بقلم: عدنان أبو عامر
حافظت إسرائيل منذ اندلاع الثورة السورية على موقف “النأي بالنفس” وعدم التدخل، الظاهري على الأقل، لكنها في الأيام الأخيرة
أجرت انقلاباً في نظرتها، وبدأت تعلي صوتها بضرورة التدخل لإسقاط النظام السوري، مما يطرح جملة من التساؤلات والأبعاد التي تقف خلف مثل هذا التغير المفاجئ في الموقف.
انقضاء الحاجة للنظام:
ليس سراً أن حاجة إسرائيل للنظام السوري طوال العقود الأربعة الماضية لم تضاهيها حاجتها لأنظمة عربية عديدة، وقعت معها اتفاقيات تسوية، وتبادلت السفراء، ليس بالضرورة لأن حكام دمشق مرتبطون بتل أبيب وفق الصورة النمطية بين أجهزة استخبارات متبادلة، لكن الطرفين أقاما بينهما عقداً غير مكتوب، يقضي بإستراتيجية “البقاء مقابل البقاء”!
بمعنى الرضا الإسرائيلي بـ”بقاء” الأقلية الطائفية تحكم الأغلبية السورية، مقابل “بقاء” الهدوء مخيما على هضبة الجولان، بحيث لا يسمح لطائر أن يغرد في سمائها دون أخذ الإذن من القصر الجمهوري، وقد قرأ الساسة والعسكر في الجانبين هذه الإستراتيجية، وارتضياها لأنفسهما.
صحيح أن دمشق أزعجت تل أبيب كثيراً باحتضانها حركات المقاومة الفلسطينية، ووفرت لها ما لم توفره عاصمة عربية، ومنحت حزب الله أنبوب أوكسجين عزّ نظيره، لكن ذلك لم يكن يضاهي أن تعود جبهة الجولان لتشتعل من جديد، وهو سيناريو يجتهد الإسرائيليون في عدم تخيله، لأنه حينها سيصبح كابوساً لا يطاق!
إذن، ما الذي حصل: هل أن حاجة إسرائيل لدمشق تراجعت، أم أن إستراتيجية البقاء انتهت صلاحيتها، ولا بد من البحث عن إستراتيجية بديلة، أم إن تغييرات إقليمية ودولية باتت تحتم الحاجة لنظام آخر في سوريا، قد لا يكون بذات الحديدية التي التزم بها آل الأسد في حفظ هدوء الجولان، لكنه قد يخدم أغراضاً وترتيبات أخرى يعد لها أرباب القرار في العالم؟
وما الذي دعا حكام إسرائيل لإبداء قدر “غير مسبوق” من الشفقة على الضحايا السوريين، وهم المذبوحون من الوريد إلى الوريد منذ 16 شهراً، وتل أبيب صامتة، كأن على رأسها الطير، وفجأة، وبدون مقدمات، باتت تدعو جهاراً نهاراً إلى تدخل دولي لإسقاط النظام السوري، لا لشيء إلا لوقف نزيف الدم المسفوح!
وفي ظل التشبث الذي يبديه الأسد بالسلطة، تعتقد تل أبيب أن الخطوات العربية والغربية بطرد السفراء السوريين مهمة لكنها غير كافية، لأن الجميع يدرك أن الأسد لن يألو جهداً للاحتفاظ بقبضته على النظام.
وهنا، يمكن متابعة الحراك السياسي الإسرائيلي السائر على “نار هادئة”، في سعي منها لاستكشاف ما لدى العواصم المساندة للنظام السوري من تقديرات وتوقعات، حيث أرسلت رئيس مجلس الأمن القومي يعقوب عميدرور إلى موسكو، لاستشراف الموقف الروسي، وهو ما قام به رئيس هيئة الأركان العامة بيني غانتس في حديثه مع المسؤولين الصينيين خلال زيارته الأخيرة إلى بكين.
رغم ثقة تل أبيب في أن مشاهد الذبح التي تصل من سوريا لن تبعث على إجراء ناجع يضائل تيار الدم السوري، لأن رئيساً أميركياً ضعيفاً مشغولاً بانتخابات داخلية، وأوروبا في تهاو، وتناضل ضد الأزمات الاقتصادية، والقيادتين الروسية والصينية تبحثان عن طرق لتعظيم أرباحهما السياسية والاقتصادية، كل ذلك يُفسد احتمال عمل حازم موجه ضد الأسد.
خسارة إيران:
في زحمة هذه التقديرات، يأتي تغير الموقف الإسرائيلي من الأحداث السورية في ضوء اعتبارات جيوإستراتيجية غاية في الأهمية والخطورة، تتمثل بضرب المحور المعادي لها، البادئ بطهران والمنتهي ببيروت مروراً بدمشق، وهو ما اعتبرته تل أبيب مقدمة أساسية لتوجيه الضربة المفترضة للبرنامج النووي الإيراني.
ويمكن إجمال محددات الموقف الإسرائيلي من الخسارة الفادحة المتوقعة لإيران من سقوط النظام السوري على النحو التالي:
1- ما يجري في سوريا هو إضعاف للمحور الإيراني بالدرجة الأولى، لأن الأولى “حليف وزبون مركزي” للثانية، و”رأس جسر” منحها القدرة على وصول البحر المتوسط، وبينما خدم سقوط مبارك وبن علي طهران، فإن إضعاف الأسد مكسب نقي لتل أبيب.
2- الوضع السوري الحالي يضر بحزب الله حليف سوريا، باعتبار أن الأخيرة قناة السلاح للأول القادم من طهران، براً وبحراً وجواً.
3- الأزمة الراهنة في الوقت الذي ستضعف فيه سوريا، لكنها ستؤدي إلى انعدام الاستقرار الإقليمي، واستعداد حكامها لاتخاذ خطوات بعيدة المدى محتملة تجاه إسرائيل للإبقاء على حكمهم.
ولذلك، فإن القلق الإسرائيلي من تبعات التطورات السورية على الحدود في هضبة الجولان، وعدم معرفة أحد بما سيكون عليه الحال إذا تغير النظام، يقابله قناعة راسخة مفادها بأن انهيار النظام السوري سيوجه ضربة لإيران وحلفائها في المنطقة، لاسيما حزب الله.
مع العلم أن المزاعم الإسرائيلية في جزء منها صحيح، بتوصيف أن جزءاً أصيلاً مما يحصل داخلها هو “حرب إقليمية بالوكالة”، بدعم مباشر يومي على الأرض من إيران والحزب، وهو ما قد تسفر عنه فوضى حقيقية تستمر سنوات.
بعبارة أخرى، ستجد إسرائيل نفسها في آن واحد “رابحة وخاسرة”، وهو ما دعا محافل سياسية مطلعة في تل أبيب للضغط على واشنطن باستغلال الأزمة السورية لتغيير التوازن، بإخراج دمشق من حلفها مع الحزب وإيران، وتقديم عرض للأسد لا يمكن أن يرفضه، عبر دعم سياسي واقتصادي يعيد الاستقرار لنظامه.
أكثر من ذلك، ترى إسرائيل أن وصول الثورة في سوريا إلى نهاياتها المفترضة، سواء بسقوط النظام أو عقد صفقة غربية معه، مستبعدة حالياً، فإنه سيوجه ضربة لإيران على الصعيد الإستراتيجي، مما سيمثّل تطوراً إيجابياً، ليس فقط بالنسبة لإسرائيل، بل للأردن ودول أخرى عربية موالية للغرب.
بل إن ذلك سيعتبر بمثابة إشارة للشعب الإيراني إلى أنه يستطيع فعلاً القيام ضد نظامه وإسقاطه، مما يجعل طهران قلقة جداً من سقوط حاكم دمشق.
ما بعد سقوط الأسد:
ما زالت دوائر صنع القرار، ومراكز البحث والدراسات الإسرائيلية، منشغلة على مدار الساعة بإعداد سيناريوهات وتقديرات موقف لما بات يسمى “اليوم التالي لسقوط الأسد”، بعد أن كان الموقف السائد لدى أجهزة الاستخبارات بصموده طويلاً في مواجهة الثورة القائمة ضده.
لكن السؤال المفصلي الذي بات الإسرائيليون يبحثون له عن إجابة شافية، ليس هل سيسقط أم لا؟ بل متى سيسقط الأسد؟ وما هي السيناريوهات التي بانتظارنا؟ وكيف سيتعاملون مع حكام سوريا الجدد؟
وهذا يوصلنا إلى وضع جملة من التقديرات، والتفضيلات، والسيناريوهات، تطرحها إسرائيل لمثل ذلك اليوم، المتمثل بسقوط الأسد، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- السيناريو الأفضل هو بقاء الوضع على ما هو عليه الآن أطول فترة ممكنة، لأنه في حال سقوط النظام، وصعود الإسلاميين إلى الحكم، فمن الواضح ماذا سيكون تأثيره السلبي على إسرائيل.
2- تعتبر إسرائيل أن عدداً من العوامل القوية تهيئ المسرح السوري لاضطرابات ستستمر فترة طويلة، مع تزايد وحشية الدولة ووكلائها، وتحسن تنظيم وتسليح المعارضة، والهجمات الانتحارية التي تشنها جماعات مسلحة، وتزايد اهتمام دول مجاورة بتسليح الأطراف المختلفة، دون وضوح ما إذا كان ذلك سيترجم إلى صراع عسكري تقليدي بين أطراف متنافسة، تسيطر على مناطق مختلفة، أم إلى شكل من أشكال التمرد المكثف.
3- ازدياد الوضع في سوريا خطورة، واستمرار القتل لأشهر طويلة، إلا إذا حصل اغتيال للأسد وشخصيات أخرى، مع أن التقدير يستبعد اضطراره للتنازل عن الحكم بصورة أو بأخرى.
4- رغم تغير الموقف الإسرائيلي من تطور الأحداث السورية، لكنها في الوقت ذاته تتخوف من تبعات ونتائج التدخل العسكري الدولي، أو المبادرة لحملة عسكرية لإسقاط الأسد، لأن التجربة المريرة للأميركيين والغرب في العراق، حين نصبوا قادة المعارضة المنفية إلى مناصب أساسية في بغداد، وفككوا الجيش وأجهزة الأمن، علمتهم درساً هاماً في تحضير مؤسسة الحكم السورية لليوم التالي بعد بشار.
إلى جانب ذلك، فإن دمشق في أيامها وأشهرها القادمة مقدمة بنظر تل أبيب على عدّة سيناريوهات محتملة، أثرت جميعها في تغيير الموقف من تطور الثورة هناك، ومن بينها:
أ- الحفاظ على الدولة بقيادة أخرى: بحيث يقوم مسؤول بمستوى رئيس الأركان، أو رئيس المخابرات، بـ”إلقاء عظمة سمينة” للجمهور، باعتقال عائلة الأسد، ومحاكمتها، للحصول على الهدوء، ويعلن عن تغييرات في الدستور، إصلاحات اقتصادية، وانتخابات.
ب- انشقاق الحكم: إذا ما نشبت خلافات في أذرع الأمن، بحيث يغير بعضها ولاءه من الحكم إلى الشارع، كما حصل في ليبيا واليمن، لتبدأ حرب شاملة بين القسم المؤيد للثوار، وذاك الموالي للحكم، أما إذا تكرر السيناريو اليمني، فسيشعر الجيش بالشلل لوقوف جزء منه ضد جزئه الآخر.
ت- سيناريو بطعم سوري يمكن أن يؤدي لتقسيم الدولة إلى قسمين، يعكسان الانقسام الجغرافي للقوة، ويحتمل رؤية حرب بين الطرفين كالتي اندلعت في ليبيا، مما سيخلق عدم استقرار، لأن كل جزء سيواصل وقوعه تحت سيطرة نخبة عسكرية، والمشاكل الأساسية لسوريا لن تحل، بل ستتفاقم، وستدعم إيران الحكم، في حين سيدعم الغرب الثوار.
ث- انهيار الدولة: إذا خسرت المجموعة العلوية السيطرة على الحكم، فمن المتوقع أن يبسط السنة سيطرتهم على أجزاء واسعة من البلاد، ويعلن أكراد الشمال عن دولة، كإخوانهم في العراق، ويستعيد دروز الجنوب الحكم الذاتي، وبدو الشرق سيقيمون كياناً مستقلاً، ويستغل الحلبيون الفرصة لينفضوا عن أنفسهم إلى الأبد سيطرة الدمشقيين، لتقوم على خرائب سوريا ست دول.
ج- تسخين الحدود مع إسرائيل: وهي ممارسة عادية في كل مرة يقف فيها الحكم السوري أمام مشاكل داخلية، ليخلق وضعاً يسمح له بالقول للجماهير الغاضبة: “الصهاينة يتصدون للقضاء علينا، ولهذا عليكم أن تدعوا كل الخلافات، وتتحدوا تحت علم الرئيس المنقذ”.
الخلاصة، إن قراءة في تقدير تغير الموقف الإسرائيلي من الأحداث السورية، يمكن استنباطها بالوصف الإسرائيلي للحدود السورية بـ”غير الهادئة”، مما يستوجب استعداد الجيش، الذي يراقب عن كثب تطورات الأحداث، خشية نقل أسلحة متطورة أو غير تقليدية من الأراضي السورية أو إليها.
ولهذا تعتبر تل أبيب أي تطور يحصل في دمشق خسارة لها، لأن سقوط الأسد سينشئ حالة من عدم الاستقرار، رغم أنه سيحدث شرخاً في المحور المعادي، وإن بقي سيكون ضعيفاً، وهو ما يعني نشاطاً مسلحاً على طول الحدود معها.