بقلم: خالد الدخيل
في اللحظة التي يواجه فيها مصيره واستحقاقاته الكبرى، يبدو العالم العربي مشلولاً، كأنه من دون خيارات ومن دون غطاء. ينتظر ماذا ستفعل واشنطن. وواشنطن لن تفعل الشيء الكثير. انكشفت خدعة
المقاومة قبل القصير بزمن طويل، لكن التدخل الإيراني في الشام العربي يتوغل وبمساعدة عربية. قوات النظام السوري اضطرت تحت وطأة الثورة إلى الاستعانة بميليشيا «حزب الله»، وبميليشيات أخرى من العراق. خزانة النظام تتآكل بفعل تكاليف الحرب والعقوبات والهجرة المستمرة، ويأتي التعويض من إيران. وعندما تكون حاجة النظام السوري إلى أمنه وأمواله معتمداً على الخارج، يصبح قراره رهينة هذا الخارج. الأردن في حال استنفار وارتباك. في لبنان اختطف «حزب الله» قرار الدولة لصالح المرشد الإيراني. كل ذلك يحصل ومصر غارقة في أزماتها السياسية التي تتوالد في شكل يومي. والسعودية تبدو غارقة في صمت لم تخرج منه بعد. لا يعني هذا أن السعودية لا تفعل شيئاً. هي تفعل، لكن من الواضح أن ما تفعله غير كاف، وأن صمتها لا يساعد كثيراً. ما هو مطلوب ليس في حد ذاته صعباً، لكن تكمن الصعوبة في بطء الحركة وتأخر الاستجابة.
لماذا السعودية ومصر؟ لأنهما في هذه اللحظة عمودا المشرق العربي. العراق يخضع لتعايش نفوذ أميركي – إيراني مزدوج، وسورية أغرقها النظام بالدم لأنها تقاوم اختطافها إلى تحالف الأقليات في المنطقة الذي تقوده طهران. لمصر والسعودية مسؤولية أخرى، وهي أن ما آلت إليه أوضاع المنطقة منذ الثورة الإيرانية في 1979 يعود بشكل أساسي إلى سماح هاتين الدولتين للنظام السوري باستخدام علاقاته معهما، وإدارتها على نحو جعل منها غطاء لتحالفه مع إيران، وهو تحالف كان من الواضح أنه ينمو ويتسع في الخفاء بعكس ما كان يبدو عليه في الظاهر. تمشياً مع ذلك تركت السعودية ومصر الساحة للنظام السوري لتوظيف شعارات «العروبة والمقاومة والممانعة» للتمويه على حقيقة ما كان يجري بينه وبين القيادة الإيرانية. تركتا ذلك لأنهما استهانتا – ربما – بما كان يحدث، وتغاضتا عن حقيقة الشعارات وحقيقة ما كان يجري خلفها.
من أخطر نتائج التحالف السوري – الإيراني دخول «حزب الله» إلى المشهد اللبناني أولاً، ثم في المشهد العربي الآن. بات هذا الحزب ظاهرة سياسية غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث. لم يسبق لحزب مزدوج الهوية (لبناني – إيراني) وغير حاكم أن وصلت قوته السياسية داخل بلده إلى ما وصل إليه «حزب الله» في لبنان، ولم يكن ذلك ممكناً من دون الأموال والأسلحة الإيرانية التي كانت تأتي إلى الحزب لعقود من الزمن عبر البوابة السورية، ولم يكن ذلك ممكناً من دون تدريب المقاتلين على يد خبراء ومقاتلين إيرانيين. كل ذلك كان يتم بغطاء رسمي لبناني، وتغاضٍ عربي غريب. انطلت على كثيرين خدعة المقاومة التي يرددها الحزب. وهي ليست «خدعة» إنكار لواقع وإنما مواجهة للواقع. لا شك في أن الحزب قاوم العدو الإسرائيلي، وكان عاملاً مهماً في تحرير جزء كبير من جنوب لبنان، لكن السؤال: لمن هذه المقاومة؟ ولمصلحة من؟ ولأي هدف؟ وأين ستقف؟ ومن هو صاحب القرار في كل ذلك؟ يدّعي الأمين العام للحزب حسن نصرالله بأنه صاحب القرار في أمور بخطورة الحرب والسلم على مستوى المنطقة نيابة عن الجميع. وهذا في الواقع ما قاله يوم الجمعة الماضي عن تبرير دخول مقاتلي الحزب إلى جانب النظام السوري. يقول بالنص: «عندما قررنا – وإن كنّا متأخرين – بأن ندخل ميدانياً في مواجهة المشروع القائم على الأرض السورية، بدأت تتشكّل لنا رؤية واضحة عن المشروع القائم وتداعياته على لبنان والمنطقة وفلسطين وسورية وعلى المسلمين والمسيحيين والسنّة والشيعة وكل الناس». أي أن قيادة الحزب شكلت رؤيتها، واتخذت قرارها بدخول القتال نيابة عن «لبنان وفلسطين وسورية والمسلمين والمسيحيين والسنّة والشيعة، وكل الناس». من الذي أعطى الحزب كل هذا التفويض الذي لا يحلم به القيصر الروماني في زمانه؟ يوحي كلام نصرالله بأنهم في الحزب يملكون قرارهم وأنهم مستقلون في ذلك، لكن الأمر لا يحتاج إلى إثبات بأن قراراً بهذا الحجم والخطورة لا يملك نصرالله ولا زملاؤه حق اتخاذه والبت فيه بمعزل عمن يعملون تحت ردائه ورعايته والجميع يعرف – بمن فيهم نصرالله نفسه – بأن مثل هذا القرار، كما كل ما يتعلق بنشاطات الحزب خارج لبنان، هو في يد الذي يموّل الحزب وقيادته ويمده بالسلاح، وهو المرشد الإيراني. لا يملك الحزب المستند القانوني ولا السياسي للإقدام على مثل هذه الخطوة من دون غطاء إيراني أولاً، وغطاء سوري ثانياً.
تغاضى البعض عن كل ذلك، واستهان به وقلل من شأنه. من الواضح الآن أن سطوة الحزب على الدولة اللبنانية دليل على هشاشتها، لكن السماح له بالانخراط في المقاومة تحت عباءة المرشد الإيراني وبمعزل عن الدول العربية في موضوع هو في الأصل عربي من أوله إلى آخره، علامة أخرى على هشاشة الوضع السياسي العربي، وقبل ذلك على ضعف الدولة العربية.
كيف وصلنا إلى هنا؟ تأسس الحزب على يد «الحرس الثوري» الإيراني عام 1982. كان هدفه في البداية محصوراً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. بعد قيام الحزب – وفي ما يبدو أنه تعزيز لهذا الدور – بدأت تتراجع كل حركات المقاومة اللبنانية الأخرى، بحيث انحصرت مهمة المقاومة في هذا الحزب دون سواه، ثم حصل أثناء اتفاق الطائف في السعودية الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية أن تم التوافق عام 1989 على نزع سلاح كل الميليشيات اللبنانية كشرط من شروط إنهاء تلك الحرب، لكن تم استثناء «حزب الله» من هذا المطلب بذريعة المقاومة. كان هذا أمراً لافتاً في غرابته.
تسنّى لي في بداية صيف 2009 وبعد انتهاء الانتخابات البرلمانية بحوالى أسبوع أن ألتقي السياسي اللبناني المعروف وليد جنبلاط بمنزله في كليمنصو ببيروت، وكان الذي تفضل بترتيب هذا اللقاء الصديق جورج سمعان رئيس التحرير السابق لهذه الصحيفة. سألت وليد بيك حينها: «على أي أساس تم ذلك الاستثناء؟ وما هي مبرراته؟». لم يزد الرجل في إجابته على القول بأن «جنوب لبنان كان تحت الاحتلال، وأن البلد كان في حاجة إلى حركة مقاومة». قلت له: «لكن حزب الله كان ولا يزال حزباً دينياً بقيادة دينية ومرجعية دينية، ولا يمثل إلا طائفة واحدة من مكونات المجتمع اللبناني، وهو إلى جانب ذلك مرتبط بدولة أخرى هي إيران. كان يجب توقع أن هذا الاستثناء مرشح لأن يفضي لأسباب عدة إلى الإخلال بالتوازنات السياسية داخل المجتمع اللبناني، ولم يكن من الصعب – حتى في ذلك الوقت – تصور أن إيران لن تسمح بتوظيف سلاح الحزب ضداً لمصالحها السياسية، وبالتالي قد تستخدمه لهذه المصالح. لماذا لم تكن هناك فكرة تكوين حركة مقاومة وطنية تمثل كل اللبنانيين؟». كان تعليق جنبلاط على ذلك بالنص: «أننا في ذلك الوقت لم نكن نفكر بالموضوع على هذا النحو»، وهو تعليق يترك ثغرات كثيرة. ربما أن التواطؤ السوري – الإيراني حينها لم يكن يسمح بأكثر من ذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا وافقت السعودية؟ هل كان ذلك مجاملة لحافظ الأسد وعلاقته المتينة معها؟ أياً يكن، تعكس ملاحظة جنبلاط كيف يتغير نمط التفكير ومناط الاهتمام السياسي من مرحلة تاريخية إلى أخرى. ثم أضاف: «أنهم كانوا آنذاك لا يزالون تحت تأثير ثقافة السبعينات والثمانينات حيث كانت مفاهيم العروبة والاشتراكية والقومية هي المهيمنة». والإشارة هنا واضحة، وهي أن تلك المفاهيم تراجعت الآن لصالح الطائفية والمذهبية.
المهم. ها قد وصلنا إلى هنا. حزب عربي يقاتل بهوى طائفي شعباً عربياً باسم وراية بلد غير عربي. لا يجرؤ أن يقاتل تحت راية الإسلام، وإنما كما يقول نصرالله تحت راية الولي الفقيه مظللة بشعار «المقاومة». لم يفت شيء كثير. لا يزال هناك متسع من الوقت ومن الإمكانات لقلب المعادلة. إيران لا تستطيع أن تكسب في سورية مهما فعلت. بإمكانها أن تدمي بلد الأمويين، وأن تكلفه الكثير، لكنها لا تملك إمكان حسم الحرب لصالحها هناك. بإمكان حسن نصرالله أن يلقي من الخطابات باسم طهران عدد ما يشاء، لكن ذلك لن يغيّر من الواقع شيئاً. منذ ما قبل الإسلام، لم يتجاوز النفوذ الفارسي كثيراً حدود بلاد الرافدين، وحتى هذا كان دائماً نفوذاً موقتاً، إلا أن الأمر يحتاج مع ذلك إلى أشياء كثيرة كلها في المتناول، وأولها الإرادة والقرار والمبادرة. للحديث بقية…