بقلم: محمد بن المختار الشنقيطي
طال أمد الثورة السورية، وسالت فيها الدماء مدرارة..، فقد مضى عام كامل أظهر فيه النظام السوري بشاعة ودموية لا رادع لها من خلق أو قانون، وأظهر فيها الشباب السوري شجاعة لا نظير لها، وتصميما على القطيعة مع الماضي المعتم والحاضر الكئيب بأي ثمن. ولا تزال عوائق مركبة تحول بين الثورة السورية وبين تحقيق مبتغاها من التخلص من النظام الدموي في دمشق وبناء دولة الحرية والعدل.
ومع ذلك توجد ثغرة في الطريق المسدود أمام الثورة السورية، ومفتاح هذه الثغرة –على عكس ما يتراءى على السطح- هو بأيدي السوريين أنفسهم. فإن أجادوا استخدامه أنقذوا بلدهم من الخراب ومجتمعهم من التمزق، وإن قصروا في ذلك فلن يجدوا من الخارج أكثر من التوجع والتعاطف اللفظي، وهما أمران لا يغيران من الموازين الإستراتيجية شيئا.
تتركز استراتيجية الأسد داخليا على دعامات ثلاث:
الدعامة الأولى هياستنزاف الثورة بالتقسيط. فقد ركز آلته التدميرية التي لا ترحم على محافظةدرعا، ثم على مدينة حمص، وهو يوجهها اليوم إلى إدلب وحماة. وقد أعان بشاراعلى السير في هذا المنحى المستنزف للثورة تراخي الحواضر الكبرى السورية –خصوصا دمشق وحلب- في النزول للشارع.
فلا تزال الثورة السورية ثورة أطراف دون قلب قوي نابض. وتصفية الأطراف واحدا تلو الآخر أمر في متناول النظام. ولدى بشار سابقة تاريخية تشجعه على هذا المسار التقسيطي، وهي المذبحة التي ارتكبها أبوه في حماة عام 1982، تحت سمع وبصر الحواضر السورية الأخرى، وتحت سمع وبصر العالم.
أما الدعامة الثانية لإستراتيجية النظام الداخلية فهي تماسك النواة السياسية الحاكمة، فقد أظهرت النخبة السياسية المحيطة بالأسد جبنا وتخاذلا غريبا. فطيلة عام كامل من القمع الوحشي للشعب السوري، وحصد أرواح الآلاف من الشباب السوري، لم نجد شخصية سياسية كبيرة (باستثناء مساعد وزير النفط) تستقيل من النظام -على غرار الحالة الليبية- ولو على مستوى السفراء البعيدين عن يد النظام الباطشة. لكن الاستقالات والانشقاقات في الجيش السوري عوضت عن هذا التخاذل المشين لدى النخبة السياسية الحاكمة.
أما الدعامة الثالثة فهي السعي إلى تحويل الثورة من انتفاضة شعب ضد حاكم جائر، إلى فتنة مجتمعية طائفية. فقد انطلقت الثورة السورية ثورة شعب واحد موحَّد يسعى إلى الحرية والكرامة بكل مكوناته ولصالح كل مكوناته، وكان من شعاراتها -ولا يزال-: “الشعب السوري واحد”، وجعل الثوار اسم إحدى جُمُعاتهم بمرجعية مسيحية (الجمعة العظيمة)، وأخرى بمرجعية علوية (جمعة الشيخ صالح العلي)، واثنتان بمرجعية كردية (أزادي، والانتفاضة الكردية).
لكن نظام الأسد –ومن ورائه النظام الإيراني- مصرٌّ على تحويل الثورة إلى فتنة صماء عمياء، واقتتال داخلي بين السوريين، خصوصا بين السنة والعلويين. وهو يسعى جاهدا إلى إقناع العلويين بأن رحيله خطر وجودي عليهم، رغم أن عبرة التاريخ المعاصر تدل على أن الديمقراطية هي الدرع الحصينة التي تحمي الأقليات، وتحفظ لها حقها دون منَّة من الحاكم أو من الأغلبية، ومن الخير للعلويين ولغيرهم من الأقليات السورية أن يبنوا مستقبلهم على أساس صلب من المُواطنَة المتساوية، بدلا من بنائه على جرف هار من التحالف مع نظام يمقُته شعبه ويصر على رحيله.
فالخطر الحقيقي على أي أقلية هو أن يمتطيها نظام مفلس وهو يذبح شعبه، ثم يترك لها ميراثا ثقيلا من الثأر والضغينة في كل بيت. لكن الأسد مصر على حربه الطائفية من جانب واحد، حتى إنه لم يعد ينزل العسكريين السنة إلى الميدان خوفا من انشقاقهم عليه، بل جردهم من سلاحهم، وتركهم أسرى في ثكناتهم، كما تقول صحيفة لوفيغارو الفرنسية يوم 8/3/2012 ناقلة عن “مصدر سوري/فرنسي ذي ارتباطات أمنية” في سوريا.
وقد بينت الصحيفة أن الوحدات التي يغلب على صفها أبناء السنة لا تملك حتى الوقود لتشغيل مدرعاتها، ويتم التنصت على مكالمات الضباط السنة بحسب الصحيفة. وقد وكلت هذه المهمة إلى آصف شوكت، صهر بشار الأسد.
وما كان لإستراتيجية الأسد ذات الأبعاد الثلاثة السابقة أن تحميَه من غضبة شعبه لمدة عام كامل لولا وجود عوامل أخرى مساعدة، ومن أهم هذه العوامل:
أولا: اختلاف المعارضة السورية. فقد كان تشكيل المجلس الوطني إنجازا كبيرا للثورة السورية، وهو يوشك على الحصول على اعتراف رسمي عربي وغربي باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري. بيد أن المجلس لا يزال عاجزا عن بناء المصداقية الداخلية الكاملة التي تجلب الدعم الدولي.
وفي إعلان رئيس المجلس مؤخرا عن تشكيل مكتب عسكري دون أن ينسق ذلك مع الجيش السوري الحر –وهو ما أثار حفيظة قادة الجيش الحر الذي يدفع ضريبة الدم في الميدان مع شباب الثورة المتظاهرين- ما يشير إلى ضعف أداء المجلس الوطني، وعجزه عن استيعاب الحراك الداخلي السوري استيعابا كاملا، على نحو ما نجح فيه المجلس الوطني الليبي.
ثانيا: التحفظ التركي في لعب أي دور عملي جدِّي في نصرة الثورة السورية. فرغم أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تملك المكان والإمكان المناسبين لترجيح كفة الثوار عسكريا ولوجستيكياً، فإنها اكتفت ببلاغة الخطاب والتعاطف اللفظي والإنساني. وهذا أمر مشكور على أية حال، بيد أنه لا يغير من المعادلات الإستراتيجية شيئا.
ويبدو أن الهاجس الفرنسي متحكم في العقلية السياسية التركية، فقد حرم التوجس من فرنسا الأتراك من نصرة الثورة الليبية في وقت الحاجة، وهو يحول اليوم بينها وبين نصرة الشعب السوري قبل فوات الأوان. كما أن خوف القيادة التركية من إثارة حفيظة مواطنيها العلويين الذين يتركز بعضهم في مناطق الحدود مع سوريا ربما كان من أسباب تحفظها وترددها.
ثالثا: المظلة الدولية المناصرة أو المتخاذلة، فقد اختار الروس والصينيون -ببلادة- المشاغبة على أميركا والغرب بسفك الدم السوري، رغم إدراكهم أن نظام الأسد إلى زوال في نهاية المطاف. وقد حمت روسيا والصين الأسد حتى الآن من سيف القانون الدولي الإنساني، ووفرتا له السلاح الذي يقتل به شعبه كل يوم.
وفي مقابل التواطؤ الروسي الصيني، لا يزال الموقف الأميركي مطبوعا بالتردد في الدعم العسكري للثورة. فرغم أن أميركا نصرت الثورة السورية سياسيا ودبلوماسيا، فإنها لا تريد التعجيل بترجيح كفة الثوار السوريين عسكريا، على نحو ما تريد ذلك فرنسا وبعض الدول الأوروبية المهتمة باستقرار ضفاف المتوسط، بل تتحفظ حتى على سعي بعض الدول العربية لتسليح الثوار.
وللولايات المتحدة حسابات خاصة في ذلك، أهمها العامل الإسرائيلي، وفائدة الربط بين إيران ونظام الأسد. فالموقف الإيراني الفاضح في سوريا هو أهم زاد معنوي لإسرائيل وأميركا اليوم للتجييش ضد إيران، وكلما طال أمد الثورة السورية وأوغل الأسد في دمويته بتواطؤ إيراني ربحت هذه الورقة أكثر.
وفي هذه العوائق المتضافرة ليس أمام الثورة السورية إلا فتح ثغرة في إستراتيجية النظام الداخلية، تغيِّر الميزان الإستراتيجي لصالح الشعب الثائر، وتفرض منطقها على المؤثرين الخارجيين، سواء من كان منهم نصيرا أو متخاذلا أو مترددا. أما كيف يغير السوريون المعادلة الداخلية فيمكن ذلك من خلال أمرين اثنين:
أولهما: نزول سكان الحواضر الكبرى –خصوصا دمشق وحلب- إلى الشارع بكثافة وجرأة. فمسؤولية تعثر الثورة السورية تقع على عاتق السوريين من سكان هاتين المدينتين قبل غيرهم، فهم من رغبوا بأنفسهم عن بقية شعبهم الذي يدفع ضريبة الدم في حمص ودرعا وإدلب وريف دمشق وريف حلب وغيرها، وهم من يملكون العدد والإمكان لتغيير الميزان.
فلن تخرج الثورة السورية من الدوامة الدموية الحالية إلا إذا تحمل سكان دمشق وحلب مسؤوليتهم، وربؤوا بأنفسهم عن التفرج على المذابح في أطراف سوريا وأريافها. وليس من ريب أن نزول هاتين المدينتين بالملايين سيقلب المعادلة رأسا على عقب داخليا وخارجيا.
ففي الداخل سيرتبك النظام جراء الحشد الهادر في المدينتين، وتفشل إستراتيجية الأسد التقسيطية في إخماد الثورة: فهو إما أن يفهم قرب غرق السفينة ويسعى إلى النجاة بجلده على طريقة علي عبد الله صالح، وإما أن يكابر ويُنزل كل الجيش السوري بكل مكوناته الاجتماعية لقمع الشارع الثائر، وهو ما سيؤدي إلى انشقاقات كبرى تزلزل النظام في صميمه، بينما هو اليوم يعتمد على الكتائب الموالية له شخصيا وطائفيا بقيادة أخيه ماهر، ويحصر بقية الجيش في ثكناته خوفا من انشقاقه.
وفي الخارج، فإن تحرك سكان دمشق وحلب سيقنع القوى الإقليمية والدولية الداعمة للأسد (إيران وروسيا والصين) بأن المراهنة عليه أصبحت خاسرة، فتضطر هذه القوى إلى سحب دعمها صاغرة، فينكشف نظامه. كما سيدفع القوى الإقليمية والدولية الداعمة للثورة لفظيا وسياسيا إلى تجاوز ذلك إلى العمل الجدي لإسقاط الأسد، بعد أن ترى الثمرة اليانعة على أيدي السوريين.
ثانيهما: تحمل النخبة السياسية المحيطة بالأسد مسؤوليتها وتخليها عنه، بدءا بالسفراء وانتهاء بالوزراء وكبار رجال الدولة. وسيكون في ذلك دفعة معنوية وسياسية هائلة للثورة، وجذب كبير للدعم الخارجي للشعب الثائر. فقد كان للاستقالات المتتالية لأركان نظام القذافي -من وزراء وسفراء وغيرهم- أثر إيجابي جدا على الثورة الليبية، وقد شجعت تلك الاستقالات الدول العربية والغربية على نصرة الثورة الليبية.
فلا أحد يقف معدكتاتور مدحور تخلى عنه أقرب الناس إليه. ودعم الثورات ليس عملا خيريامحضا، بل هو موقف سياسي يخضع لمعايير عملية ومصلحية أكثر مما يخضع للمعاييرالأخلاقية والإنسانية. فالشعب الذي يعين نفسه، ويرجح الموازين الداخليةلصالحه يعينه الآخرون، مهما يكن ارتباطهم بالنظام الآفل. والشعب الذييتخاذل شطره عن نصرة الثورة، أو تتخاذل نخبته السياسية بأنانية عن مساندته،سيجد الآخرين أكثر خذلانا له.
لقد حسم المصريون أمرهم بنزول اثني عشر مليونا منهم إلى الشارع في يوم واحد، وحسم الليبيون أمرهم بتخلي العديد من رجال نخبتهم السياسية والعسكرية عن نظام القذافي، قبل أن تتدخل الدول العربية والأوربية لصالحهم..، والكم العددي الضارب وتخلي النخبة الحاكمة عن أسرة الأسد هما الضمان لخروج الثورة السورية من الواقع المتأرجح الحالي، ومن مخاطر الانجرار إلى فتنة اجتماعية لا يَدري فيها القاتلُ فيم قَتَل ولا المقتولُ فيم قُتِل.
فليس أمام السوريين -وأولهم سكان دمشق وحلب- إلا أن يقفوا وقفة رجل واحد ضد نظام الاستعباد. ويوم يتفجر قلب سوريا ثورةً، ويلحق بأطرافها التي تقطر دما اليوم، سيجد السوريون لهم نصيرا في كل مكان، حتى ممن هم اليوم حماة الأسد ورعاته. فمفتاح النجاح في الثورة السورية موجود في دمشق وحلب، لا في إسطنبول ونيويورك. ولن تخيب ثورة شعب آثر الحرية على الحياة.