بقلم:د.عبدالله خليفة الشايجي
كتبتُ خلال الشهرين الماضيين عدة مقالات عن الموقف الأميركي المتردد والرافض للانخراط بأي طريقة في سوريا. كتبت مثلاً في أبريل الماضي في «الاتحاد» مقالاً بعنوان «خيارات أميركا الصعبة في
سوريا» قدمت فيه استعراضاً لدواعي تردد أوباما، ولماذا لا توجد خيارات جيدة عنده في الأزمة السورية، حيث أكدت أنه «لا يمكن فهم هذا التردد إلا إذا فهمنا واستوعبنا أفكار ومبدأ أوباما نفسه: فلا حروب كبيرة وطويلة على شاكلة حرب العراق، ولا إرسال جنود وقوات لتحرير دول أو لإسقاط أنظمة، والخزينة الأميركية مفلسة، والتقشف هو ما يسود في أميركا، ومزاج الناخب الأميركي بعيد كل البعد عن المغامرات والحروب الخارجية، ويستحوذ عليه الهم المعيشي والضرائب والتوظيف… وللمفارقة في استطلاع للرأي أجري مؤخراً تعرّف نصف الأميركيين فقط على موقع سوريا على خريطة لدول الشرق الأوسط بلا أسماء»! وفي شهر مايو الماضي كتبت أيضاً عن مبدأ أوباما وتساءلت في مقالتي «لماذا تغيب أميركا» وتتراجع عن التزاماتها؟! وكيف يقرأ حلفاؤها ذلك التردد والتراجع؟ وكيف يشجع التراجع على تحدي خصومها لها؟
وكان ملفتاً أن التردد والعزوف الأميركي عن ممارسة دور القيادة المفقودة استمر حتى بعد أن طلبت دول إقليمية من واشنطن تسليح المعارضة، وكذلك فعلت شخصيات قيادية في طاقم أوباما إلى درجة أنه هو نفسه رفض توصيات ومواقف قوية من هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في حينها، ومدير عام الاستخبارات المركزية الجنرال ديفيد باتريوس، ومسؤولين عسكريين آخرين أشاروا بضرورة تزويد معارضة منتقاة، أو الجيش السوري الحر، بالسلاح من أجل إحداث توازن على الأرض. وكذلك سجلت مطالبات من قياديين في الحزب الجمهوري في الكونجرس مثل السيناتور جون ماكين، وليندسي جراهام، وكذلك مطالبات من حلفاء واشنطن مثل بريطانيا وفرنسا، بتسليح المعارضة. ولكن بقي الرفض هو الرد. وحتى عندما وضع أوباما خطوطه الحمراء لبشار الأسد في الصيف الماضي حول عدم السماح باستخدام السلاح الكيماوي، وكررها في زيارته الأخيرة للمنطقة، وعلى رغم تجاوز بشار أكثر من مرة لهذا الخط -باعتراف الاستخبارات الأميركية نفسها- رأينا التردد الأميركي من جديد. وكان ملفتاً حتى بعد أن أكدت الاستخبارات البريطانية والفرنسية بناء على فحوص مخبرية استخدام السلاح الكيماوي ترد واشنطن وطلبها المزيد من التحري والتأكد. وكل ذلك أحبط الثوار، ودفع بحلفاء واشنطن للتشكيك في مواقفها والتزاماتها تجاه أمن المنطقة، وحتى أمن حلفائها. ولذلك كان التحرك الخليجي، وزيارة قادة عرب للبيت الأبيض ولعواصم صنع القرار في أوروبا لحشد الموقف الداعم لتزويد الثوار بالسلاح وخاصة بعد أن خرجت الأمور من عقالها وبدأت تهدد بحرب مذهبية سنية شيعية تتعدى سوريا لتنحدر كرة النار المذهبية لتحرق المنطقة. ولم يعد الحديث والنقاش عن «الربيع العربي»، ولا عن الأمن الخليجي، ولا عن الصراع العربي الإسرائيلي، بل عن الصراع المذهبي في سوريا والعراق ولبنان، الذي يتمدد ونرى تجلياته في الكويت من حشد ومقاطعة الجمعيات التعاونية في المناطق السكنية للبضائع الإيرانية وتظاهرة احتجاجية وحرق صور أمين عام «حزب الله» أمام السفارة اللبنانية… احتجاجاً على سكبه المزيد من الزيت على النار في إطلالاته المتكررة وتبريره غير المقنع لقتال حزبه في سوريا.
ونعود للسؤال: إذن لماذا التغيير في الموقف الأميركي، وما الذي حدث حتى يغير الموقف مقتل ما بين 100 إلى 150 سورياً بالسلاح الكيماوي من قبل قوات الأسد ليحرك أوباما وإدارته لتستنفر وتغير من موقفها المتحفظ، وهي التي لم تحرك ساكناً إلا لماماً بعد مقتل حوالي 100 ألف سوري وتهجير 5 ملايين آخرين؟ وقد أتى التغيير في الموقف الأميركي قبل قمة الثمانية الكبار وانتخابات الرئاسة في إيران. فهل هناك أيضاً رسالة ما في ذلك؟
لقد تغير الموقف الأميركي وخلع القفازات الحريرية بعد أن أعلن البيت الأبيض الأسبوع الماضي أن «أجهزة استخباراتنا توصلت إلى أن نظام بشار الأسد قد استخدم الأسلحة الكيماوية، بما فيها غاز السارين بكميات قليلة خلال العام الماضي ضد المعارضة وفي عدة مرات». كما أن الولايات المتحدة أكدت أنه «لا توجد أدلة على أن المعارضة استخدمت السلاح الكيماوي»، وسط ترحيب الثوار والجيش السوري الحر وحلفاء أميركا في أوروبا والدول الإقليمية بهذه التصريحات، ومعارضة النظام السوري الذي اتهم تقرير الاستخبارات الأميركية بالأكاذيب.
لكن السبب الحقيقي أعمق من ذلك. واضح أن سوريا تحولت إلى كابوس مزعج لأوباما وإدارته، بعد غزوة القصير وتحول سوريا إلى كرة نار طائفية تهدد بحرق المنطقة بفتنة مذهبية بين السنة والشيعة، وحرب إقليمية مع التجيش المذهبي الممتد من باكستان إلى المتوسط، ومع دعوات النفير العام والجهاد والحشد من إيران وحلفائها و«حزب الله» وميليشيات من العراق وغيرها بدأت الأمور تخرج من عقالها… وبدأت مصداقية أميركا تتهاوى مع تغير قواعد اللعبة. وهذا ما دفع واشنطن لتوجيه رسائل واضحة عن تغيير مواقفها، وخاصة بعد بدء عاصفة الشمال لاستعادة حلب بتحالف جيش النظام السوري وحليفه «حزب الله»، وفتح جبهة الجنوب بعاصفة حوران من قبل الجيش السوري الحر. ومع الضغط من حلفاء واشنطن الأوروبيين والخليجيين لم يعد ثمة مفر من تغيير استراتيجية التجاهل والتردد، ومن ثم الانخراط بشكل أكثر فاعلية للتعامل مع مجموعة المتغيرات الضاغطة… وهذا ما يشكل تحولاً جذرياً في الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية.
ولكن ماذا عن نوعية السلاح الذي تفكر أميركا بتزويد الجيش السوري الحر به؟ تشير تسريبات من واشنطن إلى أنها ستقتصر على الأسلحة الخفيفة وأجهزة اتصالات وأسلحة مضادة للدبابات والدروع. أي أنها ليست أسلحة نوعية. وهذا يعني أن السلاح لا يشمل أسلحة ثقيلة وصواريخ مضادة للطائرات خشية وقوعها بأيدي الميليشيات المتشددة والمعادية للغرب. وكذلك لا يشمل إقامة منطقة حظر طيران جنوباً على الحدود مع الأردن وشمالاً على الحدود التركية، ما يعني أن القرار هو أفضل الممكن، وقد لا يكون كافياً لتغيير موازين القوى لمصلحة الجيش السوري الحر والثوار. ما سيطيل أمد النزيف والمعاناة دون حل سريع للمأزق السوري.
فهل هذا سيحقق الاستراتيجية الأميركية التي بقيت «لا غالب ولا مغلوب»؟ وكيف سيوقف ذلك تقدم ومكاسب الجيش السوري النظامي وحليفه «حزب الله»، وهزيمة المشروع الإيراني والتفوق الروسي الذي يبدو أنه يتغلب على الاستراتيجية الأميركية في سوريا.
ومع ذلك فثمة تغير مهم في الاستراتيجية الأميركية التي غاب دورها وزعامتها وأثارت تساؤلات حلفائها وتجرؤ وتحدي خصومها… ولكن يبقى التحدي، هل ما نشهده من موقف أميركي جديد هو تكتيك وردة فعل واحتواء؟ أم هي استراتيجية متكاملة لتغيير قواعد اللعبة وإنهاء الأزمة السورية التي لا مستقبل فيها للأسد كما يؤكد البيت الأبيض؟!