بقلم: أنور مالك
عادت للواجهة بعثة المراقبين العرب لسوريا، مع قرار مجلس الأمن رقم 2042 القاضي بإرسال مراقبين دوليين، كما تصاعد حجم الجدل حول إمكانية نجاح البعثة الجديدة حيث أخفقت نظيرتها القديمة، كما تجلى بوضوح النقاش حول الأخطاء القاتلة لبعثة الفريق أول الركن مصطفى الدابي، التي رآها الكثيرون تتجدّد مع المبعوث الدولي العربي كوفي أنان.
لقد نجحت روسيا في جرّ المجتمع الدولي إلى شباك الرئيس السوري بشار الأسد، حيث تمكنت من إحياء بعثة المراقبين بثوب دولي بعدما راهنت على بعثة المراقبين في دثارها العربي، وهذا أكبر سقف يمكن أن تسمح به موسكو لأجل وقف عنف نظام دمشق ضد شعبه، وطبعا الأمر يتعلق بحسابات إقليمية واستقطاب دولي وجد فيه الدبّ الروسي ضالته لأجل ردّ الصاع صاعين لأطراف صنفها في خانة المهدّدين لمصالحه بالشرق الأوسط.
مما لا شكّ فيه أن تجربة المراقبة في سوريا هي الأولى من نوعها في تاريخ الجامعة العربية، والتي بدل أن تحفّز المسؤولين على إنجاحها سارت الأمور عكس ذلك وهو الذي عجّل بنهايتها بما فضح النظام السوري قبل الجامعة، حيث إن الحكومة مارست كل وسائل التضليل والترهيب والترغيب لجرف البعثة عن مسارها وجعلها مجرّد فرصة لخيارات أمنية مبيّتة مسبقا.
في حين أن مجلس الأمن له تجارب مراقبة سابقة بينها التي تكللت بالنجاح وأخرى باءت بالفشل، وقد بلغ حدّ التشاؤم ذروته الآن بسبب تجربة المراقبين العرب، فضلا عما ظهر من تباشير غير مشجعة، لما تقرر إرسال ثلاثين مراقبا وسيصل عددهم إلى 250 لاحقا، وهو غير طبيعي مطلقا، فقد كنا عشرين مراقبا في حمص وحدها ولم نتمكن من تغطية حيّ واحد، وبحكم التجربة فإن أقل تقدير هو عشرة آلاف مراقب ومن الصعب النجاح في سوريا.
مراقبون في الجحيم!
لمجلس الأمن مراقبون يفصلون بين القوات الهندية والباكستانية منذ 1948، بين الأتراك والقبارصة اليونانيين منذ 1964، بين المتمردين الماويين والقوات الحكومية في النيبال منذ 2006، ولكن لم يتم نشرهم إلا بعد توقيع اتفاقات رسمية لوقف نهائي لإطلاق النار، وهذا الذي لم يحدث في سوريا، حيث منذ الخميس 12 أبريل/نيسان، لا تزال العمليات العسكرية متواصلة ويسقط يوميا ضحايا بلغ عددهم الخمسين مثلا يوم الاثنين 16 أبريل/نيسان الجاري.
فإشكالية عدم وقف إطلاق النار هي نفسها التي واجهت مهمة البعثة العربية، حيث إنه في أول زيارة ميدانية بتاريخ 27 ديسمبر/كانون الأول 2011 نحو حمص، قد كنت برفقة الجنرال الدابي وبحضورنا تمّ قصف بابا عمرو بالمدفعية الثقيلة، ولم نفلح في السير بسبب نيران القناصة. طرحنا ذلك على محافظ حمص بعد انسحابنا الاضطراري، فأنكر ذلك جملة وتفصيلا واتهم الجيش الحر بتشويه صورة الحكومة، إلا أن الدابي اغتاظ من ذلك وأكّد له بحكم تجربته العسكرية الطويلة على أن الدبابات هي التي كانت تقصف من مسافة بعيدة. تكرر الأمر على مدار الفترة التي قضيناها في حمص، والأمر نفسه بالنسبة للمراقبين الآخرين في كل المناطق التي يوجدون فيها.
ومن هذا المنطلق نؤكّد أن عدم وقف إطلاق النار سيعجل بفشل مهمة المراقبين الدوليين، ولا أعتقد أن النظام السوري سيلتزم أمام مظاهرات عارمة ستثور تطالب بإسقاطه، ويكفي أنه لحدّ كتابة هذه الأسطر لا يزال القصف والعمليات العسكرية متواصلة.
ملاحظات على هامش بعثة المراقبين:
يجب استيفاء الدروس والعبر من تجربة المراقبين العرب، وخاصة أن هذه البعثة ستجد نفسها على الركح نفسه، وستواجه النظام نفسه الذي لم يلتزم بخطة الجامعة العربية بل زاد في الخروقات الحقوقية لدرجة لا يمكن تصورها، كما لا ولن يلتزم بخطّة أنان. ويمكن الإشارة لبعض النقاط بما يسمح به المقام:
1- حماية البعثة: تكفل النظام السوري بأمن المراقبين العرب، ولما نزلوا للميدان تفاجؤوا بمناطق تخرج عن نطاق سيطرة الحكومة، كما لا يمكن عدم زيارتها. من المستحيل مراقبة بند وقف العنف ضد المتظاهرين مثلا من دون الوقوف على التظاهرات وبينها ما تقام بأحياء محمية من قبل عناصر الجيش الحرّ. ولهذا فتحرك البعثة من دون حماية كان خروجا عن نص البروتوكول ولو حدث أي مكروه ما لزم الحكومة فيه شيء.
من هذا المنطلق نؤكّد أن جعل حماية بعثة المراقبين الدوليين من مهام الحكومة هو خطأ جسيم سيحدّ من مهام البعثة أو يجعلها بعثة مغامرة مثل التي سبقتها، فضلا عن الاختراق الذي تخشاه المعارضة. وهنا أرى أنه لا يمكن إنجاح المهمة إلا بحماية تكون من البعثة نفسها ومن دون ذلك فهو عبث حقيقي.
2- الأزمة الإنسانية: مما لا شكّ فيه أن الوضع الإنساني كارثي بسوريا، ومن دون فتح ممرات للإغاثة سيجد المراقبون الدوليون أنفسهم في مواجهة واقع لا يمكن تجاوزه، من المستحيل مطالبة الثوار بضبط النفس والهدوء وهم لا يجدون دواء لجرحاهم ولا حليبا لأطفالهم ولا غذاء لأهاليهم ولا ماء ولا كهرباء ولا غازا. وما يتوفرون عليه يأتي عن طريق التهريب المحفوف بالمخاطر، فقد تم قنص واعتقال الكثيرين أثناء ذلك.
لقد واجه المراقبون العرب هذا الوضع بمبادرات شخصية وافق عليها النظام بشروط تخدمه، فالبيوت مهدمة على رؤوس أصحابها وجثث لا يقدرون على دفنها وجرحى بالمئات في المشافي الميدانية بلا علاج، بالتأكيد إن الوضع الآن ازداد سوءا آلاف المرات على ما كان عليه أثناء البعثة العربية، جراء العمليات العسكرية العنيفة التي قام بها الجيش النظامي عقب سحب المراقبين. أيضا هناك أزمة اللاجئين والمهجرين والمعتقلين والمختطفين والمفقودين، وكل ذلك يطالب به الأهالي قبل طرح أي مبادرة لحل الأزمة في إطار سياسي.
3- بين التحقيق والتحقّق: أعقد ما واجه البعثة العربية هي قضية التحقّق من الخروقات التي تحدث سواء كانت قتلا أو قنصا أو عنفا أو اعتقالا أو قصفا، فقد كانت المهمة هي التحقق من التزام الحكومة بالخطة العربية، التي تتمثل في وقف كافة أعمال العنف، والإفراج عن المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر العسكرية، والسماح لوسائل الإعلام بالتنقل بحرية في جميع أنحاء البلاد.
ومراقبة هذه الأمور ميدانيا معقّدة إن لم تكن مستحيلة، فقد تواصل العنف في أوقات يكون فيها المراقبون بالفنادق، وبعدها يتم الإنكار من قبل الحكومة وتتهم أطرافا أخرى بافتعال ذلك. أيضا يتم إخفاء الدبابات والمظاهر المسلحة عن الأعين ويتمّ إطلاق النار من جهات أخرى تحول دون وصول المراقبين إليها.
بالنسبة للمعتقلين، جرى تحويل المتضررين من التعذيب إلى مراكز سرية، وآخرون بالثكنات والمصانع ليس من صلاحيات البعثة دخولها لأنها تدخل في دائرة السيادة وهي خطّ أحمر للنظام وروسيا والصين. كما أنه يتم إطلاق مساجين عشوائيا لا تتوفر البعثة على معلومات عنهم كما لا يمكنها التأكد من ذلك في ظل اتهامات بأنهم مساجين مزورين، وظلّت المعارضة تطالب بإطلاق معتقليها عبر قوائم تقدمها، تتجاهلها أو تنكرها الحكومة في غالب الأحيان. أيضا يجري قتل المواطنين من طرف قناصة، ممن لا يمكن معرفة هويتهم.
كل ذلك يفرض على أن تكون بعثة المراقبة لديها صلاحيات التحقيق لمعرفة الأمور، وليس مجرد التحقّق بتدوين ملاحظات عابرة لا تزيد الوضع إلا تعقيدا.
4- الإمكانيات: كانت بعثة المراقبين العرب تعاني من أزمة في الإمكانيات من وسائل النقل والسائقين والخرائط وأجهزة الاتصال والمكاتب ووسائل التوثيق، مما أوقعهم ضحايا الاختراق من المخابرات السورية، ومما لا شكّ فيه أن الأمر مع مجلس الأمن سيختلف مع الجامعة العربية، فترى هل سيتوفرون على من يعرف خبايا الوضع وجغرافية القرى والمدن أم أنهم سيعتمدون على جهات سورية قد أعدت مسبقا وتتكون من ضباط مخابرات ومقاتلين على أساس أنهم من السائقين والمعاونين والخدم في حين هم عسكريون؟ وكيف يمكن أيضا توفير الإقامة الآمنة من دون كاميرات سرية في الغرف بالفنادق؟
5- مواقع آمنة للناشطين والجيش الحرّ: لقد تعرّض الناشطون الذين تواصلوا مع بعثة المراقبين العرب إلى الانتقام، ودمّرت بيوت في أول العمليات الأخيرة كانت مركزا للالتقاء بعناصر الجيش الحرّ أو عقدت فيها اللجنة اجتماعات مع المعارضين بسبب اختراق المخابرات السورية للمراقبين سواء بالتجنيد أو الاستغلال. ولهذا لا بدّ من ضمانات دولية لحماية الناشطين والجيش الحرّ الذين سيلتزمون بالخطة في حال التزام النظام، وطبعا لا يتحقق ذلك أبدا إلا بتوفير مناطق آمنة محمية من الأمم المتحدة، ودون ذلك سيجد الجيش النظامي فرصته لتحقيق ضربات عسكرية وبحضور المراقبين الدوليين أنفسهم.
6- ضحايا الأزمة: في كل مكان تصله بعثة المراقبين العرب وحتى الدوليين الآن ستجد آلاف المواطنين الذين فقدوا ذويهم وممتلكاتهم ولا يقبلون بغير القصاص ومحاكمة الجناة، وأعتقد أن استجابة هؤلاء لأي حلّ سياسي خارج معاقبة النظام بعد تنحيته من سابع المستحيلات. بل إن الحوار السياسي هو أطروحة مرفوضة، وخاصة أن القانون الدولي في صف هؤلاء بعد جرائم الحرب التي وقعت. فماذا أعدت بعثة أنان من بدائل لهؤلاء؟
7- حيادية المراقبين: لقد كانت البعثة العربية خليطا من عدة أطروحات تتباين فيها مواقف الأنظمة، فكل فريق يتبع مباشرة لحكومته ويدافع عن خياراتها في الأزمة السورية، وتجلّى كثيرا في تقارير البعثة العربية لاحقا. وأعتقد أنه من الصعب تحقيق بعثة مستقلة والنظام السوري يتحفّظ على جنسيات معينة ومحددة، والحيادية ضرورية ودونها سيكون الفشل الذريع وخاصة أن الشعب اكتوى من مغامرات سابقة جاءت على حساب الحق والحقيقة.
إن الرهان على نجاح بعثة المراقبين الدوليين، هو رهان صعب للغاية وخاصة أنه لحدّ اللحظة لم نر أي فرق بين البعثتين سوى العنوان الرسمي، فقد كان العاصمة المصرية القاهرة وصار الآن نيويورك.
ولكن إضافة لما تقدّم، على البعثة أن تأخذ بعين الاعتبار أن الاحتقان الطائفي في تصاعد طردي مع العمليات العسكرية ضد المدنيين، وأنه توجد مليشيات مدنية مسلحة يطلق عليها “الشبيحة” لها دورها الفعال في العنف ضد المواطنين، يخرج تنظيمها وقيادتها عن الأطر التقليدية للجيش النظامي. كما أن التدخل الأجنبي لصالح النظام السوري قائم من إيران و”حزب الله” و”جيش المهدي” عن طريق تهريب السلاح والمقاتلين لدعم ما يرونه أقلية علوية تواجه أغلبية سنية حسب رؤية النظام السوري ومن يواليه، بالرغم من أن الثورة شعبية تصنع تطوراتها كل الطوائف.
كل ذلك ستقف أمامه بعثة المراقبة عاجزة ما دام القرار لم يأت في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مما يحرر النظام السوري من وجوب الالتزام به، والذي سيعمل آليا على ربح الوقت مرة أخرى، ما دامت لا توجد خيارات عملية واضحة سواء عبر مجلس الأمن أو حتى خارجه في ظل مخططات لتحويل القضية من أزمة داخلية لشعب ينشد الحرية إلى أزمة منطقة برمّتها اعتمادا على أسس طائفية وإستراتيجية تغذيها إيران وتدعمها موسكو وبكين وأنظمة عربية ودولية أخرى، سواء بالصمت المتواطئ أو التواطؤ الصامت.