يتهامس السوريون من خلف الجدران وفي غفلة عن مسامع رجال الأمن: “لازم نكون إيد وحدة”، دون أن يكون لذلك الهمس صدى حقيقي في الحياة الحقيقية.
وإن كانت الثورة السورية وحّدتهم حول ضرورة إسقاط النظام بكل رموزه، فإن طول أمد الثورة وانهمار رصاص النظام عليهم من كل حدب وصوب، جعل المهمة الأقرب للمستحيلة هي جمع شمل سوري على كلمة واحدة أو هدف واحد، ماعدا الوصول للحرية، فاتفق الجميع على ضرورة إسقاط النظام السوري، واختلفوا في كل ما عدا ذلك.
وتأتي “الحملة الوطنية الكبرى لإغاثة كافة المدن المحاصرة والمنكوبة” التي أطلقها “أكاد الجبل” عبر صفحته الأكثر شهرة وإدهاشاً على “فيسبوك”، وشخصية “أكاد” المثيرة للجدل تبدو جريئة بامتلاكه شجاعة إطلاق مبادرة لجمع تبرعات لحملة إغاثية كبرى للداخل السوري، وكسب ثقة السوريين على الرغم من غموض شخصيته وتكتمه الشديد على اسمه الحقيقي.
ويعيش السوريون في ظل تخبطات كبيرة، تبدأ بالاتفاق على مهاجمة معارضيهم السياسيين، ولا تنتهي بالاتفاق على حقيقة عدم وصول الكثير من الأموال التي أرسلت لمخيمات اللاجئين السوريين، سواء كانت تلك الأموال من مصدر دولي ومنظمات إغاثة عالمية، أو من مصدر سوري يقوم بإرسال معونات من جميع بلدان العالم إلى الداخل.
والحملة التي أطلقها “أكاد الجبل” أدرجها تحت شعار: “نقرر التبرع أولاً، ونعلن عن تبرعنا ثانياً، ونشجع البقية على التبرع ثالثاً، أما كيفية الدفع ولمن الدفع وآليات الإيصال والعمل على هذا الموضوع فيحتاج إلى جهد الجميع حتى لا نرتكب الأخطاء”.
التبرع علني:
بدأ التبرع بشكل علني عن طريق البوستات على صفحة “أكاد الجبل”، حيث يذكر الشخص اسمه والمبلغ الذي يريد التبرع به، فيما اختلفت بلدان إقامة المتبرعين، حتى يكاد المتابع للتبرعات يظن أنه ما من عملة لم تذكر على تلك الصفحة، وإن أراد المتبرع حجب اسمه فإن “أكاد” يطالبه باسم رمزي على الأقل، وتم اعتبار كل تلك الأسماء التي حددت مبلغاً للتبرع مؤتمنة على ذلك المبلغ ريثما يتم تحديد آليات الدفع والتحويل.
وهدف العلنية هو إزالة أي شكوك ودحض أي اتهامات قد تطال الحملة، على اعتبار أن موضوع التبرع لطالما طالته الشكوك.
وقبل ساعات، أطلقت الحملة اسمها الرسمي “الحملة الوطنية الكبرى لإغاثة كافة المدن المحاصرة والمنكوبة”، وبدأت تأخذ منحى شبه رسمي بوضع استمارة لكل من يريد التبرع.
أذوب خجلاً:
يرسل الكثيرون رسائل مؤثرة، بعضها يعتذر لقلة المبلغ الذي سيتبرع فيه. يقول “ن.ش”: ” ترددت كثيراً قبل أن أتبرع بمبلغ متواضع (٥٠٠ ليرة سورية)، لأنني لا أملك سوى ألف ليرة، وقسمتها نصفين بين أطفالي وأطفال بلدي الجريح، سامحوني أذوب خجلاً”.
ويكاد لا يخلو أي مبلغ من مشاعر سورية صادقة، فكتب أحد المتبرعين: “100 دولار حقاً لا تساوي شيئاً، وكل الدنيا لا تساوي قطرة دم شهيد أو نقطة عرق مجاهد أو زفرة نفس ناشط إغاثي أو إعلامي داخل سوريا الحبيبة”.
الشهداء يتبرعون:
وأثارت بادرة إنسانية لأحد المتبرعين مشاعر السوريين المشاركين في الحملة، حيث كتب رسالة حدد فيها مبالغ نيابة عن 4 شهداء “أسامة وأحمد وإبراهيم وياسر”، ورجاء في آخر الرسالة بعدم ذكر اسم المتبرع، وإن لم يذكر “أكاد” اسم المتبرع فإنه يعرفه بالتأكيد عن طريق صندوق الرسائل في “فيسبوك”.
لم تعلّم الثورة السوريين البحث عن الحرية فحسب، بل خلقت نواة مجتمعات مدنية بدأت تظهر في عدد من المحافظات السورية، وإن كانت تلك التجارب أمراً واقعاً بجهود أبناء المدينة الموجودين داخلها والمغتربين، فإن ما سمي ” الحملة الوطنية الكبرى لإغاثة كافة المدن المحاصرة والمنكوبة” ربما يكون النشاط المدني الأول من نوعه سورياً وعربياً، ففكرته وقوامه خلقت في العالم الافتراضي، ولا تزال النتائج تنتظر الانتقال إلى العالم الحقيقي.