بقلم: حازم نهار
تحاول الدراسة التالية ملامسة المسائل المتعلقة بالخطاب السياسي والإعلامي، إلى جانب الأداء والإنجاز السياسيين، للمعارضة السورية كما ظهرت وتبلورت خلال الفترة الماضية بدءاً من 15 آذار لحظة انطلاقة الثورة السورية، وذلك بهدف تجاوز الثغرات والعيوب التي اكتنفت الخطاب والأداء معاً، ومحاولة رسم مخارج وحلول تمكن القوى السياسية من الارتقاء بالخطاب والأداء إلى المستوى الذي تستحقه هذه الثورة العظيمة.
يظهر خلال هذه الدراسة روح شخصية في بعض المحطات، وهذا طبيعي بحكم أنني كنت مشاركاً أو مشاهداً فيها، لكنني بالمقابل أتفهم بكل رحابة صدر التباينات والاختلافات في هذا الحيز وتعدد زوايا الرؤية للمواقف والمحطات التي مررنا بها جميعاً، أملاً في تلافي الثغرات والقصور وإبداع أنماط وأشكال جديدة تليق بثورتنا العظيمة.
أولاً: مقدمة
الخيار بين الصمت والكلام:
ليس من السهولة بمكان الاختيار في هذه الفترة ما بين الصمت والكلام فيما يخص شؤون المعارضة وشجونها في سورية، خاصة مع وجود حساسية عالية بين قواها وتياراتها السياسية في هذه الفترة، فإذا انتقد المرء موقفاً أو سلوكاً ما يخرج عليه ألف معترض ليقول: “ليس الآن، المطلوب الآن حشد الصفوف لإسقاط النظام”، وإذا سكت يخرج عليه أيضاً ألف معترض ليقول: “أنتم بصمتكم مشاركون في كل شيء، ولولا صمتكم لما حدث ما حدث”.
على العموم، أشعر أن اللحظة السياسية الحالية مناسبة نوعاً ما لحديث عميق وجدي ومسؤول بعد أن كانت الفترة الماضية مليئة بالشحن والتشنج لدرجة تمنع الجميع من الاستماع لبعضهم وفتح حوارات حقيقية حول ما يجري.
أعتقد أن الكتابة فعل مسؤول، ويشترط وجود مبدئين متلازمين هما المعرفة والأخلاق، وهذان المبدآن يخلقان روحاً هادئة لا عدائية لدى المرء في التعامل مع الخلاف، وحسابات معقدة ودقيقة في مقاربة كل ما يحدث. أقول ذلك لأني لمست في أحايين كثيرة لا مسؤولية طاغية في الكتابة، خاصة في ميدان الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث الجميع هاجسه الأساسي تقييم الجميع وحسب، وليس نقاش القضايا والأفكار المطروحة أو إنتاج أفكار جديدة.
مشاركتي هنا في تناول شؤون الثورة والمعارضة هي محاولة للتنبيه والتحذير وأخذ الحيطة، أو للتذكير بأن الثورة عملية مركبة من البناء والهدم معاً، ففي سياق الهدم نحتاج إلى عملية بناء موازية، ولا يمكن بداهة البناء بأدوات التشبيح ذاتها التي نحاربها….وهو أيضاً إشارة إلى أن التشبيح ثقافة عاشت داخل السلطة تماماً كما عاشت خارجها في المعارضة والمجتمع، ومن يتابع القنوات الفضائية وصفحات الفيسبوك يجد آثار ومرتكزات هذه الثقافة واضحة. وقد يقول قائل إن اللحظة الحالية غير مناسبة لفتح نقاش أو نقد بهذا الخصوص وأنه ينبغي التركيز على الهدف الأساسي والانتهاء من مشكلتنا الكبرى، هنا أقول: نعم ينبغي التركيز على الهدف الأول وألا نضيع البوصلة، لكن أيضاً: من جهة أولى لا مشكلة في النقد طالما جاء من وحي الحرص على الثورة والوطن، وليس من وحي التشبيح والحرص على ذواتنا المتورمة، وطالما كان في حدود الاحترام والأخلاق والإحساس بمسؤولية الكلمة، ومن جهة ثانية لا أدري حقاً إن كان هناك مركبة بإمكانها السير دون أن ترمي خارجها كل ما يعيق حركتها السوية ويشوِّهها، لكن بصبر وحكمة.
هاجس الأسماء والأشخاص:
في كل مرة أتناول فيها فكرة أو موضوعاً للنقاش، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحافة الورقية، تتكرر طرائق في التعليق على ما أكتب يمكن حصرها بما يلي، وأعتقد أن الأمر ذاته يحدث مع كثيرين غيري:
1- الجو العام مغرم بتحديد الأسماء المقصودة بكل فكرة مكتوبة، وهنا أقول إنني أعرض أفكاراً للنقاش والحوار، ولا أعرض أسماء للتشريح…شخصياً لا تهمني الأسماء، إنما الأفكار هي غايتي، وهذه الآلية في التعاطي من قبلي لا يمكن وصفها بعدم الوضوح…المهم وضوح الأفكار…وعرض الأسماء المقصودة لا يخدم إلا التشويش والمهاترات والتشهير، فضلاً عن كونه لا يلتزم بأخلاقيات الكتابة.
2- جزء من الردود التي تصلني لا تتعلق بالفكرة التي كتبتها، أو أحياناً تنم عن قراءة غير دقيقة لما أكتب وتحمِّل النص المكتوب ما لا يحتمل، أو تعبر عن هواجس شخصية سريعة خطرت لدى أحدهم ولا علاقة لها بالفكرة المكتوبة أو المقصودة.
3- بعض الردود تأتي حاملة لشحنة شخصية انفعالية أو حتى عدائية، وأحياناً استعراضية، وهذه مأساة حقيقية تعبر عن شقاء الوعي وبؤسه.
بناء الوعي استناداً للشائعات:
من الأمور التي أضرَّت في الأشهر الفائتة ولا تزال تضرنا اليوم بناء وعينا وقناعاتنا ومواقفنا استناداً للشائعات والكلام المنقول وقراءة نصف الكلام، فهذه الطرائق في التعاطي مع الأمور لا تزيدنا إلا تشويشاً وتشكيكاً من جهة، وتقلِّل من وضع طاقاتنا في اتجاه خدمة الهدف الواحد من جهة ثانية. باعتقادي يمكن الوصول للحقائق إما بالذهاب نحو النبع كبديل للكلام المنقول والشائعات أو بالتحليل الموضوعي الهادئ لكل ما نسمع ونقرأ ونرى.
ثانياً: واقع المعارضة السورية… ومعنى وحدة المعارضة:
واقع تنظيمي بائس للقوى السياسية المعارضة بعد عهود من القمع:
إن واقع الأحزاب والقوى السياسية في سورية هو واقع بائس، سواء تلك الموجودة اليوم في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق الوطنية أو خارجهما. يكفي أن نعلم أن معظم الأحزاب التقليدية (حزب العمل، حركة الاشتراكيين العرب، حزب الشعب/ المكتب السياسي سابقاً، حزب العمال الثوري العربي) لا يزيد عدد أعضاء كل منها عن 100 عضو اليوم، والحزب الوحيد الذي يمتلك قاعدة “جماهيرية” مقبولة نسبياً هو حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذي يقترب عدد أعضائه من الألفي عضو. أما الحركات السياسية الجديدة التي تشكلت مع الثورة، وإن كان عدد أعضائها يتراوح ما بين 100-300 فإنها حركات لا يبدو عليها التماسك والقابلية للاستمرار. أما حركة الإخوان المسلمين فهي لا تمتلك رصيداً تنظيمياً داخل سورية، حتى أنني خلال 23 سنة من العمل السياسي لم ألتق داخل سورية بمن قدَّم نفسه لي على أنه ينتمي لحركة الإخوان، وقد يكون هذا مفهوماً بسبب القمع والحظر المفروض عليهم، لكنني لم أجد تعاطفاً مع الحركة في الحد الأدنى في معظم المدن السورية إلا ما ندر. أما بالنسبة للأحزاب الكردية الموجودة داخل هيئة التنسيق أو إعلان دمشق، أو تلك التي تآلفت ككتلة واحدة ودخلت المجلس الوطني فليس لدي اطلاع دقيق على وضعها التنظيمي، لكن ما ألمسه هو وجود افتراق بين هذه الأحزاب والأكراد في سورية، كما إنها تكاد تكون في معظمها تشكلت للتعاطي مع المشكلة الكردية في سورية وحسب. إعلان دمشق الذي هو ائتلاف سياسي وإحدى القوى المشكلة للمجلس الوطني لم يبق منه صراحة سوى حزب واحد هو حزب الشعب إلى جانب عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة، خاصة بعد دخول الأحزاب الكردية الموجودة داخل إعلان دمشق إلى المجلس الوطني ككتلة واحدة باسم الكتلة الكردية، وينطبق الأمر ذاته على المنظمة الآثورية الديمقراطية. أما القوى السياسية في هيئة التنسيق الوطنية فإنه بالإمكان القول أن بعض أحزابها السياسية لم يبق منها إلا اسمها وعدد من الأفراد الذين يرفعون يافطة الحزب.
التكتلات السياسية لحظة الثورة:
في اللحظة التي بدأت فيها الثورة، كان هناك في سورية عدد من الكتل السياسية المعارضة، وكل واحدة منها تضم عدداً من الأحزاب السياسية، وكان بعض هذه الأحزاب موجوداً في أكثر من كتلة سياسية:
التجمع الوطني الديمقراطي: وهو تحالف سياسي يمثل المعارضة السياسية المعروفة في سورية، وقد تأسس في عام 1979 في فترة الصدام بين النظام السوري وحركة الإخوان المسلمين. ويضم التجمع الأحزاب التالية: الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، حزب العمال الثوري العربي، حزب الشعب الديمقراطي (كان سابقاً باسم الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي)، حركة الاشتراكيين العرب، حزب العمل الشيوعي (انضم للتجمع الوطني الديمقراطي مؤخراً في العام 2008)، حزب البعث الديمقراطي (لم يحضر أي ممثل لهذا الحزب لقاءات قيادة التجمع منذ 20 سنة على الأقل). وللتجمع الوطني الديمقراطي قيادة مؤلفة من 10 أعضاء بمعدل عضوين عن كل حزب سياسي.
إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي: تأسس بتاريخ 16/10/2005 بمبادرة من لجان إحياء المجتمع المدني والتجمع الوطني الديمقراطي، وكان أوسع تحالف سياسي في ذلك الوقت، وقد ضم القوى التالية:
أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي الخمسة السابقة الذكر، لجان إحياء المجتمع المدني، حركة الإخوان المسلمين، حزب العمل الشيوعي (حيث كان في ذلك الوقت خارج التجمع الوطني الديمقراطي)، أحزاب كردية (الحزب الديمقراطي الكردي في سورية (البارتي) (عبد الحكيم بشار)، حزب الوحدة الديمقراطي الكردي، الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، حزب آزادي الكردي، الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي..)، المنظمة الآثورية الديمقراطية، شخصيات مستقلة داخل وخارج سورية.
بعد مرور عام تقريباً انضم الإخوان المسلمون لجبهة الخلاص مع عبد الحليم خدام، وفي عام 2008 أوقفوا معارضتهم للنظام السوري خلال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة، وكان موقفاً مستهجناً، خاصة أنه تم دون التشاور مع حلفائهم في إعلان دمشق. وفي أواخر 2007 انعقد المؤتمر الأول لإعلان دمشق وكان نتيجته خروج حزبي الاتحاد الاشتراكي العربي وحزب العمل وعدد من الشخصيات المستقلة منه، خاصة المنتمية للجان إحياء المجتمع المدني. وهذا يعني اقتصار إعلان دمشق حتى فترة بداية الثورة على الأحزاب التالية: حزب الشعب الديمقراطي (كان سابقاً باسم الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي)، حزب العمال الثوري العربي، حركة الاشتراكيين العرب، وكتلة الأحزاب الكردية، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، وعدد من الشخصيات.
لقد جرت محاولات عديدة منذ عام 2008 وحتى بداية عام 2011 لإعادة الأمور إلى مجاريها في إعلان دمشق، لكن هذه المحاولات (ومنها محاولة قمت بها شخصياً) باءت بالفشل، والجميع اشترك في مأساة الفشل بدرجة أو أخرى، لذا سارت الأوضاع في إعلان دمشق إلى الترهل، خاصة مع اعتقال عشرة من كوادره في كانون الثاني 2008.
تم الإعلان خلال هذه الفترة عن تأسيس تجمع اليسار الماركسي (تيم)، من مجموعة من الأحزاب اليسارية والشيوعية الصغيرة والقليلة الحضور، وهي: حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي (مجموعة خرجت من حزب الشعب)، تجمع الماركسيين الديمقراطي، هيئة الشيوعيين السوريين، حزب اليسار الكردي.
مع بداية الثورة إذاً كنا أمام الكتل السياسية التالية: التجمع الوطني الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، تجمع اليسار الماركسي (تيم)، مجموعة من الأحزاب الكردية خارج إعلان دمشق، الإخوان المسلمون (خارج سورية).
معنى وحدة المعارضة.. والمبادرات المقدَّمة:
بالتأكيد ليس المقصود من وحدة المعارضة السعي نحو إيجاد شكل تنظيمي واحد ونهج واحد وبرنامج سياسي واحد، بل إن هذه الوحدة تعني التوافق على مبادئ وأساسيات عامة، وتوفير إطار تنظيمي يسمح بالحركة الحرة لأطرافها والمحافظة على برامجها الخاصة وهياكلها التنظيمية. الوحدة بهذا المعنى تسمح بتوزيع الأدوار والتكامل بينها، خاصة في هذه المرحلة، لصالح تحقيق الأهداف الأساسية.
هذا يعني أن كل العقليات التي تنطلق من اعتبار نفسها ممثلة لمعارضة الداخل أو تلك التي تتعامل على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري هي عقليات مدمِّرة ولا تنتج إلا الخراب، لأنها شكل من أشكال الاستبعاد والإقصاء التي هي جوهر النظام السياسي في سورية.
في ضوء هذا الفهم قمت شخصياً في تاريخ 25 آذار بطرح مبادرة لإيجاد شكل من أشكال التوافق على رؤية سياسية وإيجاد إطار تنظيمي لجمع الكتل السياسية الموجودة، وكان ذلك ضمن القيادة المركزية للتجمع الوطني الديمقراطي باعتباري عضواً فيها عن حزب العمال الثوري العربي (الذي هو عضو أيضاً في إعلان دمشق)، وكان هناك حماس كبير لهذه الفكرة.
ولمعرفتي بالمعارضة السورية وأمراضها، رأيت أن المبادرة إن خرجت من التجمع الوطني الديمقراطي ستجد من يعرقلها، وإن خرجت من إعلان دمشق ستجد من يقف في وجهها، ولذلك كان التوجه الأمثل هو قيام مجموعة من الشخصيات المستقلة بتبني المبادرة وإنضاجها والعمل على تحقيقها، واستقر الرأي على الشخصيات التالية: برهان غليون، ميشيل كيلو، حسين العودات، عارف دليلة، حبيب عيسى، عبد العزيز الخير، حازم نهار.
وُجِّهت الدعوة إلى جميع القوى والتكتلات السياسية، بالإضافة للتواصل مع عدد من الشخصيات المستقلة داخل سورية (حوالي 80 شخصية)، وكذلك شخصيات خارج سورية (حوالي 15 شخصية)، وفي الدعوة تم الاستناد لعدد من النقاط وهي: ضرورة وجود بوصلة سياسية للحراك الشعبي، وعدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات أطراف المعارضة، والتخفيف من التصريحات الإعلامية الذاتية والتصرفات الفردية غير المسؤولة باسم المعارضة السورية، خاصة تلك التي تتجه نحو بناء علاقات غير مدروسة مع دول العالم باسم المعارضة السورية. واكتسب هذا العمل المزيد من الأهمية في ظل حالة إسهال المبادرات والمؤتمرات من قبل السوريين في الخارج بما تسببت به من تشويش.
تم الاتصال وتوجيه الدعوة للأطراف التالية، على قاعدة عدم استثناء أي طرف، شريطة انضوائه في صف المعارضة: التجمع الوطني الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، تجمع اليسار الماركسي (تيم)، الحركة الوطنية الكردية (التي تأسست في ذلك الوقت وضمت 12 حزباً كردياً من ضمنها الأحزاب الكردية داخل إعلان دمشق)، شخصيات خارج سورية من الإخوان المسلمين، شخصيات مستقلة داخل وخارج سورية.
أثمرت هذه الجهود التي استمرت 3 أشهر من العمل والحوار المتواصل عن تشكيل “هيئة التنسيق الوطنية” في 30 حزيران التي ضمت طيفاً واسعاً من القوى السياسية، إلا أنها لم تضم جميع أطراف المعارضة، إذ اعتذر إعلان دمشق عن المشاركة آنذاك.
كانت العرقلة داخل سورية من قبل عدد من الشخصيات في إعلان دمشق، وكانت الأسباب المعلنة هي أن الظرف الحالي لا يتوافر على توازن قوى مقبول إزاء النظام (أي يجب الانتظار حتى يتعرض النظام للاهتزاز) وأن مثل هذه المبادرة من قبل المعارضة قد تشكل طوق نجاة للنظام أو محاولة لإنقاذه.
لا أدري هنا حقاً من الذي كان يسعى موضوعياً لإنقاذ النظام؟ هل من سعى إلى هذه البوصلة المشتركة للمعارضة بكل طاقته أم من رفض وعطل أي محاولة لتوحيد الرؤية تحت حجج وذرائع واهية..؟
السبب الأرجح في اعتقادي هو عدم ثقتهم بعدد من الأشخاص أو القوى المشاركة في الذهاب نحو تشكيل هيئة التنسيق الموعودة، أو بسبب علاقات شخصية وتاريخ طويل مبني على عدم الثقة بين عدد من شخصيات المعارضة. السؤال هنا كان ولا يزال هو: هل كان أحدٌ ما يتوقع اختفاء هؤلاء الأشخاص أو إلغاءهم؟؟ ها هم اليوم موجودون ويظهرون على الإعلام ويبنون علاقات مع الدول الإقليمية والدولية والجامعة العربية، وظهر للعلن، للأسف، ما كنت أخاف منه في لحظة معينة وهو وجود أصوات مختلفة ومتعادية في المعارضة بما يعطي للموالين والمعارضين للنظام على حد سواء إحساساً بعدم الاطمئنان تجاه جميع القوى والشخصيات المعارضة.
ثالثاً: هيئة التنسيق الوطنية..تشكيلها، بنيتها، خطابها وأداؤها:
عندما تشكلت هيئة التنسيق الوطنية كانت الغاية إذاً هي وحدة المعارضة في الكلمة والفعل إزاء النظام الشرس، وقد بدأ العمل على تشكيلها، كما قلت، منذ الأيام الأولى للثورة في أواخر شهر مارس الماضي، وكان ذلك ينم عن حسابات واعية ودقيقة لمنع الوصول لهذه اللحظة من التشرذم، فهذه اللحظة متوقعة في ظل معرفتنا بتعدد الميول والتوجهات والذاتيات وحتى الأمراض السياسية التي نمت في ظل الاستبداد.
حاولت شخصياً تأجيل الإعلان عن تشكيل هيئة التنسيق الوطنية ثلاث مرات في الاجتماعات العامة التي عقدت، وقد نجحت في ذلك، وهو ما أزعج بعض الشخصيات والقوى، وكان هذا لمعرفتي بما يمكن أن يحدث في المستقبل، خاصة لجهة وجود قوتين متنازعتين على الشرعية وتتسببان بتشويش الحراك الشعبي برؤيتيهما وتصريحات الشخصيات المنضوية في كل منهما. وللأمانة ظلت في قلبي ما يشبه الـ “غصة” بسبب الفشل في جمع كل قوى المعارضة في إطار تنسيقي واحد، وهي اليوم تحولت إلى جرح في تاريخ المعارضة ومسيرة الثورة، وكانت لقاءاتي الشخصية مع الإعلام مربكة كلما أتت سيرة المعارضة ودورها، إذ يتنازعني موقفان، هل المطلوب التستر على الوضع المزري للمعارضة وإظهارها بمظهر الكتلة الواحدة المتوافقة ضد النظام؟ أم المطلوب نقدها ونشر أمراضها على الملأ في لحظة سياسية مفصلية؟.
لقد كانت رسالة الدعوة الموجهة خلال شهري آذار ونيسان من أجل تشكيل هيئة واحدة للمعارضة واضحة في مبررات وضرورات هذا التشكيل: قطع الطريق على السلوكيات والتصريحات الفردية غير المسؤولة، وضبط إيقاع حركة السوريين في الخارج التي أصيبت بحالة من الإسهال المستشري لعقد المؤتمرات والإعلان عن مبادرات جديدة، تطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، إيصال رسالة للخارج ودوله بوجود بديل مناسب مرحلياً ومؤقتاً (يقال أن خطورة ثورة بلا رأس تكمن في أنها يمكن أن تتحول بعد نجاحها إلى ثورة بألف رأس)، خاصة في ظل إدراكنا أن النظام سيمنع بكل طاقته تشكل تمثيل سياسي من صلب الحركة الشعبية الاحتجاجية، وسيسعى لتقطيع أوصال المدن ومنع السوريين من الاختلاط مع بعضهم، فضلاً عن أن هذا التشكيل سيلزمه بعض الوقت كي يصبح متيناً من الناحية السياسية والتنظيمية.
رغم ذلك وجدت هذه الدعوة من يعرقلها ويشكك بها. ورغم شعور الكثيرين في هيئة التنسيق الوطنية بالنجاح بعد الإعلان عنها إلا أنني كنت أشعر شخصياً بالفشل. ورغم أنني كنت أتوقع هذا الفشل (احتمالات النجاح بتشكيل هيئة واحدة للمعارضة كانت بالنسبة لي 10% في ذلك الوقت)، إلا أنني كنت أراهن على حاجة الجميع لبعضهم في لحظة سياسية مفصلية، واقتناع الجميع بضرورة أن تشكل المعارضة (رغم كل عيوبها وأمراضها) “الجسر المؤقت” بين الثورة والمستقبل.
هيئة التنسيق الوطنية قامت على فكرة الحد الأدنى:
هيئة التنسيق الوطنية ليست حزباً سياسياً، فقد تشكلت من 15 حزباً سياسياً وعدد كبير من الشخصيات المستقلة، وفيها آراء متباينة من الألف إلى الياء، وليس كل من يصرِّح باسمها يعبّر عن رأي الجميع، فالائتلافات السياسية تتكون استناداً للحدود الدنيا من التوافق بين مكوناتها.
لكن ما أقوله منذ زمن طويل، وما زلت مقتنعاً به، هو أن كافة التشكيلات السياسية الموجودة تستحق النقد والتجاوز وهي بالضرورة تشكيلات مؤقتة، والمستقبل سيأتي بالتأكيد بتشكيلات جديدة أقل أمراضاً وأكثر حيوية وأقرب إلى العصر وتعبر حقيقة عن هواجس الناس وأمنياتهم.
هيئة التنسيق والحوار مع النظام:
رغم كل ما قيل عن أن هيئة التنسيق هي هيئة للحوار وإنقاذ النظام من ورطته على حد تعبير البعض، فإنها لم تدخل في أي إطار حواري مع النظام حتى اللحظة، وقد جرت اتصالات من قبل النظام مع بعض شخصيات الهيئة في سورية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الثورة، والجميع كان يدرك أن النظام يريد اللعب على الوقت والخروج من أزمته، وكان هناك انسجام واضح في التعامل مع هذا الموضوع، وقد قمت شخصياً بتاريخ 13 نيسان بكتابة بيان باسم التجمع الوطني الديمقراطي تم فيه تحديد “برنامج النقاط الثمان لأجل إطلاق الحل السياسي في سورية”، وهذه النقاط هي: وقف القتل وسحب الجيش والأجهزة الأمنية، الإفراج عن جميع المعتقلين، وقف الحملة الإعلامية للنظام ضد المتظاهرين، ضمانات قانونية للتطبيق الفعلي لرفع قانون الطوارئ والأحكام العرفية، لجنة تحقيق مستقلة ونزيهة لتقديم كل المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين إلى محاكمات عادلة، السماح بدخول مختلف وسائل الإعلام ولجان حقوق الإنسان، ضمان حق التظاهر السلمي بموجب علم وخبر وحسب، الإعلان الرسمي عن البدء بالحل السياسي عبر الإقرار أولاً بإلغاء المادة الثامنة من الدستور والاعتراف القانوني بحق تبادل السلطة.
وعندما تشكلت هيئة التنسيق تم تبني هذه النقاط ذاتها من أجل أي محاولة لإطلاق حل سياسي في سورية، وكانت هذه النقاط هي المسائل الناظمة لعمل معظم الشخصيات والقوى السياسية في سورية، ومن الجدير بالذكر أن الجميع كان يدرك أن النظام غير قادر على تطبيق أي بند من هذه النقاط، وإن حاول فإنه يفتتح باب سقوطه. واليوم مبادرة جامعة الدول العربية التي يتفاعل ويتعاطى معها المجلس الوطني هي أقل من ذلك بكثير.
الخطاب السياسي والإعلامي للهيئة:
كان لدينا عدة أشكال من التصريحات والمواقف السياسية في الإعلام، وكل شخصية كانت تصرح بطريقة مختلفة عن الأخرى إزاء ما يحدث في سورية. لكن لا نستطيع أن ننكر أن بيانات هيئة التنسيق وتصريحات بعض شخصياتها كانت صادمة للرأي العام السوري في لحظات معينة.
وقد تجلى ذلك في طرح شعارات معينة أو في التعاطي غير المدروس مع شعارات بعينها:
– شعار “لا للتدخل الخارجي”:
أولاً، في الوقت الذي يرفع فيه المتظاهرون شعارات الحظر الجوي والحماية الدولية للمدنيين والمنطقة العازلة…..وغيرها، لا تفتأ الهيئة تكرِّر على لسان شخوصها تصريحات ضد التدخل الخارجي، حتى أصبح هذا الأمر الشغل الشاغل للهيئة والنقطة المركزية في خطابها، دون الانتباه إلى أنه يمكن التعبير عن هذا التوجه بتعابير أخرى لا تُظهِر الهيئة وكأنها تشحد الاعتراف بوطنيتها من قبل النظام الذي افتقد بأفعاله وسلوكياته كل الصفات الوطنية. وثانياً، هذا الأمر له علاقة بانتقاء اللحظة المناسبة لأي تصريح إعلامي وعدم وضع الهيئة في سياق من يطمئن النظام باستمرار حول مسألة التدخل الخارجي والسماح له في هذه اللحظة بالذات بتقسيم المعارضة إلى “شريفة” و”غير شريفة”. وثالثاً، إن كل الدلائل في الخارج تؤكد أنه ليس هناك نية باتجاه حدوث تدخل عسكري، وبالتالي يجب عدم الانجرار لتصبح لازمة “لا للتدخل الخارجي” هي الأساس في الخطاب السياسي، وبالتالي تمركز الخطاب السياسي حول أمر لا زال في عداد الوهم السياسي. ورابعاً، لم تتعب الهيئة نفسها في تقديم تصور تفصيلي للبدائل عن التدخل الخارجي باستثناء الحديث عن فكرة عامة حول الاعتماد على الذات، أي لم تقدِّم خطة مناسبة للشعب الذي يتعرض للقتل والاعتقال والتعذيب واجتياح المدن. وخامساً، لم تقم الهيئة بواجبها في تقديم شرح تفصيلي للرأي العام السوري حول المخاطر المترتبة على أي تدخل عسكري والآفاق المحتملة لسورية في ضوء ذلك.
وأخيراً، نستطيع القول إن الحقائق السياسية تبقى أقوى من الشعارات، والجميع مضطر للتعامل مع هذه الحقائق حتى لو لم يكن يرغبها أو يؤمن بها. بالتالي، فإن هيئة التنسيق الوطنية والقوى الأخرى مضطرون للتعامل مع المسائل المتعلقة بالتدخل الخارجي وتفاصيله فيما إذا أصبح هذا الأخير حقيقة واقعة، والأمر ذاته ينطبق على المجلس الوطني-وغيره- فيما لو بقي أمر التدخل الخارجي في عداد الوهم السياسي.
– شعار إسقاط النظام:
في الوقت الذي يرفع فيه المتظاهرون شعار إسقاط النظام، كانت بعض شخصيات هيئة التنسيق تكرِّر بأساليب وتعابير مختلفة أن إسقاط النظام ليس من أولوياتها.
لقد أصبح هذا الشعار مركزياً في الحراك الشعبي للسوريين، وينبغي أن يكون الشعار الأساسي للقوى السياسية خلال الفترة الانتقالية. بالطبع لست مع الغوغائية التي ينحو باتجاهها بعض المعارضين في الخارج، خاصة أولئك الذين استفاقوا مؤخراً وتحولوا بقدرة قادر إلى معارضين، أو أولئك الذين أوقفوا معارضتهم للنظام في لحظات معينة تحت حجج وذرائع مختلفة، أو أولئك الذين كانوا يدخلون في مساومات شخصية مع النظام لتسوية أوضاعهم، أو أولئك الذين يشتركون مع النظام في صفة الفساد…..لكن باعتقادي يمكن إنتاج خطاب سياسي يجمع بين ما يطرحه الناس في الشارع وما نعتقد أنه صحيح سياسياً في اللحظة الراهنة، وهذا يحتاج إلى الكثير من الدقة والتأني والبراعة السياسية.
فالخطاب السياسي والإعلامي لأي تشكيل سياسي ينبغي ألا يكون انعكاساً سطحياً ومباشراً للمزاج الشعبي (كخطاب بعض أعضاء المجلس الوطني السوري، والذي يرتكز إلى المزاودات الفارغة ويخلو من أية تعابير سياسية حقيقية)، لكن بالمقابل ينبغي ألا يكون الخطاب صادماً للمزاج الشعبي ومنفِّراً له (كخطاب عدد من شخصيات هيئة التنسيق) والذي أصبح بشكل أو بآخر يشكل طوق نجاة للنظام ومرتكزاً له في محاربة المعارضين السوريين في الخارج والمزاج الشعبي عموماً.
في أحايين كثيرة يكون الصمت ورفض اللقاء الإعلامي المعروض هو الموقف المطلوب إذا لم يكن المرء قادراً على طرح ما هو مناسب للحظة السياسية، وهذا ما لم ألمسه لدى عدد من شخصيات الهيئة التي كانت تقبل بأي لقاء إعلامي يعرض عليها، والأغرب أن المتحدثين في الهيئة غالباً ما يستخدمون تعبير “نحن في هيئة التنسيق الوطنية نرى….موقفنا هو كذا……..”.
– الروحية العامة للخطاب:
يضاف إلى ذلك أن بعض الشخصيات في الهيئة كانت تتحدث في الإعلام حول ما يحدث في سورية من قتل واعتقال وتعذيب بلهجة مخففة جداً، وكأن ذلك يحدث في سنغافورة أو جزر القمر، ولا يعنينا من قريب أو بعيد، حتى أصبحت معارضة هيئة التنسيق تسمى “المعارضة الناعمة” رغم الثمن الكبير الذي دفعه أعضاؤها في المعتقلات سابقاً. أيضاً هنا ليس المقصود التحول نحو معارضة غوغائية تشبيحية ليس لها من هم إلا الشتم والسب كسبيل لكسب ود المتظاهرين.
معارضة الداخل والخارج:
– هناك فهم وتعامل غير صحيحين في التعاطي مع وجود جزء من المعارضة، حديث أو قديم التكون، خارج سورية، ويجري التقليل من أهمية هذا الجزء بتكرار لازمة “نحن معارضة الداخل” في بيانات هيئة التنسيق، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنح الهيئة الحصانة والأولوية، وهو ما تجسد في الأشهر الأولى بالاستخفاف بكل النشاطات والفعاليات التي يقوم بها السوريون في الخارج، في الوقت الذي لم تتقدَّم فيه الهيئة فعلاً نحو ضرورة الإمساك بزمام المبادرة وعدم ترك مستقبل البلد ليحدِّده فقط السوريون المعارضون في الخارج، فالحركة البليدة للهيئة واستخفافها بما يحدث في الخارج سحب البساط من تحت أرجلها.
– لا يكفي القول بأن كل النشاطات التي تحدث من قبل السوريين في الخارج هي مجرد “زعبرة”، فهذه “الزعبرة” قد تكون حاسمة في تحديد مستقبل البلد. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جرى التعامل مع السوريين الموجودين في الخارج المنتمين لهيئة التنسيق الوطنية ذاتها على أنهم مجرد زينة مكملة لشخصيات الهيئة الموجودة في الداخل، دون مهمات واضحة وأدوار معترف بها أو يعتمد عليها.
لقاء استنبول والموقف من المجلس الوطني السوري:
لم يكن لقاء استنبول بتاريخ 28 أيلول في الحقيقة، إلا لقاء مكملاً لما جرى في الدوحة ما بين 5-8 أيلول، رغم محاولات البعض خارج سورية التبرؤ من لقاء الدوحة، فالقوى التي دعيت لاستنبول هي القوى ذاتها التي كانت مدعوة في الدوحة، والدعوة كانت رسمية من قبل “الإخوان المسلمين” و”مجموعة استنبول”، وقد تم تبليغ هيئة التنسيق بذلك قبل أسبوع واحد من اللقاء، ولم أكن شخصياً لأذهب لاستنبول لو كانت الدعوة شخصية. وبعد أن ظهر أن الهيئة لن تشارك رسمياً انسحبت من اللقاء رغم ما سببه لي ذلك من حرج شخصي، ورغم دعوات الجميع لي للمشاركة باسمي الشخصي.
في الحقيقة السبب الجوهري لغياب الهيئة عن لقاء استنبول هو انعقاده في استنبول، ولو انعقد في القاهرة لشاركت هيئة التنسيق، وكأن استنبول كانت بالنسبة للهيئة رجساً من عمل الشيطان.
لم يكن من الحكمة أبداً دخول بعض شخصيات الهيئة في معركة إعلامية مع المجلس الناشئ في استنبول، وقد كررت هذا الرأي مع كثيرين في الهيئة، بل ذكرت أيضاً في مرات عديدة إن موقفي من المجلس هو موقف مبارك له، رغم معرفتي بكل نواقصه وثغراته وعيوبه، وليس من الحكمة الدخول معه في معركة، خاصة وأن الشارع السوري كان ينتظر ذلك بفارغ الصبر، لكن لنتركه لعيوبه ونواقصه وآلياته فهي التي ستحكم عليه مستقبلاً، إذ إن تقديري السياسي لحظة الإعلان عن تشكيل المجلس كان يقول أن المجلس سيفقد الزخم والتأييد الذي أعطي له تدريجياً وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهرين.
آليات عمل أقرب إلى أداء “الدراويش”:
للأسف، لم تقم الهيئة أمام التطورات الحاصلة والموقع المحرج الذي وضعت فيه بتشكيل مطبخ مصغر لإعادة صياغة الخطاب السياسي والإعلامي ومعالجة النقاط السياسية المطروحة بشكل جدي، واكتفت بإعلان الرفض واللاءات استناداً لاعتبارات أيديولوجية أكثر منها سياسية.
كما لم تقم الهيئة بتثبيت آليات عمل جديدة وحديثة في بيئة متغيرة ومتسارعة باستمرار، بل تحولت تدريجياً إلى مجرد حزب سياسي تقليدي (رغم أنها مؤلفة أصلاً من مجموعة قوى وأحزاب سياسية ومستقلين)، وسارت في الاتجاه ذاته الذي سار فيه إعلان دمشق عندما تم اختزاله تدريجياً ليكون أداؤه السياسي والتنظيمي كأي حزب سياسي. من هنا جرى التعامل مع ممثلي الحراك الشعبي في هيئة التنسيق بوصفهم “زينة للهيئة”، وليس بوصفهم فاعلين ومقررين ومؤثرين في مسار عمل الهيئة ومجدِّدين لأساليب عملها وخطابها، إذ كان يمكن لهذا الحراك الشعبي أن يخرج الهيئة عن الطابع الحزبي التقليدي في العمل.
بالتالي لم يكن هناك أي معنى أو دور لتشكيل مجلس وطني خاص بهيئة التنسيق في لقاء “حلبون” طالما أن الهيئة ظلت تتعامل بالآليات الحزبية، وطالما أن الأحزاب في المآل هي التي تمتلك سلطة الإقرار. باعتقادي كان يمكن أن يكون الأمر مختلفاً لو تم النظر لهيئة التنسيق بوصفها هيئة فوق الأحزاب، وكانت قرارات مكتبها التنفيذي (المنتخب بالطبع من مجلس الهيئة الوطني وليس المشكل بآليات التمثيل الحزبي) فوق قرارات المكاتب السياسية للأحزاب المنضوية فيها، ولو كانت مرجعية هيئة التنسيق هي مجلسها الوطني أولاً وأخيراً وليس الأحزاب، ولو تم اتخاذ القرارات بالآليات الديمقراطية المعروفة (بعض القرارات من خلال آلية النصف + 1 وبعضها الآخر من خلال آلية أكثرية الثلثين) وليس عبر آلية التوافق الديمقراطي بين القوى السياسية التي أثبتت أنها آلية غير سوية ومعرقلة.
فالأساس في هذه اللحظة السياسية هو إفساح المجال للانتفاضة الشعبية لتعبِّر عن نفسها سياسياً وليس بروز أحزاب المعارضة التي سيعاد تشكيلها وصياغتها في ضوء إنجازات الانتفاضة، خاصة أن كل الأحزاب الموجودة اليوم مؤقتة، وسورية مقبلة بالضرورة على مرحلة يعاد فيها تشكيل الأحزاب ورسم اصطفافات سياسية جديدة.
رابعاً: المجلس الوطني..تشكيله وتركيبته..الخطاب والأداء:
مبادرات عديدة لتشكيل مجلس وطني:
منذ بداية الثورة كان هناك مبادرات عديدة طيبة من السوريين المقيمين خارج سورية لإقامة هيئات ومجالس وطنية، تضامناً مع أهلهم وإخوانهم، لكن المشكلة أن هذه المبادرات كانت تتم بمعزل عن بعضها في استنبول والقاهرة وبلغاريا والأردن وتونس وغيرها. وقد مرت لحظة كان يمكن أن يكون لدينا فيها عدة مجالس وطنية في الخارج، بينما قوى الداخل لم تقدم مبادرة جامعة …عملنا انصب في تلك اللحظة على فرملة المبادرات الجزئية ومحاولة إنتاج مبادرة واحدة يشارك فيها ويصنعها شباب الثورة والمعارضة في الداخل والخارج، لأن السوريين كانوا يتمنون وجود مرجعية واحدة تحترم التنوع والاختلاف وتقدم رؤية وبرنامج عمل لسورية المستقبل.
ومع إدراكنا أن السوريين بحاجة حقيقية إلى واجهة سياسية مؤقتة تعبر عنهم، فإننا كنا ندرك أنه مهما اخترعنا من مبادرات ومؤتمرات سوف تبقى ناقصة طالما لا يوجد إمكانية لانتخابات عامة، لكن رغم ذلك كان هناك إقرار عام بالحاجة لمبادرة تحقق أوسع توافق حولها من أجل تكوين هذا الإطار للمعارضة والثورة.
لا شك أن النوايا الكامنة وراء كل المبادرات التي حصلت هي نوايا إيجابية وتعبر عن مدى حاجة السوريين لذلك، كما تعبر عن ألمهم ورغبتهم في إنشاء جنين لبديل واضح المعالم للنظام القائم، لكن كنا أمام معضلة حقيقية تتمثل بأننا إن قبلنا بحق البعض خارج سورية بتشكيل مجلس ما، فإنه يتعين علينا القبول ديمقراطياً بأن تقوم أطراف وجهات أخرى بالإعلان عن مجالس جديدة وبأسماء أخرى، وسنكون بالتالي أمام وضع غير مقبول وسلبي في تأثيره على السوريين.
لذلك كانت المسألة هي إنضاج مبادرة مقنعة لكل الأطراف توقف حالة إسهال المبادرات والمجالس لصالح هيئة وطنية واحدة وببرنامج واضح لسورية المستقبل…وقد تأخرت المعارضة كثيراً في إنضاج هذه المبادرة وتستحق النقد حقاً بسبب تركها للثورة دون تمثيل أو أفق سياسي.
بعد سلسلة المؤتمرات والمبادرات التي حصلت تبلورت فكرة مجلس استنبول، إذ قام عدد من السوريين باختيار أنفسهم من المؤتمرات التي عقدت خارج سورية وفقاً لمصفوفات لها علاقة بالتكوين المديني والريفي والطائفي والسياسي في سورية، واختاروا منها 77 سورياً لتشكيل المجلس الوطني المرتقب، وكان ذلك بتاريخ 20 آب 2011، وكنت قد خرجت قبل هذا التاريخ بفترة 20 يوماً فقط خارج سورية لحضور ندوة فكرية سياسية في الدوحة، وقد تزامنت الرغبة بالإعلان عن هذا المجلس مع وجود سوريين من انتماءات مختلفة للإعلان عن مجالس وطنية في كل من الأردن وبلغاريا والقاهرة وتونس. اضطرني هذا الأمر للتواصل مع الجميع بهدف تأجيل المبادرات لحين نضوج مبادرة واحدة تجمع معارضي الداخل والخارج، وهذا جعلني أسافر لاستنبول للحوار مع أعضاء المجلس المزمع الإعلان عنه، وخلال ثلاثة أيام من الحوار الإيجابي وصلنا لتأجيل الإعلان عن هذا المجلس الوطني وكتابة بيان يفيد بأن هذا اللقاء هو خطوة في الطريق نحو المجلس الوطني، وأصر الزملاء وقتها بأن أكتب بنفسي هذا البيان.
في كل المحطات كانت القاعدة التي تنتظم سلوك المعارضة السورية بكافة قواها وتياراتها هي: “لا أحد مستعد للانضمام إلى أي أحد….ولا أحد مستعد للتجاوب مع مبادرة أحد….والكل يدعو الكل لمبادرته الخاصة”، وقد اكتشفت هذه القاعدة منذ زمن بعيد داخل سورية بحكم العراك السياسي داخل صفوف المعارضة، وكانت لنا محاولات كثيرة فاشلة في هذا الاطار، وللأسف هذه القاعدة هي التي سيطرت على عمل المعارضة منذ بدء الثورة، ولمعرفتي بهذه القاعدة قلت لشخصيات مجلس استنبول المنعقد بتاريخ 20 آب 2011 بأنكم إن أعلنتم الآن عن مجلسكم لن تجدوا من يتجاوب معها، لذلك انتظروا وتواصلوا مع البقية حتى تضمنوا المشاركة.
وتوصلنا في المآل لاتفاق مفاده تشكيل لجنة للإعداد لمجلس وطني، وقد كنت من ضمن هذه اللجنة وكانت مهمتي هي الاتصال بهيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق داخل سورية من أجل هذا الأمر، بالإضافة للتواصل مع السوريين الراغبين في القاهرة وتونس بالإعلان عن تشكيل مجلس وطني، وهكذا كان إذ سافرت من استنبول للقاهرة، وهناك كان أيضاً تجاوب السوريين إيجابياً، إذ التقت مساعيهم في القاهرة مع مساعي آخرين في تونس والقاهرة تحت اسم “المبادرة الوطنية” وتم الاتفاق على التأجيل.
بعد ذلك تواصلت مع هيئة التنسيق الوطنية وشخصيات من إعلان دمشق وشخصيات مستقلة لها دورها وبعض الناشطين من الشباب، وتمت دعوتهم للدوحة.
لقاء الدوحة-المحاولة الأكثر جدية:
كان مدهشاً لي حجم الأكاذيب التي أثيرت حول لقاء الدوحة، وللأسف لا زال البعض مستمراً في اختراع ما يحلو له حول اللقاء، ربما أملاً في كسب رضا طرف ما أو الفوز بمقعد ما في المجلس الوطني.
تناولت بعض هذه الأكاذيب، للأسف، الدكتور عزمي بشارة، دون أي مبرر يذكر، وفي حالة بائسة من الافتقار للحد الأدنى من الأخلاق، إذ بدلاً من توجيه الشكر للرجل على محاولته جمع أطراف المعارضة السورية (على الأقل لقاء الدوحة هو المبادرة الأولى لجمع معارضي الداخل، أي هيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق، مع معارضي الخارج ، أي مجلس استنبول، في لقاء واحد، وقبله لم يكن هناك تواصل يذكر بين الطرفين، فضلاً عن كونه اللقاء الذي أسس للقاء استنبول بتاريخ 28 أيلول الذي تمخض عنه تأسيس المجلس الوطني)، تم الذهاب نحو فتح معركة لا أخلاقية من طرف واحد ضد الدكتور عزمي بشارة، ونسوا سلوكه ومواقفه المعتادة في دعم ثورات الشعوب العربية.
بعض الترهات التي قذفها البعض تناولت الدكتور برهان غليون، كما تناولتني شخصياً. وذلك من باب أننا كنا نحاور الآخرين، من خلال انتمائنا لهيئة التنسيق الوطنية آنذاك، بهدف إقناعهم بمبادرة الجامعة العربية.
لو كنت مقتنعاً بجدوى هيئة التنسيق الوطنية لوحدها لما بادرت بدعوة بقية الأطراف للاجتماع معاً، وفي جميع الحوارات التي تمت لم يكن لقائي مع هذه الأطراف بصفتي عضواً في هيئة التنسيق آنذاك، بل كان بصفتي محاوراً يريد أن يعفي بلده من المأزق المتوقع في لحظة سياسية حاسمة بوجود عدة أصوات معارضة كلٌ منها يغرد في واد، والأمر ذاته بالنسبة للدكتور برهان غليون، والأهم أن المبادرة العربية لم تطرح للنقاش بالمطلق.
شهادتي فيما يخص لقاء الدوحة لا تأتي من شخص شارك في جميع جلسات اللقاء وحسب، بل أيضاً من شخص كان له دور رئيسي في التخطيط والإعداد لهذا اللقاء.
من المعروف أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره الدكتور عزمي بشارة قد دعا عدداً من الشخصيات الثقافية في سورية بتاريخ 29/7/2011 للمشاركة كمحاضرين في الندوة البحثية حول سورية، وقد كانت هذه الندوة ذات طابع بحثي لخبراء في الشأن السوري، وبالتالي لم تكن معنية أبداً بإصدار بيان أو موقف ما، بل هي محاولة من المركز لحث أصحاب الفكر على التفكير في الشأن السوري بهدوء.
أثناء هذه الندوة برزت الحاجة لمعرفة أوضاع المعارضة السورية وبحث شؤونها وشجونها، وقد قدمت للمركز اقتراحاً باستضافته لندوة سياسية تدعى إليها بعض الشخصيات السياسية المعارضة من داخل وخارج سورية، وقد أيَّد المركز هذه الفكرة ووعد بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت.
بعد ثلاثة أسابيع تقريباً جاءني رد رسمي من المركز بالموافقة على الندوة، وبتكليفي دعوة الشخصيات المعارضة المناسبة للمشاركة في هذه الندوة السياسية على ألا يزيد العدد عن 25 شخصية، وفعلاً بدأت التواصل مع القوى السياسية داخل وخارج سورية دون أي محاولة لإقصاء أي طرف، وكان عنوان هذه الندوة “لقاء تشاوري للمعارضة السورية”.
وقد حدّدت هذه القوى كالآتي: هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، الإخوان المسلمون، التيار الإسلامي المستقل، وجرى اعتماد عدد تقريبي هو 4-6 من كل اتجاه سياسي، بالإضافة لعدد محدود من الشخصيات المستقلة وعدد من الشباب الناشطين. بعض الشخصيات التي دعيت كان ممنوعاً من السفر وبعضها ليس لديه جواز سفر أصلاً، لكن في المآل حضرت شخصيات من القوى المختلفة، رغم أني ارتكبت خطأ غير مقصود في الدعوة لاعتقادي أن بعض الشخصيات التي جاءت من لقاء استنبول التشاوري تمثل حركة الإخوان المسلمين، وقد تبينا غير ذلك في الندوة.
ووضعت برنامج جلسات نقاشية للقاء تضمن الآتي: أوضاع المعارضة السياسية في سورية، الحراك الشعبي في سورية، التنسيقيات والشباب، خطة عمل المعارضة ورؤيتها للمستقبل والخطوات المطلوبة.
وكان المطلوب أن يحضر المدعوون بتاريخ 4 أيلول ليكون يوم 5 أيلول والفترة الصباحية من يوم 6 أيلول هما يوما عمل اللقاء التشاوري.
بدأ اللقاء التشاوري بكلمة ترحيبية من الدكتور عزمي بشارة، وبعدها أراد المغادرة، لكن معظم الحضور أصروا عليه كي يبقى ويحضر مستمعاً على الأقل، وهكذا كان رغم أنه لم يحضر جميع الجلسات.
أثناء الجلستين الأولى والثانية برزت الحاجة للانتقال سريعاً نحو الجانب العملي الخاص برؤية المعارضة وتوافقها ووحدتها، خاصة مع ضغط الشباب الحاضرين للقاء الذين رأوا أن وحدة المعارضة وتوافقها قد أصبح مطلباً شعبياً ملحاً.
وبعد جلسة نقاش تم التوافق على تكليف لجنة لصياغة بيان توافقي بين أطراف المعارضة الحاضرين في الدوحة، وشارك في اللجنة ممثلون عن جميع الأطراف السياسية، وبعد أن تمت صياغة البيان عرض للنقاش وكان هناك توافق عام في الرؤية، إذ أكد الجميع على إسقاط النظام ورفض الحوار والانحياز الكامل للثورة وتشكيل ائتلاف سياسي مفتوح لجميع القوى السياسية المعارضة وقيام هذا الائتلاف السياسي الأكبر في تاريخ سورية بالتحضير لعقد مجلس وطني تدعى إليه الشخصيات المستقلة والنشطاء وشباب الثورة وممثلين عن المؤتمرات التي عقدت والمبادرات التي أعلنت. لكن مجموعة استنبول عادت ورفضت الانضمام للائتلاف بعد التوافق على أفكاره السياسية، لأن هذه المجموعة أوضحت رغبتها بمجلس وطني لا ائتلاف سياسي، رغم أن الكلام الأخير لعدد من مجموعة استنبول كان هو الموافقة على الانضمام للائتلاف شريطة نسبة محددة من المقاعد في قيادة الائتلاف.
بعد ذلك سافر القادمون من دمشق من هيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق بتاريخ 7 أيلول على أن يكون هناك مصادقة من قبل هيئاتهم القيادية، وأن يتم الإعلان عن الائتلاف من قبلهم بتاريخ 11 أيلول، وبعد ذلك بأسبوع يتم الإعلان عن أسماء قيادة الائتلاف على أن تكون مؤلفة من 25 شخصاً، 16 داخل سورية و9 خارج سورية، وتم تكليف لجنة ثلاثية للمتابعة حتى ذلك التاريخ مؤلفة من 3 أشخاص هم: برهان غليون، حازم نهار، نبراس الفاضل، مهمتها التواصل مع الإخوان المسلمين وبحث مسألة انضمامهم للائتلاف ومتابعة أمور الائتلاف لحين الإعلان عن قيادته.
جاء وفد الإخوان المسلمين بتاريخ 8 أيلول، ولم يستغرق اللقاء معهم أكثر من ساعتين لإعلان موافقتهم على الانضمام للائتلاف.