بقلم: محمود الزعبي
إن استقرار أي مجتمع يرتبط إلى حد كبير بما يحمل من مقومات الحياة الآمنة المزدهرة اقتصاديا واجتماعيا.. وهما مرتبطان إلى حد كبير بسياسة الدولة التي تقود هذا المجتمع الإنساني أو ذاك، وما توفره لها من سبل العيش الكريم. والكفاية في سدّ مستلزمات الحياة، وأسسها وقواعدها، لكفالة الحد الأدنى المطلوب لحياة آمنة، بعيدة عن شبح الفقر، وآفة الإملاق، وهو من أكبر وأهم واجبات الدولة صاحبة الشأن، وما تضعه من خطط وبرامج، وإعداد وتوجيه، وأجهزة إدارية ورقابية.. ومؤسسات ودوائر تنفيذية وتشريعية مركزية وفرعية، وما يخطط لها من قوانين وأنظمة وتشريعات، ينبغي أن تكون صائنة وحافظة وصحيحة التوجه والإعداد والإنشاء.
إن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في سوريا بعد ثلاثة عشر شهرا,على انطلاق الثورة يوجب الحاجة للتنبه إلى خطر الإفقار الشامل والضرورة الوطنية والإنسانية الملحة، بحيث ينبغي لكل الخيّرين والأحرار والوطنيين المدركين من مختلف الانتماءات والشرائح والتكوينات الاجتماعية والسياسية أن تتشارك وتتعاضد في تشخيص الحالة العامة، ومخاطر الانزلاق إلى حالة مزرية باتت على الأبواب، بحيث تمسّ الكيان الاجتماعي العام، وتضعه أمام خطر فقد التوازن، والذي بات ملحوظا في تلبية الحد المطلوب من الضرورات الحياتية مسكنا وملبسا وغذاء وحاجات أمست من ضرورات حفظ النوع، والكفاية الأساسية للبقاء، وصيانة ماء الوجه دون التماس السبل المنحرفة والأخطاء في تناول المحظورات، والتجاوز على حقوق الآخرين,
وبدون أي أسباب موضوعية بل بسبب الإهدار للمال العام والتفريط بمخزون إحتياطي الذهب والقطع الأجنبي لدى البنك المركزي وسوء إدارة النظام للسياسة المالية وعدم وجود رؤية استراتيجية واضحة, وتفشي ظاهرة التطاول والإثراء الفاحش, في فساد إداري ومالي، تحصر المال والمكاسب والغنائم المنهوبة في أيدي فئة قليلة، تزداد تخمة وثراء على حساب الوارد الوطني العام، والناتج الإجمالي، وضعف وترهل الاقتصاد، وإصابته بكل أشكال الترهل والانكفاء والتراجع في الأداء المطلوب، بما يؤثر تأثيرا بالغا على القيمة الشرائية، وتدني العملة الوطنية، وارتفاع مذهل لأسعار المواد الغذائية، ورفع أسعار الوقود الأساسي المستخدم في الزراعة والتصنيع والتحويل والتسويق والشحن، وسائر مرافق الحياة ستؤدي بشكل مؤكد إلى زيادة معدل التضخم وهو من الأمراض الاقتصادية التي تواجه الدول في أوقات الأزمات من خلال تحقيق الفصل والتباعد الكائن مابين( الكتلة النقدية السورية) و(القيمة الحقيقية للسلع والخدمات المنتجة) خلال دورة اقتصادية معينة, وبهذا المعنى يقول أحد الاقتصاديين الفرنسيين ان التضخم هو بمثابة ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء، ويؤثر التضخم أيضا سلبا على إعادة توزيع الدخل وتفقد الثروة قيمتها وتتأثر العلاقة بين الدائنين والمدينين ويستفيد المقترضن أكثر من المقرضين وبالتالي يتأثر سلبا معدل النمو والكفاءة الاقتصادية ويرتفع المستوى العام للأسعار…الخ، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن ليس كل ارتفاع في السعر هو تضخما لأنه في حالة زيادة الدخل بمعدل أكبر من معدل زيادة السعر فلا يحصل التضخم حتى ولو ارتفعت الأسعار، واعتمادا على ذلك فإن اجتياح التضخم لاقتصاد ما يؤدي إلى انهيار عملته الوطنية وبما يتناسب مع معدل التضخم وتنخفض القوة الشرائية للعملة الوطنية ويتراجع سعر صرفها مقابل العملات الأخرى ويسيطر فقدان الثقة بها تدريجيا وتزداد الآثار السلبية للتضخم كلما تأخرنا في معالجته، حيث تتكون المسيرة التضخمية من عدة مراحل ومستويات وكل منها وحسب التتابع تمهدّ للأخرى من خلال امتلاكها قوة دافعة ذاتية تحركها نحوا لأعلى وكلما تركت دون معالجة زادت صعوبة توقيفها، ويوجد أنواع مختلفة من التضخم لكن بشكل عام يمكن أن نصنفها في /3/ مستويات أساسية وهي :
التضخم المنخفض : وهو الارتفاع التدريجي للأسعار ولكن بشكل بطيء، ومن خصائصه أنه يمكن للاقتصاديين التنبؤ به، ويكون في هذه الحالة معدل التضخم رقما أحاديا أي أقل من 9%، وأغلب دول العالم تشهد هذه الظاهرة أحيانا ولكن لاسباب مؤثرة عالمية وهذا يمهدّ الطريق للتضخم المرتفع.
التضخم المرتفع : وهو ما بدأنا نلمسه حاليا في سورية ويترافق مع معدلات تضخمية مرتفعة تتراوح بين 10% و800%، كما حصل في دول أمريكا اللاتينية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي حيث تراوحت معدلاته بين (50% و700%)، وأثر هذا على الحركة الاقتصادية والتجارية وأصبحت العقود تنظم بالعملات الأجنبية وفقدت العملات الوطنية قيمتها وشهدت موجات كبيرة من هروب الرساميل اللاتينية إلى الخارج وتراجعت حركة الإقراض والاقتراض والحركة الإنتاجية بسبب التوجه نحو الاكتناز في العقارات والموجودات الثابتة الشخصية، وتكون معالجة هذا التضخم أصعب من معالجة التضخم المنخفض ويمهد الطريق للتضخم الجامح أيضا.
التضخم الجامح : وترتفع هنا الأسعار بشكل كبير جدا ودون أي قيد ويصبح وزن سلة من النقود أقل من وزن مايعادلها من الخضار والفواكه وتفقد النقود قيمتها وتصبح أرخص سلعة، ويؤكدّ التاريخ الاقتصادي أن هذا النوع من التضخم ظهر لأول مرة في ألمانيا, وكان نتيجته أن ارتفعت الأسعار بين عامي 1922 و1923 إلى أرقام فلكية ويقال وحسب الاقتصادي الأمريكي ( سام ويلسون الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وفي كتابه علم الاقتصاد صفحة 707 الصادر في لبنان عن دار الناشرون لعام 2006) ويؤكدّ بأن (الشخص الذي كان يمتلك مبلغ /300/ مليون مارك من السندات الألمانية في أوائل عام 1922 لم يعد في إمكانه شراء قطعة من الحلوى بهذا المبلغ الضخم بعد عامين فقط)؟!!، وبدأ المستهلكون يسعون لصرف نقودهم قبل أن تفقد قيمتها بالكامل
فهل في هذا عبرة لراسمي السياسات الاقتصادية أيا كان موقعها، وقناعتنا أن ضبط إيقاع السياسة النقدية مع المالية والإنتاجية يساهم في السيطرة على هذا المرض الخبيث ومعالجته قبل أن يستفحل في شرايين الاقتصاد الوطني لقد بات الأمر من الضرورة الملحة بمكان لا يسعنا إلا أن ننبه إلى أهميته وجديّته وجدواه بانتظار أن نتهيأ جميعا للتصدي لأكبر المهام وأكثرها مسؤولية أمام قدر المواطن وكرامته وحاجته الملحة والأساسية لنعصمه من كارثة اقتصادية حقيقية، تستدعي جهدا وطنيا متكاملا، وإدراكا حقيقيا للمسؤولية التاريخية أمام طموح الإنسان السوري، وأمانيه في حياة حرة كريمة.