بقلم: مجاهد ديرانية
بدأ اليومَ العامُ الثاني. سنةٌ كاملة مَرّت على حمص القديمة وهي تحت الحصار؛ لقد دخلت حمص إلى كتب التاريخ. خمسة آلاف من المدنيين وألف من المجاهدين حوصروا ثُلُثَ ألف يوم في ستة عشر
حياً من أحياء حمص القديمة، حُصروا بلا طعام ولا دواء ولا وقود، ولم يستسلم الأبطال، قالوا: اخترنا البقاء، قررنا الصمود لأن حمص إذا ذهبت فقد لا تعود.
ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً مضت على الأبطال الصامدين المحاصَرين في حمص. كم يوماً فكرنا بهم؟ كم مرة دعونا لهم؟ ماذا صنعنا من أجلهم؟ كم ليرة، كم ريالاً، كم درهماً أو جنيهاً أو ديناراً أو دولاراً أرسلنا إليهم؟ هل يعرف أحد: كيف يعيشون؟ من أين يأكلون؟ ماذا يصنعون بالمرضى والجرحى؟ من أين يأتون بالغذاء والدواء والوقود والذخيرة والسلاح؟
عندما يشتري أحدٌ من الناس ما يحتاج إليه من غذاء وكساء ودواء فإنه يُسأل: كم كلفك هذا من المال؟ أما هم فيُسألون: كم دفعتم من المال والرجال؟
-2-
هل تصدقون أن أي مدد لم يسلك إليهم طريقاً فوق الأرض منذ عام؟ إن كل ما يصلهم إنما يصلهم من طرق صنعوها تحت الأرض. ليس هذا سراً، فإن جيش الاحتلال الذي يحاصرهم يعرف ذلك، لكن أكثر المحبّين من السوريين والمسلمين لا يعرفون. إن المجاهدين المحاصَرين يُمضون شهراً وشهرين في صنع نفق يصلهم بالبر المحرر، ويُدخلون عبره ما استطاعوا من ذخيرة ومؤن ووقود ودواء، فيكشفه جيش الاحتلال بعد أسبوع أو أسبوعين، فيخسرون النفق، وقد يخسرون معه بعض الفدائيين.
إن كل مجاهد يَلِج النفق يعلم أنه قد يكون طريقَ خروجه من دار الفناء وبوابةَ عبوره إلى دار البقاء، وهو يعلم كم من إخوانه تربص بهم العدو على المخرج فاعتقلهم أو قتلهم ساعة الخروج، أو ألقى عليهم القنابل المتفجرة أو قنابل الغاز وهم في السرداب. ومع ذلك فإنهم يدخلون، ويحملون على ظهورهم الذخائر الثقيلة في رحلة عسيرة، يقطعون فيها مئات الأمتار في ست ساعات أو سبع ساعات.
إنها رحلة الموت. لا، بل إنها رحلة الحياة، رحلة الخلود.
-3-
عام كامل وهم يعيشون على أقل القليل من الغذاء، إذا ظفروا بأكثر من البرغل فهم محظوظون. ذات يوم وجدت بعضهم يأكلون “اليَبْرَق”. قلت: أنّى لكم هذا؟ قالوا: غنائم غنمناها في غارة على بعض مواقع العدو. وكانت تلك الوليمةُ يومَ عيد! أما اللحم فإنهم نَسُوا أولاً طعمه، ثم نسوا شكله، ثم نسوا اليوم اسمه، فلو قلت لهم “لحم” قالوا: “وما اللحم؟”… لكنهم ما يزالون صامدين.
عام كامل وهم يتناقصون، منهم من وفد على الرحمن الرحيم، ومنهم من أصيب الإصابة الشديدة فانضم إلى قافلة المرضى والمصابين. عام كامل والجرحى يتكدسون في حمص المحاصرة. كانوا ملء غرفة، ثم ملؤوا شقة، ثم طابقاً في عمارة، ثم عمارة من ثلاثة طوابق، ثم ثلاث عمارات… لكنهم ما يزالون صامدين.
-4-
عام كامل وهم يناشدون وينادون. خذلهم الصديق والشقيق، ونسيهم القريب قبل الغريب. خذل حمصَ وأبطالَها المحاصَرين أهلُ حمص قبل غيرهم؛ خذلها عشرات الآلاف من شبان المدينة الذين يعيشون في “الوعر” حياة المتبطلين، يروحون ويجيئون ويأكلون ويشربون وينامون هانئين، وإخوانهم تحت النار والحصار وليس بينهم وبينهم إلا النهر والبساتين!
وخذلها تجارها وأغنياؤها ووجهاؤها وعلماؤها، ولو جَدّوا في فك الحصار عنها لوجدوا ألف طريقة يفكون بها عنها الحصار، فإن فك الحصار يحتاج إلى خمسة يملكون منها أربعة: المال والرجال والسلاح والوقت، هذه كلها عندهم منها الكثير، وليس عندهم من الخامسة شيء، وهي الإرادة المخلصة والنية الصادقة. هذه شهادة ألقى بها الله يوم الحساب.
وخذلها المعارضون السياسيون والقادة العسكريون، فحوّلوها من بشر يجوعون ويبردون ويتعبون ويمرضون وينزفون، إلى بطاقة للمساومات والمفاوضات. ونسوها (أو تناسَوها) حتى ليمضي الشهر بعد الشهر ولا تسمع على ألسنتهم لحمص المحاصرة ذكراً ولا ترى لها في أفعالهم أثراً، ولو جَدّوا في فك الحصار عنها لوجدوا ألف طريقة يفكون بها عنها الحصار، وهذه شهادة ألقى بها الله يوم الحساب.
-5-
نعم، إنها شهادة ألقى عليها الله؛ نسي المحاصَرين أهلوهم، ونسيهم أكثر العرب والمسلمين. ولكن الله لا ينسى ولو نسي العباد، فإنهم صدقوا الله فصدقهم، وإنهم وجدوا طريقاً للخروج مئة مرة ورفضوا الخروج، وإنهم أبَوا أن يكونوا ممّن تولى يوم الزحف وأقسموا أن لا تؤتى حمصُ من قِبَلهم، وإنهم ثبتوا وصبروا وفوضوا أمرهم إلى الله، فبعث الله إليهم من جبر وَهْنهم ورتق فَتْقهم وداوى سَقْمهم، من إخوان لهم في الإسلام باعدت بينهم وبينهم الأرضُ وجمعت بينهم وبينهم أُخوّةُ الدين.
لن تُهزَم -بإذن الله- أمة فيها من يرابط رِباط الموت وفيها من يمد اليد من وراء الحدود بغير حساب. فاختر أيها المسلم الثانيةَ إن فاتتك الأولى، أو جهّز الجواب ليوم الحساب، يوم تقف بين يدي الديّان فيسألك الديّان: ماذا صنعت وماذا قدمت لإخوانك المسلمين من أهل حمص المحاصَرين؟