بقلم: عبد الستار قاسم
إلى أين سوريا ذاهبة؟ سؤال طُرح مرارا وتكرارا على مدى الشهور الطويلة الماضية، وتعددت الإجابات تبعا لتعدد المحللين والعارفين والأطياف السياسية. سئلت عن هذا في بداية الأحداث وكانت إجابتي أنها متجهة نحو التغيير السياسي، لكن الإجابة أخذت تتغير مع مرور الوقت وذلك تبعا للتدخل الخارجي في الشؤون السورية.
بدأت الأحداث في سوريا جماهيرية شعبية بدوافع داخلية، لكن الأمور أخذت تنقلب رويدا رويدا حتى أصبح البعد الجماهيري غائبا إلى حد كبير، وحل محله البعد العسكري وما يتبعه من كثافة في التدمير والخراب. تحولت الحركة في سوريا من صراع داخلي إلى صراع قوى عالمية وإقليمية، ولكل صراع مقتضياته.
عبرة من الانتفاضات الفلسطينية:
في النظر إلى انتفاضة عام 1987، حشرت الجماهير الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة إسرائيل في زاوية محرجة جدا أمام الإعلام العالمي، ومعها الدول الغربية التي تدعمها بالأخص الولايات المتحدة الأميركية. تجمّع في الضفة والقطاع أكثر من 1000 إعلامي، وكلهم اجتهدوا في نقل الوقائع على الأرض.
ظهر جنود إسرائيل على الشاشات وهم يلهثون خلف الأطفال في شوارع المدن وأزقتها، وكذلك وهم يعذبون المدنيين العزّل وينتهكون حرمات البيوت ويضربون النساء. لقد كسب الفلسطينيون المنتفضون زخما إعلاميا كبيرا، وأخذ العديد من السياسيين في الدول الغربية يتحدثون عن ضرورة إنهاء الاحتلال.
لكن مشكلة نشأت عندما حولت الفصائل الفلسطينية الانتفاضة الجماهيرية إلى عمل فصائلي يتم باسم المقاومة الفلسطينية. انحسرت الجماهير وعادت إلى بيوتها، وتصدرت المشهد بؤر فصائلية عجزت عن مقارعة الاحتلال بكفاءة، وأفقدت الشعب الفلسطيني الزخم الإعلامي.
كان من الصعب أن يتفوق جيش نظامي على جماهير الناس، لكنه كان من السهل أن يتفوق على بؤر فصائلية، ولم يكن من السهل على الإعلام أن يغيب عن حدث تصنعه جماهير، لكنه غاب عن خبر اعتبره روتينيا وهو الصدام بين الاحتلال وبعض العناصر الفصائلية. وقد تعلمنا من التاريخ أن الجماهير في الغالب أقوى من الجيوش.
الحركة الشعبية السورية:
كان من الممكن تحقيق إنجازات شعبية سورية في مواجهة النظام، لكن كان من الواضح منذ البداية أن هناك من يتلهف إلى الإطاحة بالنظام فعمل على الدخول إلى الحركة الشعبية بهدف إسقاط النظام. بدأت المظاهرات في سوريا جماهيرية، وحصلت على تعاطف شعبي عالمي وعربي، وارتفع منسوب التعاطف مع كل شخص كان يسقط على يد قوات الأمن السورية.
صحيح أن عدد الأشخاص الذين كانوا يسقطون بداية كان يزداد مع الأيام، لكنه بقي ضمن رقمين فقط ودون الثلاثين، لكن أزمة النظام كانت تزداد يوما بعد يوم. وقد توجهت أقلام عديدة إلى الشعب السوري، والدكتور برهان غليون بالذات، تطالب ببقاء الحركة جماهيرية وعدم الالتفات إلى دعوات الدول الغربية والعربية لتدويل الأزمة.
استعمل النظام السلاح، لكن استعمال المعارضة للسلاح شكل الخطر الأكبر على الحركة الشعبية لأن ذلك كان يعني أمرين: تحييد الشارع السوري ودفعه للانكفاء داخل البيوت، وفتح الباب أمام التدخل الخارجي سواء كان عربيا أو غربيا. وهذان الأمران يشكلان مبررا كبيرا أمام النظام لاستخدام الجيش بصورة علنية ومنهجية ومكثفة، وإلا فإن النظام يغامر بوجوده، وقد يغامر أيضا بتماسك سوريا بوصفها دولة لها استقلالها وجيشها المميز عن بقية جيوش الأنظمة العربية.
أدى الخروج عن البعد الجماهيري إلى جدل واسع في الساحتين السورية والعربية وذلك بسبب التدخل الخارجي، بخاصة أن سوريا دولة مواجهة مع إسرائيل حتى ولو لم يحصل صدام منذ عام 1974. أهم ما في الأمر أن قوى استعمارية معادية للأمة العربية هي التي تقود التدخل الخارجي، وتوظف معها قوى عربية استبدادية.
ضربات ضد قوات الأمن السورية:
لا الجيش السوري مهيأ لمواجهة حركة جماهيرية ولا قوات الأمن الداخلي. لم يول النظام قوات الأمن الداخلي أهمية كبيرة لأنه طالما اعتمد على إرهاب الناس من خلال أجهزة المخابرات، ودأب على اتخاذ إجراءات قاسية ضد الذين ينتقدونه بأي شكل كان.
أما الجيش النظامي فليس مبنيا لملاحقة متظاهرين. ولهذا كان من السهل جدا على حاملي السلاح اقتناص قوات الأمن سواء كانت قوات شرطة أو مخابرات أو جيش، فسقطت أعداد كبيرة منها في الأشهر الأولى من عسكرة الحركة الشعبية. قلل النظام من قوة أعدائه، وبالغ في حساب قوته.
أعطى تفوق قوات المعارضة ميدانيا انطباعا لدى الداخل والخارج أن النظام السوري هش ومن السهل إسقاطه. ولهذا تسابق قادة عرب وغربيون وإسرائيليون في تحديد موعد سريع لانهيار النظام، وجعلوا بعد ذلك من أنفسهم مهزلة أمام الرؤى الإستراتيجية. بعضهم أعطى النظام أسبوعين، وبعضهم أسبوعا، وآخرون ما هو أقل من أسبوع.
ثم احتدم الحديث عن مشاريع قرارات في مجلس الأمن، وعن مناطق حظر جوي، وعن دخول قوات أجنبية إلى الأراضي السورية، وتقديم أسلحة خفيفة وثقيلة. كان من المعروف سلفا أن أغلب هذا الحديث لا معنى له، وأن الدول المعنية بإسقاط النظام لا تستطيع إلا تقديم المعلومات وأسلحة ومعدات قتالية تتناسب مع منطق الكرّ والفرّ، وتجهيز مقاتلين وتمويل العمل العسكري.
قوة النظام السوري:
يستمد النظام السوري قوته من عدة عناصر لم تتوفر لدى نظام القذافي أو حسني مبارك وهي:
1- الجيش السوري قوي ومنظم جيدا، وهو جيش عقائدي من حيث تثقيفه القومي، ومن حيث أن قياداته بصورة عامة حزبية بعثية.
2- للنظام سند اجتماعي محدود لكن بتأثير كبير في المجتمع السوري، وهو ما يمده بنوع من الزخم على المستوى الشعبي.
3- طور النظام قدرة في الاعتماد على الذات من الناحية الزراعية، وانتبه إلى ضرورة توفير المواد الغذائية تحت أحلك الظروف.
4- يتمتع النظام بدعم خارجي قوي بخاصة من إيران وحزب الله وروسيا والصين.
لم تنتبه المعارضة منذ البدء إلى أن حلف الأطلسي لا يستطيع المجازفة بمهاجمة سوريا أو إقامة منطقة حظر جوي، وإلى أن فاعلية العقوبات ستكون محدودة. وربما ظنت المعارضة أن أصدقاء النظام سيخضعون أمام أصدقائها فيتهاوى النظام. لم تقدر المعارضة موقف روسيا الصارم على الساحة الدولية، ولم تقدر قوة إيران العسكرية في ليّ ذراع الأطلسي.
ما بين ضعف النظام وقوته:
فتحت الضربات الناجحة التي قامت بها قوى المعارضة المسلحة شهية المعارضة والدول الغربية والعربية وتركيا على تكثيف حمل السلاح واستقطاب مسلحين وتوريد أسلحة.
وأدى سوء تقدير قوة النظام إلى الاندفاع بالمزيد نحو أعمال عسكرية تنقصها المهارة. وكانت نتيجة ذلك التالي:
1- ازدياد الدمار والخراب في سوريا مما دفع أعدادا متزايدة من الناس للتساؤل حول جدوى العمل العسكري. بيوت تدمر وعمارات تنهار ومصالح يلحق بها الضرر، وأناس يفرون من مناطق المعارك. صحيح أن النظام مسؤول عن تردي الوضع إلى هذه الدرجة، لكن المعارضة مسؤولة أيضا، وعندما يخير الإنسان العادي بين الاستمرار في هذا الوضع وبين الهدوء، فإنه في الغالب يختار الهدوء، أي يفضل النظام حتى لو كان قاسيا على الفوضى.
2- ارتفاع مستوى التلاحم الشعبي الذي يردف النظام لأن التدخل الأجنبي أو الخارجي يثير مسألة الانتماء الوطني. من شأن التدخل الخارجي أن يثير عملية التمييز بين كراهية النظام والتمسك بالوطن. هناك من لا يحبون النظام لكنهم يعشقون سوريا ويرفضون التدخل الخارجي الذي بدا صلفا في كثير من الأحيان.
3- قضى التدخل الخارجي على إمكانية انشقاق الجيش السوري، وهو الرهان الوحيد الذي كان من الممكن أخذه بعين الاعتبار لتغيير النظام. ربما لو بقيت الحركة شعبية لانقسم الجيش، لكن التدخل الخارجي جعل من تماسك الجيش قضية وطنية. من الصعب أن ينقسم الجيش السوري أصلا بسبب تربيته القومية والحزبية، لكن التدخل الخارجي جعل مسألة الانشقاق أكثر بعدا. ستبقى هناك انشقاقات محدودة على مستوى الأفراد لكنه ليس من المتوقع أن ترتقي إلى مستوى انشقاق الجيش.
تطور القدرات القتالية لطرفي القتال:
ظهر الجيش السوري في بداية الأحداث هزيلا لأنه جيش نظامي غير معد لمواجهة حركة شعبية أو بؤر قتالية شعبية، لكنه أخذ يتعلم مع الأيام. يبدو الجيش السوري أكثر قدرة الآن على قتال مجموعات مسلحة، وأفضل حالا في جمع المعلومات.
وقد تعززت قدرته بسبب تنامي امتعاض الجمهور من العمل المسلح مما أتاح مزيدا من تعاون الأهالي مع قوات الجيش. هذا فضلا عن المعدات الإلكترونية الحديثة التي أخذ يتلقاها من حلفائه على الساحة الدولية خاصة إيران.
في المقابل، تطورت قدرات المقاتلين بسبب ازدياد أعداد المتطوعين من دول العالم بخاصة الإسلامية منها، وبسبب تطوير أساليب ووسائل تهريب أسلحة ومعدات قتالية متنوعة عبر محطات حيوية تنطلق بالأخص من لبنان وتركيا.
ولهذا يواجه النظام متاعب كثيرة في المواجهات الميدانية، ولا يكاد ينتهي من السيطرة على منطقة معينة حتى يظهر فيها المسلحون من جديد. ويبدو أن تكتيك المقاتلين العسكري قد تطور أيضا بسبب ما يتلقونه من تدريبات في بعض دول الجوار، وبسبب الخبرات الميدانية التي يتميز بها مقاتلو القاعدة.
العامل الإسرائيلي:
إسرائيل تسيء لأي طرف عربي أو إسلامي تعلن أنها تدعمه سواء شفويا أو دبلوماسيا أو سياسيا أو عسكريا، لكنها لا تبقى خارج الصورة، وإنما تقدم ما أمكن.
إسرائيل معنية بسقوط النظام السوري ليس لأن الجولان جبهة مفتوحة، ولكن لأنه ساعد حركات مقاومة ورفض الانسياق إلى طاولة مفاوضات لا تعيد له سيادته على الجولان. بالنسبة لها، هو نظام عربي نشاز أو مشاكس على الرغم من أنه غير محارب، لكن لا يعني ذلك أن إسرائيل ترحب ببديل إسلامي.
إسرائيل ومعها دول غربية بالأخص الولايات المتحدة معنية الآن بدمار سوريا وخرابها حتى لا تستطيع تحدي إسرائيل بغض النظر عن الحكم والحاكم، وذلك بأيد وأموال عربية. كلما زاد الخراب والدمار تقلصت قدرة النظام السوري سواء الحالي أو من يمكن أن يأتي على مواجهة إسرائيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأصبحت سوريا حلقة أضعف في القوى المؤيدة لإيران وحزب الله.
لكن هذا العامل يشكل هاجسا مرعبا بالنسبة للغرب ولإسرائيل نفسها من حيث أنه من الممكن أن تتعرض إسرائيل لهجوم ثلاثي إذا أيقن النظام السوري القائم بحتمية انهياره. عندها ستشتعل المنطقة، وستقع إسرائيل تحت نار حامية تخلط أوراق المنطقة برمتها ولن يعود من السهل التكهن بمصير المنطقة، الأمر الذي لا ترغب فيه دول التحالف الغربي.
إستراتيجيا:
النظام السوري ما زال متماسكا حتى الآن، وهو قادر بصعوبة على مواصلة المواجهة. وإذا شعر النظام بضيق فإنه من الممكن أن يفتح الباب أمام متطوعين عرب ومسلمين، والتصعيد بعد ذلك لضرب إسرائيل بالتعاون مع حزب الله وإيران. يدرك النظام ومن يؤيده أن سوريا تتحول إلى ساحة حرب عالمية الآن بين معسكرين هو طرف في أحدهما، وأن الاستسلام يعني إلحاق هزيمة بالمعسكر الذي ينتمي إليه، ويعني تفوقا للمعسكر الأميركي ومن معه من العرب.
من الناحية الإستراتيجية، يواجه النظام السوري قوى عالمية تملك المال والسلاح والإعلام، لكنه يبقى في وضع إستراتيجي أفضل من أعدائه لأسباب منها:
1- أن جيشه وقواه الأمنية موجودة على الأرض وفي حالة نُزُلية (لوجيستية) مريحة مقارنة بالمسلحين، وهي تملك المعدات القتالية المتطورة والثقيلة والفتاكة.
2- النظام ليس بحاجة للتهريب والتسلل، وهو يتلقى المساعدات عبر موانئه الجوية والبحرية.
3- سوريا وأصدقاؤها يملكون قوة ردع في مواجهة الاعتداءات الخارجية ولا بد أن تدخل في حسبان الدول الغربية وإسرائيل ومنها الأسلحة الكيمياوية والصواريخ المدمرة.
4- النظام واحد، والمعارضة متباينة.
وعليه، أقدر أن النظام السوري سيصمد، وسيترتب على ذلك تحولات جذرية ستصيب بالأخص لبنان والأردن وتركيا.