر الخشب 2X4 مع المعدن مموج المقاطع (الصفيح). كما أن هناك جانباً غير مكتمل من المبنى وهو أحد خصائص عمل فرانك المبكر. ولكن أعتقد أن هذا المشروع هام لأنه جزءٌ من مشهد الشارع. فالمبنى من الأمام يمتلك قطعةً أخفض تتعلق بمقياس الشارع والمباني المجاورة وهناك قطعة ثانية في الخلف أطول.لذلك هناك دائماً في عمل فرانك المبكر فكرة كسر المبنى إلى قطعٍ أصغر كطريقة للتعامل مع المقياس. كما يمكنك رؤية أن هذا النوع من المقياس والجمالية متلائم جداً مع مباني أخرى في فينس،كاليفورنيا. لذلك هناك شخصية صناعية فيها تجعلها تتلاءم بشكلٍ صحيح.
إ.أ: تحدثت سابقاً عن اهتمامك بالفن وأن أحد أسباب انجذابك لعمل فرانك غيري هو أنك رأيت صلةً قوية بينه وبين عالم الفن والحوار مع الفنان.؛ الفن بالطبع مفهومٌ واسع ويمكن أن يكون غامضاً، ولكن ما تعريفك للفن؟ وما هي جوانب الفن التي تهتم بها على وجه الخصوص؟
إ.ت: الفن مثير للاهتمام لأنك إذا جلست مع أي معماري أعرفه سيخبرك أنه مهتم بالفن. ولا يمكنني أن أتخيل معمارياً واحداً سيخبرك أنه غير مهتم بالفن. لذلك بشكل أو آخر أعتبر الأمر نمطياً ومكرراً أن أقول ذلك. مع أنني يجب أن أقول أنني أكثر ميلاً للبصرية لأن عيوني تطورت بشكلٍ أفضل من آذاني. في المشاريع التي عملت عليها ابتعدت لأطول فترةٍ ممكنة عن صالات الحفلات واهتممت أكثر بالمتاحف؛ لذلك الفن بالنسبة لي بصري. ولكنني أعتقد اليوم أن الجيل الأصغر من الفنانين يعمل بطرقٍ متعددة المبادئ والمناهج؛ الأمر الذي أجده أيضاً مثيراً للاهتمام. أكن إعجاباً للفنانين الذين يعملون بوسائل تقليدية، ولكنني أعتقد أنني مهتمٌ أكثر بالفنانين الذين يعملون بأنواع مختلفة من الوسائل. وبالرغم من أنني قلت أنني مهتمٌ بالفن، إلا إنني لم أتخيل نفسي يوماً نحاتاً أو رساماً؛ ألتقط الصور الفوتوغرافية ولكنني لا أمتلك الصبر لأرسم أو أنحت. أعتقد أن الفن بالنسبة لي هو حوارٌ مع الفنان المثير للاهتمام؛ لأن المسائل التي تهم الفنانين هي بشكل أو آخر أكثر حسية وأقل نظرية. لذلك فإن النقاشات التي تقوم بها مع فنان حول العملية الإبداعية تكون عادةً مواضيع من نوعٍ مختلف، وهذا ما يهمني ويثير حماستي.
إ.أ: أي أنك بهذا المعنى تعتبر العمارة وسيلةً أخرى للفن؟
إ.ت: لن أعرّف الأمر بهذه الطريقة. أعتقد أننا بمعنى ما مشتركون في نوعٍ من المشروع الإبداعي وأعتقد أن العمارة هي نوعٌ من عدة أنواع من المشاريع الإبداعية المختلفة. أتردد في عنونته لأنني لا أعتقد أنه من الصحي التفكير فيها بتلك الطريقة. الأمر فقط أنه في العمارة يصدف أن تكون الوسيلة التي نختارها للتعبير عن تلك الأفكار هي البيئة المبنية، في حين ربما قد يكون قد اختار الفنان وسيلةً أخرى لاستكشاف المجموعة ذاتها من الأفكار.
إ.أ: أود التحدث عن مبنى Chiat/Day/Mojo؛ هذا المشروع بالتحديد يثير اهتمامي بسبب ما كنت تصفه من حوارٍ بين الفن والعمارة. إذ جاء المنظار الكبير نتيجةً التعاون بين فرانك غيري والنحات كليس أولدينبيرغ. عمل كليس هنا مثيرٌ للاهتمام ويشكل مفارقة بالنسبة لي خاصةً لأن عمله يدور حول أخذ الأشياء اليومية وبنائها خارج مقياسها.
إ.ت: تم تصميم البناء وقتها لأجل شركة الدعاية والإعلان Chiat/Day/Mojo ولكن اليوم تملكه غوغل كجزء من توسع حرمهم في لوس أنجلس. كان جيه تشيات صديق عمر لفرانك وأراد مبنىً يشجع على الإبداع. لذلك وبالعودة إلى سؤالك؛ هل هذا عمارة أم هذا فن؟ بالطبع كان المنظار نتيجة التعاون بين فرانك وكليس الذي كان أحد فناني الفن الشعبي (pop art) الهامين في زمانه منذ بداية الستينيات. واعتبر العديد من الناس المبنى نوعاً من العمارة الشعبية(pop architecture) مع وجود المنظار. ولكني أحب أن أعتبرها نوعاً من رد الفعل العمراني.
عندما تبني أي شيء في فينس، كاليفورنيا يكون لديك حد ارتفاع يبلغ 30 قدماً، لذلك تفكر بالمبنى ضمن علاقته مع الشارع؛ ما الذي ستفعله للتعامل مع الشارع؟ كما يجب عليك أن تتذكر أن هذا المبنى بني في الثمانينيات عندما كان موضوع العمارة حينها عمارة ما بعد الحداثة، وحيث كان لديك أشخاص مثل مايكل غريفز كانوا يصممون واجهات كتلك بشكلٍ مسطح ثنائي البعد. لذلك عندما أفترض_وهذا مجرد تخمين_ أن مقابل والبديل عن صنع واجهة مسطحة هو صنع واجهة تخاطب الشارع مع سلسلة من الأجسام أو المنحوتات التي تمتلك بعداً ثالثاً.
إ.أ: يبدو المبنى بالفعل وكأنه يمكن أن يكون ثلاثة أو أربعة أنواع من المباني وحتى أن يكون عدة معماريين قد صمموه. ولكن الأمر المثير للاهتمام بالنسبة لي هنا أيضاً هو كسر المقياس. لأنه وبأخذ أمر حد الارتفاع بثلاثين قدم بعين الاعتبار إذا كنت تريد تحقيق تعبيرٍ صرحي ستبدو واجهة الشارع الخاصة بالمبنى منخفضة وطويلة جداً.
إ.ت: الطريقة الأخرى للتفكير بالأمر هي أنه بالنسبة لجيه تشيات كان هناك متطلبات برنامجية مختلفة أخرى لذلك كانت الفكرة أن كل عنصر هنا سيعبّر عن بعض جوانب برنامج الوكالة من خلال التعبير عن نوع الفراغات في الداخل. إذ يوجد حتى ضمن المنظار غرف اجتماعات وهم بالفعل يستخدمون الفراغ الداخلي للمنظار. وعندما تنظر إلى القسم الخلفي من المبنى تجد أن لديه تعبيره الخاص مع وجود النوافذ المثقبة.
إ.أ: هل تقترح أن المنظار ليس مجرد منحوتة أو فن بل هو بالفعل عمارة؟
إ.ت: حسناً، هذا نوعٌ مختلفٌ من المواضيع ويعتمد على الذين تحدثهم. ولكن دعنا فقط نقول أنه مسكونٌ فراغياً ومستخدم بعدة طرق. لذلك يوجد في الجناح الأيسر مكاتب تمتلك وظيفةً مختلفة عن المكاتب في الجناح الأيمن، وفي الوسط حيث المدخل مباشرةً توجد غرف اجتماعات، وداخل المنظار توجد لديك غرف الاجتماعات الأكثر خصوصية. إذاً لا يوجد هناك فقط قطعٌ نحتية وإنما بطريقةٍ ما تعرض طبيعةً مختلفة لاستخدمها ومتطلباتها الفراغية. وبالطبع يريد كل زبون فراغاً أكبر داخل مبناه بغض النظر عن وظيفتهم. لذلك من خلال التعبير عن قطع المبنى بهذا التنوع يخلق المبنى فرادتها ضمن تجانس البرنامج الوظيفي كاملاً.
إيمان الأنصاري: معماري ومصمم عمراني ومدير الشركة المعمارية AN.ONYMOUS وهو محاضر في النظريات المعمارية في كلية سيتي في جامعة سيتي نيويورك City College of the City University of New York والتي حصل منها أيضاً على حاصل على شهادات في العمارة والفلسفة ، كما أنه حاصل على شهادات في العمارة والتصميم العمراني من جامعة هارفرد.
تم عرض أعماله ونشر كتاباته بشكلٍ واسع في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا والشرق الأوسط.
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة