أيها المسيحيون، يا أهلي.. أنا ابنكم، ولدت بينكم من أبوين مسيحيين، وعرفت نعمة الصليب المقدس. تعمدت مثلكم في كنيسة الرب بالماء والزيت وبركة الروح القدس، وتزوجت فيها ونلت بركتها، ومن المؤكد أنني سأموت مسيحياً، وأجنز تحت بساط رحمتها.
يا أتباع كنيسة المسيح , أينما كنتم وحيثما حللتم وكيفما كانت مرجعياتكم المسيحية بابوية أو أنطاكية أو إنجيلية أو غيرها أناديكم.. أستصرخ ضمائركم وأدعوكم لوقفة شجاعة مع الذات.. أشحذ فيكم فطنتكم المعهودة والمحبة التي ربيتم عليها وأقول : كفى صمتاً، لقد آن أوان الحقيقة. آن الأوان لتنفضوا عن كواهلكم غبار الاستبداد، وتلفظوا عيشه المقيت، وقد أتاحت لنا الثورة الصعود على طريق الحرية، فلا تترددوا معها في الصعود على طريق الحياة، واتركوا نظام الموت والحقد والدمار يمضي وحده بعاره المزمن إلى نهايته المحتومة.
لستم عابرون في أرض آبائكم وأجدادكم. فبلادكم موطن المسيحية الأول, ومنها خرجت إلى العالم كله. ومنذ قرون وقرون لم تتوقف أجراس الكنائس في سورية عن نداء المؤمنين وإضاءة الشموع, ولم تخل الأديرة من حركة الرهبان وتراتيل الراهبات يوماً واحداً. ليس ذلك بفضل شجاعة المسيحيين ومواظبتهم فقط، إنما بفضل حكمة المسلمين وتعاليم دينهم وموجبات قيمهم الأخلاقية والإنسانية أيضاً. ويذكر التاريخ بصفحات من ذهب كيف استقبل أهلنا المسلمون المسيحيين الأرمن في أيام محنتهم قبل قرن من الزمان. فهذا الشرق منبع الديانات السماوية وخزان القيم الإنسانية الذي بنته الحضارات المتعاقبة، وساهم فيه أجدادكم مع الآخرين من أبناء الوطن، وشاركتم في حفظه واستمراره حتى اليوم.
أنتم أصحاب بيت ولستم ضيوفاً على أحد. وليس لأحد أن يعتبركم ضلعاً قاصراً في وطنكم، حتى يدعي حمايتكم حزب مستبد وجائر أو حاكم ظالم وكاذب أو دولة تدعي “حماية الأقليات”. لقد ساهم أجدادكم بفعالية لا ينكرها جاحد في صنع سورية قديماً وحديثاً. هل أذكركم بيوحنا فم الذهب ابن سورية وبطريركها وراعي كنيستها الأولى، أم أذكركم بيوحنا الدمشقي حامل أختام الخلافة الأموية والمؤتمن على أسرارها؟! وهل من حاجة لاستذكار مسيرة الكرسي الأنطاكي الوطنية العظيمة بحيث استحق بطريركها لقب ” بطريرك العرب “. وفي بناء الدولة الوطنية الحديثة، دولة الاستقلال الأولى , هل أعيد على أسماعكم الدروس التي تحفظونها جيداً، دروس فارس الخوري ومخائيل اليان وحبيب كحالة وفؤاد الشايب ورهط المسيحيين الأوائل من رعيل الاستقلال، التي جعلت المسلمين يأتمنون مسيحياً (فارس الخوري) على أوقافهم وينصبونه وزيراً لها؟! أنتم مواطنون مثل بقية المواطنين، لكم ما للجميع وعليكم ما عليهم، فلم التردد والقلق؟! ولم الإحجام عن المشاركة في الشأن العام التي تحدد مصير الوطن والشعب ومستقبلهما معاً؟! كيف ترتضون اليوم أن يقرر أحد عنكم، وأن ترسم مصيركم ومستقبلكم سلطة دموية غاشمة وفاسدة، ولم تكونوا لتفعلوا ذلك من قبل؟! الثورة تناديكم، تفتح ذراعيها لمشاركتكم. وهي التي تصنع المستقبل لكم ولجميع السوريين.
لا تقولوا: تأخرنا. لقد آن الأوان، ولم يفت الوقت بعد.. فشركاؤكم في الوطن ينتظرون دوركم المفقود بلهفة ومحبة. ومكانكم مازال محفوظاً في معركة الحرية الجارية في طول البلاد وعرضها، ومساهمتكم مطلوبة. وليس لأحد أن يقلل من شأنها. فالحرية والكرامة تطلبكم وتسأل عنكم طالما كان أجدادكم من طلابها والمضحين من أجلها. وقضية العدل وحقوق الإنسان تناديكم للوقوف إلى جانبها بثبات وصوت مرتفع، لطالما كنتم من دعاتها والمدافعين عنها. فالمسيحية الحقة ترفض الظلم والاستبداد والقهر, وتناهض التسلط والقتل وهدر الدماء, وهو ما يفعله نظام الطغاة في دمشق بالشعب السوري منذ عام ونصف العام على مرأى ومسمع العالم بأسره. فما الذي يتبقى من مسيحية المسيحي إذا لم يكن مع قضية الحرية ويشارك بفعالية في بناء مستقبل بلده, وهو ما تصنعه الثورة هذه الأيام بتضحيات لا توصف؟!
لا تقولوا: ما الذي يمكن أن نفعله، فكلمة الحق في وجه السلطان الجائر أقل الممكن، لكن الممكن أكثر.
نعرف جميعاً, ويعرف العالم معنا قدرة الترهيب التي يوجهها النظام لكم ولكل فئات الشعب. ونعرف نتائج أعمال التدمير والقتل والتنكيل التي وصلت حد الكفر التي يقوم بها النظام من أجل التخويف واستمرار الصمت ومنع الناس من التعبير الحر والمشاركة اللازمة. لكن أصبح واضحاً أن أطفال درعا كسروا جرة الخوف ولم يبق فيها قطرة واحدة بعد ثمانية عشر شهراً من عمر الثورة.
ينشرون دعايات كاذبة عن مصير المسيحين المجهول بعد سقوط النظام. لكنه ليس مجهولاً كما يشيعون. فهو مصير كل المواطنين السوريين على اختلاف انتماءاتهم, وسوف يكون جميلاً و مفتوحاً على الآمال مثلما كان وضع المسيحين وبقية فئات الشعب السوري بعد الاستقلال وفي أيام الحكم الديمقراطي و الحريات العامة. إن نظام العدل والحرية وسيادة القانون وحده الذي يصون حقوق الناس. وكان المسيحيون في أفضل حالاتهم عندما نعمت بلادنا في مثل هذا النظام, وسيكونون بخير أكثر بعد انتصار الثورة التي تعدنا جميعاً بحياة أفضل.
يثيرون بين صفوفكم خوفاً مفتعلاً من إخوتكم المسلمين (بالحديث عن القاعدة والتطرف والسلفية). بينما التاريخ الوطني الطويل لسورية ينفي ما يدعون. لأن المسلمين أنفسهم لا يقبلون التطرف وستكون البلاد كلها والشعب كله بالمرصاد لأي تطرف أو إرهاب مهما كان مصدره وكائناً من كان مفتعله. المسلم ليس عدواً للمسيحي حتى يتربص به، فالإسلام نفسه كدين ورسالة ومنظومة قيم يمنع ذلك. وما بين المسيحي والمسلم من أخوة في العروبة واشتراك في المصير عصي على التجاهل والتشويه والنسيان. ولنا من تجربتنا التاريخية في سورية, من عيشنا المشترك لقرون طويلة خير مثال ليدحض ادعاءات السلطة التي تريد تأبيد الدولة الأمنية والنظام البوليسي على أعناق السوريين، النظام الذي يقهر المسيحي وغير المسيحي في الوقت نفسه. فمَن قصف الكنائس في حمص هو نفسه من هدم الجوامع في درعا وحلب وديرالزور. والذي قتل حمزة الخطيب هو الذي قتل باسل شحادة.
أيها المسيحيون, يا أخوتي:
النظام ساقط لا محالة وهذا الشكل من الحكم أصبح في مزبلة التاريخ. ولن يكون نظام الموت والفساد الذي يقوده بشار الأسد جزءاً من مستقبل سورية بأي حال. لقد أصبح شيئاً من ماضيها البغيض , وعلى الجميع أن يتقدم في مسار الثورة لاستقبال الحرية المنتظرة, وكسب شرف الإسهام في بناء سورية الجديدة وطناً حراً لكل أبنائها.
ما زال مكانكم شاغراً, لم ولن يحتله أحد بانتظار حضوركم الميمون بقوة الوطنية العالية المعهودة فيكم للمشاركة في أعمال الثورة ونشاطها المتنوع الأشكال. ويبقى أقلها رفض استمرار النظام وتأييد الثورة والمساعدة على انتصارها. إن إغاثة المصابين والمنكوبين ومساعدة الأحرار من أخلاقيات مجتمعنا ومن فضائل الرسالة المسيحية السامية، وهو أمر لازم في أيام النكبة الوطنية الجارية وفي ظروف الثورة.
الثورة لنا جميعاً, وفي انتصارها المنشود حياة جديدة وواعدة لسورية والسوريين فهنيئاً لمن يضع يداً طيبة بيضاء في ركب الثورة الصاعدة إلى النصر. وطوبى لمن يقول : إنني مع شعبي وأبناء وطني في السراء والضراء، هكذا كنت.. هكذا سأبقى، ويفعل ذلك حقاً.
8 / 9 / 2012
جورج صبرة